صبحي غندور
مظلومةٌ هي "الليبرالية" في المنطقة العربية، تماماً كما هي التسميات العقائدية والسياسية الأخرى. فكثيرٌ من الذين ينشطون الآن في بلاد العرب باسم "الليبراليين" هم يجسّدون في واقع الحال نهج وسياسة من كانوا يُعرَفون في الولايات المتحدة باسم "المحافظين الجدد" وليس نهج أو سياسة "الليبراليين" الأميركيين.
التيّار "الليبرالي" الآن في أميركا (كان السناتور الراحل إدوارد كندي أحد أبرز رموزه) هو تيّار رافض لسياسة الهيمنة الأميركية وللتدخّل في شؤون الدول الأخرى ولحروب الإدارات السابقة في العالم، وهو التيّار الرافض لاستمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان، وهو التيّار الرافض للتمييز بين الناس على أساس الدين أو العرق أو اللون.
أيضاً، هو تيّار يدعو في أميركا للعدالة الاجتماعية ولإنصاف الفقراء والمهاجرين الجدد ولصيانة الحقوق المدنية للأفراد والجماعات المؤلّفة للمجتمع الأميركي، كما أن رموزاً في هذا التيار تناهض الإحتلال الإسرائيلي.
صحيحٌ أنّ نشأة "الليبرالية" ارتبطت بالنظام الرأسمالي، وبسوق "الاقتصاد الحر"، وبالتاريخ الأوروبي الاستعماري، وبالدعوة للتحرّر من كلّ القيود والضوابط التي كانت تفرضها الحكومات أو المؤسسات الدينية على حركة الأفراد ومعتقداتهم وأعمالهم، لكن هذه "المدرسة الليبرالية" تطوّرت وتغيّرت مع تطوّر العالم والمجتمعات، ومع المتغيّرات التي طرأت على العقائد الأخرى التي كانت تواجه "الليبرالية".
ولا أريد في هذا المقال، المحدود بعدد كلماته، أن أتعامل الآن مع الفكر الليبرالي عموماً، وما فيه من سلبيات وإيجابيات، وما عليه الكثير من الانتقادات في الجانبين الديني والسياسي، لكن ما أريده هو التوقّف عند نموذج من "المدرسة الليبرالية" العربية وهو الدكتور سعد الدين إبراهيم، أستاذ علم الاجتماع ومؤسّس مركز ابن خلدون في القاهرة، والذي استضافه مؤخّراً "مركز الحوار العربي" في واشنطن للحديث عن "الديمقراطية وتجارب النظم الشمولية".
فقد كان ملفتاً للانتباه أنّ محاضرة الدكتور سعد الدين إبراهيم تعاملت مع المسألة الديمقراطية، فقط في المجتمعات العربية التي شهدت حالات من الانقلابات العسكرية، مع تركيز شديد على التجربة الناصرية عام 1952 وكأنّها كانت بداية الانهيار لمصر وللأمّة العربية، بل وكأنّها حالة مستمرّة حتى الآن رغم مضيّ حوالي 40 سنة على وفاة جمال عبد الناصر، ورغم الانقلاب الجذري الذي حدث في السياسة المصرية أيام الرئيس أنور السادات، واستمرّ بعده.
أيضاً، لم يُشِر الدكتور إبراهيم في حديثه بمركز الحوار إلى قضية المعاهدة المصرية مع إسرائيل أو إلى الآثار السلبية التي تركتها المعاهدة على أوضاع مصر الداخلية وعلى سياستها الخارجية، وعلى دورها العربي، ممّا دفعني إلى انتقاد ذلك بالندوة، وإلى التمنّي عليه (الدكتور سعد الدين) أن يخصّص إضافةً إلى جهده المعروف من أجل الديمقراطية، جهداً بشأن مخاطر المعاهدة مع إسرائيل حيث لا تنفصل مسألة الديمقراطية الداخلية عن التحرّر الوطني المطلوب في كلِّ بلدٍ عربي، وعن دور مصر القومي الغائب الآن بسبب المعاهدة مع إسرائيل.
فالمشكلة الأبرز لدى دعاة "الديمقراطية فقط" في البلدان العربية أنّهم يفصلون هذا الشعار المهم عن قضيتيْ التحرّر الوطني والهويّة القومية، وبهذا تصبح الدعوة للديمقراطية "فقط" عذراً من أجل التدخّل الأجنبي واستباحة الدول كما حدث مثلاً في تجربة الاحتلال الأميركي للعراق.
والغريب في الأمر، أنّ الدكتور سعد الدين إبراهيم تعمّد في بداية محاضرته أن يصف المرحلة، التي سبقت عقد الخمسينات من القرن الماضي، بالفترة التنويرية دون إشارةٍ أيضاً إلى ما كانت عليه مصر والبلاد العربية من هيمنة بريطانية وفرنسية وحكومات معظمها صنيعة الحقبة الاستعمارية، وفيها قمّة الفساد السياسي والاجتماعي وحكم الاقطاع والاستغلال.
إنّ جماعة "المحافظين الجدد" أيام إدارة بوش كانت تؤكّد على المسألة الديمقراطية في البلاد العربية بينما هي تمارس الاحتلال في العراق وتدعم سياسة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتتضامن مع العدوان الإسرائيلي على لبنان.
كانت "إدارة بوش غير الليبرالية" تقف مع عملية الديمقراطية في العراق وفلسطين ولبنان، لكنّها تعادي القائمين على عمليات المقاومة ضدَّ الاحتلال في هذه البلدان. كذلك الأمر في مسألة الهوية العربية لهذه الأوطان حيث كان طرح الديمقراطية منعزلاً عن الهويّة العربية بل أحياناً في المواجهة معها سعياً لاستبدالها في "هويات" طائفية أو أثنية ممّا لا يُضعف فقط الهوية العربية بل أيضاً الهوية الوطنية الواحدة، كما هو الحال في "النموذجين" العراقي واللبناني للطروحات الديمقراطية.
ولم نلمس في تلك الحقبة أي تناقض في الممارسات أو الشعارات بين العرب "الديمقراطيين فقط" المحسوبين على "الليبرالية"، وبين عتاة "المحافظين الجدد" في واشنطن!!.
فصحيحٌ أنّ الديمقراطية هي حاجة ملحّة وضرورية لمعالجة الكثير من الأمراض الكامنة في الجسم العربي، لكنّها (أي الديقراطية) ليست مسألة منعزلة عمّا تعيشه أيضاً البلاد العربية من قضايا أخرى ترتبط بالتحرّر الوطني وبالعدالة الاجتماعية وبالوحدة الوطنية وبالهويّة العربية.
إنّ التعامل مع المسألة الديمقراطية في المنطقة العربية لا ينفصل عن تحديات الوجود الإسرائيلي والقوى الأجنبية الكبرى وما لها من أطماع أمنية وسياسية وإقتصادية، يستلزم تحقيقها إشعال الصراعات داخل وبين بلدان الأمة العربية.
إن "الديمقراطية" و"العدالة الاجتماعية" هما أساس لبناء المجتمعات من الداخل حينما يكون هذا الداخل متحرّراً من سيطرة الخارج. لكن عندما يخضع شعب ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإن مفاهيم ووسائل تطبيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية، ستكون فقط بما يتناسب مع مصالح المحتلِّ أو المسيطر، لا بما يؤدّي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر.
في الأمَّة العربية مزيج مركّب من الأزمات يحتاج إلى مزيج أيضاً من الحلول. فبناء آليات ديمقراطية وانتخابات نزيهة لا يحقّق وحده فقط العدل السياسي والاجتماعي بين الناس، أو يصون وحدة المجتمعات، أو يمنع التدخّل الأجنبي، أو يحرّر الأوطان المحتلّة .. وهي كلّها حالات تعيشها أوطان عربية مختلفة من العراق إلى موريتانيا، مروراً بلبنان وفلسطين واليمن والسودان والصومال ..
الأمّة العربية تحتاج إلى مشروع فكري نهضوي متكامل يقوم على التلازم والترابط بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والعروبة والعدل الاجتماعي. وبتوفّر هذا المشروع، والمؤسسات والأفراد العاملين من أجله، يمكن بناء مستقبل أفضل للأوطان وللشعوب معاً. فالمشكلة ليست بتجارب النظم "الشمولية" فقط، وإنّما هي أيضاً بالأفكار والتجارب "الاجتزائية" التي تُجزِّئ الحلول المنشودة لأمَّةٍ جزّأها المستعمر الأجنبي منذ قرنٍ من الزمن، ويحاول ورثته الآن تجزئة المجزّأ !
فرفض الحكومات والنظم الشمولية يتطلّب الآن عربياً أفكاراً وحلولاً شمولية.
مظلومةٌ هي "الليبرالية" في المنطقة العربية، تماماً كما هي التسميات العقائدية والسياسية الأخرى. فكثيرٌ من الذين ينشطون الآن في بلاد العرب باسم "الليبراليين" هم يجسّدون في واقع الحال نهج وسياسة من كانوا يُعرَفون في الولايات المتحدة باسم "المحافظين الجدد" وليس نهج أو سياسة "الليبراليين" الأميركيين.
التيّار "الليبرالي" الآن في أميركا (كان السناتور الراحل إدوارد كندي أحد أبرز رموزه) هو تيّار رافض لسياسة الهيمنة الأميركية وللتدخّل في شؤون الدول الأخرى ولحروب الإدارات السابقة في العالم، وهو التيّار الرافض لاستمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق وأفغانستان، وهو التيّار الرافض للتمييز بين الناس على أساس الدين أو العرق أو اللون.
أيضاً، هو تيّار يدعو في أميركا للعدالة الاجتماعية ولإنصاف الفقراء والمهاجرين الجدد ولصيانة الحقوق المدنية للأفراد والجماعات المؤلّفة للمجتمع الأميركي، كما أن رموزاً في هذا التيار تناهض الإحتلال الإسرائيلي.
صحيحٌ أنّ نشأة "الليبرالية" ارتبطت بالنظام الرأسمالي، وبسوق "الاقتصاد الحر"، وبالتاريخ الأوروبي الاستعماري، وبالدعوة للتحرّر من كلّ القيود والضوابط التي كانت تفرضها الحكومات أو المؤسسات الدينية على حركة الأفراد ومعتقداتهم وأعمالهم، لكن هذه "المدرسة الليبرالية" تطوّرت وتغيّرت مع تطوّر العالم والمجتمعات، ومع المتغيّرات التي طرأت على العقائد الأخرى التي كانت تواجه "الليبرالية".
ولا أريد في هذا المقال، المحدود بعدد كلماته، أن أتعامل الآن مع الفكر الليبرالي عموماً، وما فيه من سلبيات وإيجابيات، وما عليه الكثير من الانتقادات في الجانبين الديني والسياسي، لكن ما أريده هو التوقّف عند نموذج من "المدرسة الليبرالية" العربية وهو الدكتور سعد الدين إبراهيم، أستاذ علم الاجتماع ومؤسّس مركز ابن خلدون في القاهرة، والذي استضافه مؤخّراً "مركز الحوار العربي" في واشنطن للحديث عن "الديمقراطية وتجارب النظم الشمولية".
فقد كان ملفتاً للانتباه أنّ محاضرة الدكتور سعد الدين إبراهيم تعاملت مع المسألة الديمقراطية، فقط في المجتمعات العربية التي شهدت حالات من الانقلابات العسكرية، مع تركيز شديد على التجربة الناصرية عام 1952 وكأنّها كانت بداية الانهيار لمصر وللأمّة العربية، بل وكأنّها حالة مستمرّة حتى الآن رغم مضيّ حوالي 40 سنة على وفاة جمال عبد الناصر، ورغم الانقلاب الجذري الذي حدث في السياسة المصرية أيام الرئيس أنور السادات، واستمرّ بعده.
أيضاً، لم يُشِر الدكتور إبراهيم في حديثه بمركز الحوار إلى قضية المعاهدة المصرية مع إسرائيل أو إلى الآثار السلبية التي تركتها المعاهدة على أوضاع مصر الداخلية وعلى سياستها الخارجية، وعلى دورها العربي، ممّا دفعني إلى انتقاد ذلك بالندوة، وإلى التمنّي عليه (الدكتور سعد الدين) أن يخصّص إضافةً إلى جهده المعروف من أجل الديمقراطية، جهداً بشأن مخاطر المعاهدة مع إسرائيل حيث لا تنفصل مسألة الديمقراطية الداخلية عن التحرّر الوطني المطلوب في كلِّ بلدٍ عربي، وعن دور مصر القومي الغائب الآن بسبب المعاهدة مع إسرائيل.
فالمشكلة الأبرز لدى دعاة "الديمقراطية فقط" في البلدان العربية أنّهم يفصلون هذا الشعار المهم عن قضيتيْ التحرّر الوطني والهويّة القومية، وبهذا تصبح الدعوة للديمقراطية "فقط" عذراً من أجل التدخّل الأجنبي واستباحة الدول كما حدث مثلاً في تجربة الاحتلال الأميركي للعراق.
والغريب في الأمر، أنّ الدكتور سعد الدين إبراهيم تعمّد في بداية محاضرته أن يصف المرحلة، التي سبقت عقد الخمسينات من القرن الماضي، بالفترة التنويرية دون إشارةٍ أيضاً إلى ما كانت عليه مصر والبلاد العربية من هيمنة بريطانية وفرنسية وحكومات معظمها صنيعة الحقبة الاستعمارية، وفيها قمّة الفساد السياسي والاجتماعي وحكم الاقطاع والاستغلال.
إنّ جماعة "المحافظين الجدد" أيام إدارة بوش كانت تؤكّد على المسألة الديمقراطية في البلاد العربية بينما هي تمارس الاحتلال في العراق وتدعم سياسة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وتتضامن مع العدوان الإسرائيلي على لبنان.
كانت "إدارة بوش غير الليبرالية" تقف مع عملية الديمقراطية في العراق وفلسطين ولبنان، لكنّها تعادي القائمين على عمليات المقاومة ضدَّ الاحتلال في هذه البلدان. كذلك الأمر في مسألة الهوية العربية لهذه الأوطان حيث كان طرح الديمقراطية منعزلاً عن الهويّة العربية بل أحياناً في المواجهة معها سعياً لاستبدالها في "هويات" طائفية أو أثنية ممّا لا يُضعف فقط الهوية العربية بل أيضاً الهوية الوطنية الواحدة، كما هو الحال في "النموذجين" العراقي واللبناني للطروحات الديمقراطية.
ولم نلمس في تلك الحقبة أي تناقض في الممارسات أو الشعارات بين العرب "الديمقراطيين فقط" المحسوبين على "الليبرالية"، وبين عتاة "المحافظين الجدد" في واشنطن!!.
فصحيحٌ أنّ الديمقراطية هي حاجة ملحّة وضرورية لمعالجة الكثير من الأمراض الكامنة في الجسم العربي، لكنّها (أي الديقراطية) ليست مسألة منعزلة عمّا تعيشه أيضاً البلاد العربية من قضايا أخرى ترتبط بالتحرّر الوطني وبالعدالة الاجتماعية وبالوحدة الوطنية وبالهويّة العربية.
إنّ التعامل مع المسألة الديمقراطية في المنطقة العربية لا ينفصل عن تحديات الوجود الإسرائيلي والقوى الأجنبية الكبرى وما لها من أطماع أمنية وسياسية وإقتصادية، يستلزم تحقيقها إشعال الصراعات داخل وبين بلدان الأمة العربية.
إن "الديمقراطية" و"العدالة الاجتماعية" هما أساس لبناء المجتمعات من الداخل حينما يكون هذا الداخل متحرّراً من سيطرة الخارج. لكن عندما يخضع شعب ما للاحتلال أو للسيطرة الخارجية، فإن مفاهيم ووسائل تطبيق الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية، ستكون فقط بما يتناسب مع مصالح المحتلِّ أو المسيطر، لا بما يؤدّي إلى التحرّر منه أو من نفوذه المباشر.
في الأمَّة العربية مزيج مركّب من الأزمات يحتاج إلى مزيج أيضاً من الحلول. فبناء آليات ديمقراطية وانتخابات نزيهة لا يحقّق وحده فقط العدل السياسي والاجتماعي بين الناس، أو يصون وحدة المجتمعات، أو يمنع التدخّل الأجنبي، أو يحرّر الأوطان المحتلّة .. وهي كلّها حالات تعيشها أوطان عربية مختلفة من العراق إلى موريتانيا، مروراً بلبنان وفلسطين واليمن والسودان والصومال ..
الأمّة العربية تحتاج إلى مشروع فكري نهضوي متكامل يقوم على التلازم والترابط بين شعارات الديمقراطية والتحرّر الوطني والعروبة والعدل الاجتماعي. وبتوفّر هذا المشروع، والمؤسسات والأفراد العاملين من أجله، يمكن بناء مستقبل أفضل للأوطان وللشعوب معاً. فالمشكلة ليست بتجارب النظم "الشمولية" فقط، وإنّما هي أيضاً بالأفكار والتجارب "الاجتزائية" التي تُجزِّئ الحلول المنشودة لأمَّةٍ جزّأها المستعمر الأجنبي منذ قرنٍ من الزمن، ويحاول ورثته الآن تجزئة المجزّأ !
فرفض الحكومات والنظم الشمولية يتطلّب الآن عربياً أفكاراً وحلولاً شمولية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق