الكولونيل شربل بركات
في سلسلة الملوك القدماء هناك ملكا دعي بالملك الجاحد... كان هذا منذ قرون طويلة. وكنا نعجب لهذا الأسم وكيف أن التاريخ حفظه لنا بدون عقد أو تجميل، ولكننا اليوم أصبحنا نرى الكثير من هؤلاء الجاحدين الذين لم يعرفوا أن يقنعوا بما أعطوا من قيمة، ولا أن يفهموا قدراتهم كما هي، ولا أن يعوا بأن عليهم شكر صاحب النعم لكي تدوم هذه النعم، وما من دائم إلا وجه الله...
الملك الجاحد حكم زمنا وتنكّر للفضل، على ما يبدو، فغلب على اسمه هذا الجحود، ولكن ماذا سيقال عن أئمتنا اليوم الذين يعتقدون بدون أدنى شك بأنهم هم المفضلون، وهم المغدقون، وهم الذين يجدر شكرهم... بماذا سيسمي التاريخ قاسم ونصرالله وقاووق وغيرهم من أئمة الضلال؟ فهؤلاء لم يدركوا بعد أن الأوطان لا تقام على الحقد، وأن الشعوب لا تساس بالسيوف وحدها، وأن الرعية لها على من يدّعي رعايتها حقوقا وليس واجبات فقط ... كيف سيذكر التاريخ من تنكّر للفضل ولم يقنع بأن أحدا ربما ساهم فيه؟...
يوم طرح باراك، وكان بعد أحد كبار الضباط في قيادة الجيش الإسرائيلي(1984)، مشروعه للخروج من لبنان بدون أن يأخذ بالحسبان الجانب اللبناني، هل كان يعتمد على جحود هؤلاء تجاه بلدهم ويعرف بأنهم إنما سيقلبون الطاولة ويمنعون قيامة الوطن؟ أم أنه وككل ضابط يعنى بالموضوع من الناحية العملية ويعرف يأن استراتيجية بلاده لا تقوم على احتلال الأرض والتدخل بأمور الشعوب - كما يدعي العرب منذ نحو وستين عاما- رأى بأن الانسحاب بدون عواطف سيؤدي لمنع التماس بين الإسرائيليين وجارهم الجديد الذي بدأ يعبّأ بطريقة لا تصلح للتفاهم مع الغير؟... ولكن وبالرغم من ذلك خاف القادة في إسرائيل، ربما، أن ينسب لهم هذا جحودا بالنسبة لجيرانهم أهل الجنوب فلم يأخذوا برأيه يومها...
ولكن باراك بعد أن أصبح هو نفسه في مركز القرار وصمم على تنفيذ مشروعه بالانسحاب، لم يأخذ بالحسبان جحود هؤلاء في التعامل بكل الاتجاهات، ومن ضمنها، مع من أطلق لهم اليد ليصبحوا الحاكم الفعلي لجنوب لبنان، والآمر الوحيد وبدون منازع لكل ما يدور فيه. نعم لم يعرف باراك، القائد العملي، بأنه بمحاولته تجنّب الانغماس في ما أسماه "الوحول اللبنانية"، إنما كان يحضّر لمشروع حروب جديدة ربما تكون أقسى على إسرائيل ولبنان، لا بل فقد طالت هذه "الوحول" دولا وقارات (من غزة إلى أفغانستان والعراق..) وأنتجت أفعالا وردود فعل (سبتمبر 11 في نيويورك، وقطارات مدريد ولندن، وأحداث شغب باريس...) لا نزال نعيش نتائجها وترسباتها ولا أحد يعلم متى وأين ستنتهي بعد...
لم يكن باراك وحده المخطئ في تقدير مفاعيل الجحود وإنما الكثيرين ممن تعاملوا مع الموضوع بخفة أو تسرّع، من ساترفيلد وتيري رود لارسن وكوفي عنان وحتى الرئيس شيراك الذي قبل أن يجلس نصر الله هذا في قمة الفرنكوفونية على الصف الأول بين كبار المدعوين، وكان ذلك بالتأكيد من تأثير صديقه المغفور له الرئيس الحريري الذي شرّع لهؤلاء التفرّد بالخروج على الدولة، ودافع عنهم في المحافل الدولية، وحاول دوما طمس وتمويه وإخفاء كل جوانب العهر والإرهاب التي تميزوا بها، فكانت أولى النتائج أن منعوا عنه بالقوة حرية التحرك في المشاريع العمرانية حول الضاحية، بعد أن كانوا ابتزوا كل أموال حكومته في عمليات التعويض في وسط بيروت وأوقعوها تحت العجز، ولم يكتفوا بذلك حتى كان خيارهم الأخير الموافقة على اغتياله والتغطية على الآمرين والتستر على المشاركين في التنفيذ لا بل منع محاكمتهم، وحتى إنشاء المحكمة التي قد تدينهم، ولماذا كل هذا التمادي في الغي؟ أهو يندرج فقط في التستر على الغير، أم أنه محاولة للتهرب من مسؤولية المشاركة المباشرة؟..
قصة الجحود هذه تطول وتطول فصولها، ولن نعود كثيرا إلى الوراء، ولن نكون أكثر خوفا على الطائفة الشيعية نفسها من السيد بري الذي عانى الأمرين منهم قديما وحديثا، فهم اغتالوا قادة حركة أمل واحدا تلو الآخر بمباركة حليفه السوري وتخطيط الحرس الثوري الإيراني، وسيطروا على هذه الطائفة التي كان ورث تمثيلها بعد المغفور له الإمام الصدر أولا ثم الإمام شمس الدين، وبعد أن كان، كأحد أمراء الحرب، ألغى كل تأثير للزعامات التقليدية فيها، وهو الآن يتربع على أعلى مناصبها ومنها يستمد دوره وسلطته، وفيها يرى طموحاته وأمانيه. ولكنه بدأ يحس بلسعتهم، لا بل بحصارهم له وتقليص مجال المناورة عنده، والذي كان أعطاه مدى عربيا ودوليا، ودورا لبنانيا أساسيا، خاصة بعد أن تربّع على سدة رئاسة المجلس للمرة الرابعة ليصبح اللبناني الوحيد الذي يستمر في نفس المقعد كل هذه المدة بعد الاستقلال، وقد كاد يجاري الأمير بشير الشهابي الكبير بطول عهده...
وماذا عن السيد جنبلاط الذي، وبالرغم من كل ما قام به لمساندتهم، وهو العالم بخطرهم، حتى تخليه عن جماعته في حاصبيا وقبوله بتركهم عنصر عدم استقرار، خارجين عن سلطة الدولة. فإذا بهم يطعنونه في الظهر عند أول إشارة، ويساهمون بتطويقه وتهديده. لم ينسى أحد بعد خروج جنبلاط للدفاع عنهم في المحافل الدولية بعد القرار 1559، من ثم جلوسه على نفس المنصة في بنت جبيل حيث هدد السيد بقطع الأيدي كعادته. وهو قبل بالقانون الذي يعطيهم حق السيطرة على أصوات الشيعة، وتحالف معهم، بالرغم من موقفهم المساند لسوريا في 8 آذار، وها هم بجحودهم المعهود، يهددونه بحياته ومنطقته وسلطته المحلية، بل يزرعون من حوله معالم ميدانية للتطويق والانقضاض ساعة يحين الوقت...
أما الجحود الأكبر فقد كان مع الرئيس السنيورة، الذي رفض قطعا الالتزام بالقرارات الدولية، وذهب أبعد من ذلك في الرفض بأن تبنى بيانه الوزاري "مقاومتهم" وسلاحهم ليحميه من القرارات التي تهدده، ثم قاد البلاد خلفهم في حرب الصيف العشوائية، وتحمّل كل نتائجها. ورفض، تحت ضغط القصف والدمار، المساومة عليهم في أي قرار دولي. وعندما ارتفعت عنهم الشدة، كان أول ما قاموا به لتثبيت مبدأ الجحود، أن انقضوا عليه في السرايا، ودفنوا حلم رفيق الحريري في وسط بيروت، وحولوها إلى معسكر متخلّف تفوح منه روائح شرورهم وانغلاقهم ورجعيتهم وحقدهم الأعمى...
فإلى أين سيذهب الجاحدون هؤلاء وأين سيختبئون من الآتي فقد ناءت البلاد بحملهم وضاقت الأرض بتعنتهم وسوف تلاحقهم دون شك لعنة السماء وتراب الأبرياء والمغرر بهم، وسوف يسقطهم التاريخ من حيث حاولوا أن يسجلوا لهم اسما فيه، وسيعرفون بدون شك بلقب "الجاحد" الذي يلبق لهم أكثر بكثير من ذلك الملك الذي نسينا جحده وكاد الناس أن يمحوا من ذاكرتهم هذه العبارة إلى أن جاءنا هؤلاء ليذكرونا بما هي عليه صفة الجحود تلك ولتكون أمثولة لكل الأجيال القادمة. ومن هنا نهيب بمن لا يزال مغشوشا بعض الشيء، وخاصة بالجنرال الذي لا بدأ يعاني من التصاقه بهم، ولكنه سيعاني أكثر بكثير يوم يصله الدور قريبا جدا ليجدد هؤلاء آخر حلقات جحدهم فيه...
في سلسلة الملوك القدماء هناك ملكا دعي بالملك الجاحد... كان هذا منذ قرون طويلة. وكنا نعجب لهذا الأسم وكيف أن التاريخ حفظه لنا بدون عقد أو تجميل، ولكننا اليوم أصبحنا نرى الكثير من هؤلاء الجاحدين الذين لم يعرفوا أن يقنعوا بما أعطوا من قيمة، ولا أن يفهموا قدراتهم كما هي، ولا أن يعوا بأن عليهم شكر صاحب النعم لكي تدوم هذه النعم، وما من دائم إلا وجه الله...
الملك الجاحد حكم زمنا وتنكّر للفضل، على ما يبدو، فغلب على اسمه هذا الجحود، ولكن ماذا سيقال عن أئمتنا اليوم الذين يعتقدون بدون أدنى شك بأنهم هم المفضلون، وهم المغدقون، وهم الذين يجدر شكرهم... بماذا سيسمي التاريخ قاسم ونصرالله وقاووق وغيرهم من أئمة الضلال؟ فهؤلاء لم يدركوا بعد أن الأوطان لا تقام على الحقد، وأن الشعوب لا تساس بالسيوف وحدها، وأن الرعية لها على من يدّعي رعايتها حقوقا وليس واجبات فقط ... كيف سيذكر التاريخ من تنكّر للفضل ولم يقنع بأن أحدا ربما ساهم فيه؟...
يوم طرح باراك، وكان بعد أحد كبار الضباط في قيادة الجيش الإسرائيلي(1984)، مشروعه للخروج من لبنان بدون أن يأخذ بالحسبان الجانب اللبناني، هل كان يعتمد على جحود هؤلاء تجاه بلدهم ويعرف بأنهم إنما سيقلبون الطاولة ويمنعون قيامة الوطن؟ أم أنه وككل ضابط يعنى بالموضوع من الناحية العملية ويعرف يأن استراتيجية بلاده لا تقوم على احتلال الأرض والتدخل بأمور الشعوب - كما يدعي العرب منذ نحو وستين عاما- رأى بأن الانسحاب بدون عواطف سيؤدي لمنع التماس بين الإسرائيليين وجارهم الجديد الذي بدأ يعبّأ بطريقة لا تصلح للتفاهم مع الغير؟... ولكن وبالرغم من ذلك خاف القادة في إسرائيل، ربما، أن ينسب لهم هذا جحودا بالنسبة لجيرانهم أهل الجنوب فلم يأخذوا برأيه يومها...
ولكن باراك بعد أن أصبح هو نفسه في مركز القرار وصمم على تنفيذ مشروعه بالانسحاب، لم يأخذ بالحسبان جحود هؤلاء في التعامل بكل الاتجاهات، ومن ضمنها، مع من أطلق لهم اليد ليصبحوا الحاكم الفعلي لجنوب لبنان، والآمر الوحيد وبدون منازع لكل ما يدور فيه. نعم لم يعرف باراك، القائد العملي، بأنه بمحاولته تجنّب الانغماس في ما أسماه "الوحول اللبنانية"، إنما كان يحضّر لمشروع حروب جديدة ربما تكون أقسى على إسرائيل ولبنان، لا بل فقد طالت هذه "الوحول" دولا وقارات (من غزة إلى أفغانستان والعراق..) وأنتجت أفعالا وردود فعل (سبتمبر 11 في نيويورك، وقطارات مدريد ولندن، وأحداث شغب باريس...) لا نزال نعيش نتائجها وترسباتها ولا أحد يعلم متى وأين ستنتهي بعد...
لم يكن باراك وحده المخطئ في تقدير مفاعيل الجحود وإنما الكثيرين ممن تعاملوا مع الموضوع بخفة أو تسرّع، من ساترفيلد وتيري رود لارسن وكوفي عنان وحتى الرئيس شيراك الذي قبل أن يجلس نصر الله هذا في قمة الفرنكوفونية على الصف الأول بين كبار المدعوين، وكان ذلك بالتأكيد من تأثير صديقه المغفور له الرئيس الحريري الذي شرّع لهؤلاء التفرّد بالخروج على الدولة، ودافع عنهم في المحافل الدولية، وحاول دوما طمس وتمويه وإخفاء كل جوانب العهر والإرهاب التي تميزوا بها، فكانت أولى النتائج أن منعوا عنه بالقوة حرية التحرك في المشاريع العمرانية حول الضاحية، بعد أن كانوا ابتزوا كل أموال حكومته في عمليات التعويض في وسط بيروت وأوقعوها تحت العجز، ولم يكتفوا بذلك حتى كان خيارهم الأخير الموافقة على اغتياله والتغطية على الآمرين والتستر على المشاركين في التنفيذ لا بل منع محاكمتهم، وحتى إنشاء المحكمة التي قد تدينهم، ولماذا كل هذا التمادي في الغي؟ أهو يندرج فقط في التستر على الغير، أم أنه محاولة للتهرب من مسؤولية المشاركة المباشرة؟..
قصة الجحود هذه تطول وتطول فصولها، ولن نعود كثيرا إلى الوراء، ولن نكون أكثر خوفا على الطائفة الشيعية نفسها من السيد بري الذي عانى الأمرين منهم قديما وحديثا، فهم اغتالوا قادة حركة أمل واحدا تلو الآخر بمباركة حليفه السوري وتخطيط الحرس الثوري الإيراني، وسيطروا على هذه الطائفة التي كان ورث تمثيلها بعد المغفور له الإمام الصدر أولا ثم الإمام شمس الدين، وبعد أن كان، كأحد أمراء الحرب، ألغى كل تأثير للزعامات التقليدية فيها، وهو الآن يتربع على أعلى مناصبها ومنها يستمد دوره وسلطته، وفيها يرى طموحاته وأمانيه. ولكنه بدأ يحس بلسعتهم، لا بل بحصارهم له وتقليص مجال المناورة عنده، والذي كان أعطاه مدى عربيا ودوليا، ودورا لبنانيا أساسيا، خاصة بعد أن تربّع على سدة رئاسة المجلس للمرة الرابعة ليصبح اللبناني الوحيد الذي يستمر في نفس المقعد كل هذه المدة بعد الاستقلال، وقد كاد يجاري الأمير بشير الشهابي الكبير بطول عهده...
وماذا عن السيد جنبلاط الذي، وبالرغم من كل ما قام به لمساندتهم، وهو العالم بخطرهم، حتى تخليه عن جماعته في حاصبيا وقبوله بتركهم عنصر عدم استقرار، خارجين عن سلطة الدولة. فإذا بهم يطعنونه في الظهر عند أول إشارة، ويساهمون بتطويقه وتهديده. لم ينسى أحد بعد خروج جنبلاط للدفاع عنهم في المحافل الدولية بعد القرار 1559، من ثم جلوسه على نفس المنصة في بنت جبيل حيث هدد السيد بقطع الأيدي كعادته. وهو قبل بالقانون الذي يعطيهم حق السيطرة على أصوات الشيعة، وتحالف معهم، بالرغم من موقفهم المساند لسوريا في 8 آذار، وها هم بجحودهم المعهود، يهددونه بحياته ومنطقته وسلطته المحلية، بل يزرعون من حوله معالم ميدانية للتطويق والانقضاض ساعة يحين الوقت...
أما الجحود الأكبر فقد كان مع الرئيس السنيورة، الذي رفض قطعا الالتزام بالقرارات الدولية، وذهب أبعد من ذلك في الرفض بأن تبنى بيانه الوزاري "مقاومتهم" وسلاحهم ليحميه من القرارات التي تهدده، ثم قاد البلاد خلفهم في حرب الصيف العشوائية، وتحمّل كل نتائجها. ورفض، تحت ضغط القصف والدمار، المساومة عليهم في أي قرار دولي. وعندما ارتفعت عنهم الشدة، كان أول ما قاموا به لتثبيت مبدأ الجحود، أن انقضوا عليه في السرايا، ودفنوا حلم رفيق الحريري في وسط بيروت، وحولوها إلى معسكر متخلّف تفوح منه روائح شرورهم وانغلاقهم ورجعيتهم وحقدهم الأعمى...
فإلى أين سيذهب الجاحدون هؤلاء وأين سيختبئون من الآتي فقد ناءت البلاد بحملهم وضاقت الأرض بتعنتهم وسوف تلاحقهم دون شك لعنة السماء وتراب الأبرياء والمغرر بهم، وسوف يسقطهم التاريخ من حيث حاولوا أن يسجلوا لهم اسما فيه، وسيعرفون بدون شك بلقب "الجاحد" الذي يلبق لهم أكثر بكثير من ذلك الملك الذي نسينا جحده وكاد الناس أن يمحوا من ذاكرتهم هذه العبارة إلى أن جاءنا هؤلاء ليذكرونا بما هي عليه صفة الجحود تلك ولتكون أمثولة لكل الأجيال القادمة. ومن هنا نهيب بمن لا يزال مغشوشا بعض الشيء، وخاصة بالجنرال الذي لا بدأ يعاني من التصاقه بهم، ولكنه سيعاني أكثر بكثير يوم يصله الدور قريبا جدا ليجدد هؤلاء آخر حلقات جحدهم فيه...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق