صبحي غندور
مرّة جديدة تكرّر إسرائيل خطأها التاريخي في محاولة تصفية ظاهرة المقاومة ضدّ احتلالها الغاشم عوضاً عن إنهاء الاحتلال نفسه .. ومرّة جديدة أيضاً تقف إدارة بوش مع إسرائيل وخلفها في هذه السياسة المخالفة لكلّ الشرائع والقوانين الدولية التي تُقرّ حقّ الشعوب بمقاومة المحتلّ لها.
لكن المشكلة في هذه السياسة الإسرائيلية/الأميركية المشتركة ليست في جهل دروس التاريخ وحقائق الشرائع الدولية بل هي في استمرار المراهنة على القائم عربياً وفلسطينياً من صراعات وانقسامات من جهة، ومن خنوع رسمي عربي وفلسطيني لما يأمر به حاكم البيت الأبيض من جهة أخرى.
إذ هل كان ممكناً أن تقوم إسرائيل بهذا الحجم الكبير من القتل والتدمير في قطاع غزّة (كما فعلت سابقاً عام 2006 في لبنان) لو لم تكن هناك موافقات ضمنية عربية وفلسطينية على إنهاء ظاهرة المقاومة الفلسطينية المسلّحة ضدّ إسرائيل؟
فلو كان بحسبان إسرائيل أنّ عدوانها على قطاع غزّة سيؤدّي مثلاً إلى تعديل في موقف قيادة السلطة الفلسطينية وإلى إعلان هذه السلطة عودتها إلى نهج المقاومة ضدّ الاحتلال، هل كان لإسرائيل أن تقوم بمغامرتها العسكرية؟!
لو كانت إسرائيل تحسب أيضاً أنّ عدوانها هذا سيدفع بمصر والأردن والدول العربية والإسلامية الأخرى التي تقيم علاقات مع إسرائيل إلى قطع هذه العلاقات وإلى وقف كل أشكال التطبيع معها، هل كانت (إسرائيل) لتتحمّل هذه الخسارة السياسية والاقتصادية الكبرى مقابل عدوانها؟!
لو كانت إدارة بوش تفترض هذه الاحتمالات أيضاً، وما لها من تأثير على المصالح الأميركية في المنطقة، ومن نتائج سلبية أيضاً على العلاقات العربية مع واشنطن، هل كان لهذه الإدارة أن تعطي الضوء الأخضر لهذا العدوان وتدعمه؟!
إنّ الحرب الإسرائيلية القائمة على غزّة هي حرب متعدّدة الأهداف ومتشابكة المصالح مع أطراف دولية وإقليمية. ولهذه الحرب مستويات ثلاث من الأهداف:
أهداف قريبة المدى، وهي تتلخّص بإضعاف حركة "حماس" عسكرياً وسياسياً وقتل أكبر عدد ممكن من قيادييها، كتمهيد لمد سلطة حكومة "أبو مازن" لقطاع غزّة، كما هي ترمي إلى إضعاف التأثير السوري والإيراني في الملف الفلسطيني من خلال تحجيم دور منظمات المقاومة الفلسطينية المدعومة من دمشق وطهران.
أمّا الأهداف المتوسطة المدى الزمني، فهي تحقيق مكاسب سياسية انتخابية لتحالف كاديما/العمل في مواجهة حزب الليكود الذي تزداد فرصة إمكان فوز زعيمه نتنياهو بالانتخابات الإسرائيلية القادمة. هذا على الصعيد الداخلي الإسرائيلي. أمّا خارجياً، فإسرائيل (مدعومة من إدارة بوش) تريد فرض وقائع جديدة على أرض فلسطين والشرق الأوسط قبل انتهاء عهد بوش وتسلّم إدارة أوباما الجديدة.
أخيراً، فإنّ أهداف العدوان الإسرائيلي الحاصل على غزّة تشمل على المدى البعيد التأكيد على ما جاء عام 1993 في اتفاق أوسلو بتخلّي قيادة الشعب الفلسطيني عن خيار المقاومة المسلحة واعتماد أسلوب المفاوضات كخيار وحيد للفلسطينيين، وهو ما تسير عليه الآن قيادة السلطة الفلسطينية وترفضه منظمات أخرى وفي طليعتها حركة "حماس".
وستساعد محصّلة غايات هذه الحرب الأخيرة على غزّة، في مرحلة لاحقة، على إقرار تسوية سياسية شاملة للصراع العربي/الإسرائيلي يقبل فيها الفلسطينيون المعروض عليهم من صيغة للدولة الفلسطينية ولمسألة اللاجئين.
لكن، ألم تخض إسرائيل وخلفها ومعها إدارة بوش تجربة مشابهة لذلك في حربها على لبنان وعلى المقاومة فيه صيف عام 2006؟ وما كان مصير هذه التجربة وغاياتها المشابهة الآن للحرب على غزّة؟!
صحيحٌ أنّ إمكانات المقاومة اللبنانية كانت أفضل ممّا هي عليه الآن إمكانات المقاومة الفلسطينية في غزّة، لكن الظروف الدولية والعربية كانت عام 2006 أصعب بكثير، إذ لا مجال للادّعاء الآن بما ردّده البعض آنذاك في لبنان والمنطقة من تشويه لطبيعة الصراع مع إسرائيل من خلال الشحن الطائفي المذهبي الذي استهدف ظاهرة المقاومة اللبنانية.
أيضاً، كانت إدارة بوش في صيف العام 2006 في قمّة جبروتها العسكري والسياسي قبل أن تعصف بها نتائج الانتخابات الأميركية النصفية أولاً في خريف العام نفسه ثمّ في الانتخابات الأخيرة التي كانت استفتاءً شعبياً أميركياً ضدّ سياسة إدارة بوش والحزب الجمهوري معه.
كذلك، فإنّ التضليل الإعلامي والسياسي الذي حدث إسرائيلياً ودولياً عام 2006 عن حقيقة الحرب على لبنان، غير قادر الآن على فعل ذلك. فحصار وتجويع قطاع غزّة تابعهما العالم كلّه ورأى أمّ العين وقائع الأمور في سعي إسرائيل لتركيع المقاومة الفلسطينية أولاً عبر الحصار والآن عبر القتل والدمار.
لكن المشكلة الأساس كانت وستبقى بما هو قائم فلسطينياً وعربياً من انقسامات وصراعات يبني عليها العدوان الإسرائيلي وغاياته.
المشكلة هي في تنازلات عربية وفلسطينية حصلت وتحصل في المحافل الدولية وفي قرارات مجلس الأمن وفي المفاوضات والاتفاقيات مع إسرائيل.
فقطاع غزّة كان طيلة عشرين عاماً تحت الرعاية المصرية قبل أن تحتلّه إسرائيل عام 1967، ولم تكن في قطاع غزّة آنذاك لا مقاومة فلسطينية ولا حركة "حماس" بل الجيش المصري وقوات الأمن المصرية. لذلك كان جمال عبد الناصر يؤكّد أن لا مفاوضات أو اتفاق صلح مع إسرائيل بشأن سيناء قبل الانسحاب من الضفة والقدس وغزّة والجولان. وهذا لم يحدث طبعاً بعد وفاة ناصر حينما وقّع أنور السادات معاهدات كامب ديفيد وتخلّى عن مسؤولية مصر القانونية تجاه قطاع غزّة ومسؤوليتها التاريخية تجاه الصراع العربي/الإسرائيلي من خلال إخراج مصر من هذا الصراع وعزلها عن أمّتها العربية.
المشكلة أيضاً في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية التي قبلت عام 1993 التوقيع على اتفاق أوسلو الذي أنتج اعترافاً فلسطينياً بإسرائيل مقابل الاعتراف بالمنظمة وليس بحقوق الشعب الفلسطيني. ولم يرتبط الاعتراف بإسرائيل في اتفاق أوسلو بتحديد "حدود دولة إسرائيل" أو أنها "دولة محتلة".
هي أيضاً مسؤولية عربية شاملة لكل الأطراف العربية التي تقيم علاقات مع إسرائيل رغم أنّ الحكومات العربية كلّها أقرّت في قمّة بيروت عام 2002 أنّ التطبيع مع إسرائيل يشترط الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلّة عام 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية وحلّ مسألة اللاجئين!!
ولِمَ في الحدّ الأدنى لا تشترط الحكومات العربية على مجلس الأمن - قبل قبولها بقراراته- اعتبار إسرائيل دولة محتلّة ؟! فهذا توصيف حقيقي ينزع الشرعية الدولية عن المحتلّ الإسرائيلي ويضمن متى فشل أسلوب المفاوضات حقّ المقاومة.
لقد انتقل الصراع العربي/الإسرائيلي من تقزيم له أساساً بالقول إنّه صراع فلسطيني/إسرائيلي إلى تقزيم أكبر بوصفه الآن صراع إسرائيل مع فصيل فلسطيني!.
لقد كان 1/1/1965 يوم انطلاقة الثورة الفلسطينية، التي رفضت آنذاك الواقع الفلسطيني المحتل وأكّدت على حقّ الفلسطينيين بنهج المقاومة.
وقد تتغيّر الأسماء والحركات والمنظمات (والسياسات)، لكن لن يتغيّر حقّ الشعوب في مقاومة الاحتلال. وكل عام والشعوب الحرّة بألف خير.
الأربعاء، ديسمبر 31، 2008
إنهاء الاحتلال .. لا إنهاء المقاومة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق