نقولا ناصر
لقد اصبح رفع الحصار عن قطاع غزة هو المدخل الواقعي الوحيد المقنع وطنيا لاي وحدة وطنية فلسطينية منشودة وهو الشرط المسبق والملح والعاجل الذي له الاولوية على كل ما عداه لنجاح اي مسعى عربي لراب الصدع الفلسطيني ، و"للتهدئة" او عدمها مع الاحتلال ، ولاستمرار او عدم استمرار المفاوضات ، مما يقتضي الغاء اية بنود اخرى مدرجة على أي جدول اعمال فلسطيني واستبدالها بهذا البند الواحد الوحيد ، أي: سبل رفع الحصار عن القطاع حيث الماساة الانسانية اكبر واجل من كل السياسات لانه لا يعود هناك أي معنى لاي برنامج سياسي عندما يكون الشعب الفلسطيني هناك مهددا في وجوده .
وربما تكون الطريقة العملية الوحيدة لوضع كل الاطراف المعنية بكارثة الحصار المستمر المفروض على القطاع ، وفي مقدمتها الرئاسة الفلسطينية ، امام مسؤولياتها الانسانية والسياسية والقانونية والاخلاقية والدينية هي ان يملك الرئيس الفلسطيني محمود عباس الارادة السياسية لاتخاذ قرار جريء سيكون تاريخيا بالتاكيد بالانتقال الى غزة والبقاء فيها الى ان يرفع الحصار ، ولينشده هناك كل من يريده ، فذلك ان حدث سيقلب الطاولة على كل المخططين لاستمرار هذا الحصار ويجردهم في الاقل من الاسباب "الفلسطينية" التي يسوقونها لتسويغه ، ويذيب معظم الجليد المحيط بالجدل الفلسطيني البيزنطي حول شرعية تمثيل شعب مهدد في وجوده ، ويحول الرئاسة من منصب بروتوكولي الى قيادة على الارض يرتبط مصيرها بمصير شعبها ، ويفرض على الجميع انهاء التناقض بين يقولونه من الكلام المعسول الذي لا يغني عن جوع وبين ما يفعلونه ، او ما "لا" يفعلونه وهذا ادق ، وهو التناقض الذي استنكرته مفوضة "الاونروا" كارين ابو زيد في مقال لها عشية الذكرى السنوية الستين لاصدار الاعلان العالمي لحقوق الانسان في العاشر من مثل هذا الشهر عام 1948 .
في التاسع من الشهر الجاري ادان مقرر الامم المتحدة الخاص لحقوق الانسان في الاراضي الفلسطينية المحتلة ريتشارد فولك (اليهودي) الحصار المتواصل المفروض على القطاع قائلا انه يكاد يكون "جريمة ضد الانسانية" ، لكن العجز العربي والفلسطيني الرسمي عن الاستثمار السياسي لمثل هذه الادانات الدولية يحولها الى مجرد فقاعات هوائية بينما يضع كل الاطراف المعنية في خانة التواطؤ مع الحصار ، طوعا او كرها ، او في خانة المشاركة المباشرة او غير المباشرة فيه ، ليظل مليون ونصف المليون مدني فلسطيني رهائن تحتجزهم الاطراف اياها حتى رضوخ حماس لشروط الانضمام ل"عملية انابوليس" او حتى تتحقق المصالحة الفلسطينية التي تحتجزها الاطراف نفسها رهينة حتى ترضخ حماس لتلك الشروط .
غير ان عملية انابوليس يمكنها الانتظار ، فهي مجرد حلقة في سلسلة طويلة مستمرة من "العمليات السياسية" منذ النكبة الفلسطينية ، وكذلك المصالحة الفلسطينية فان محاولات تحقيقها جارية منذ ما يقارب السنوات الاربع ولن يضيرها بدورها الانتظار بضعة اشهر اخرى ، خصوصا وان كل الدلائل تشير الى ان اجتماع قادة الدبلوماسية العربية في السادس والعشرين من الشهر الماضي لم يكن فتحا دبلوماسيا لا في ما يتعلق بانابوليس ولا في ما يتعلق بالمصالحة ، بل كان مجرد حلقة في سلسلة من اجتماعات جامعة للدول العربية لم تكن اكثر نجاحا من الامم المتحدة في رفع الظلم التاريخي الذي حل بالشعب الفلسطيني بل كانت مثلها مظلة لاستمرار حاله من سيء الى اسوأ ، حيث الحصار والمصالحة الوطنية لا يزيدا على كونهما مجرد ملفين ورقيين يتنقلان بين ايدي الوسطاء العرب .
واذا كانت عملية انابوليس والمصالحة السياسية الفلسطينية يمكنهما الانتظار فان حال الناس في قطاع غزة المحاصر لم يعد في وسعه الانتظار حيث الوضع يتدهور سريعا في سباق مع زمن كارثة تقترب مع كل يوم يمر بل مع كل لحظة ، ولن تمنع وقوعها سياسة "القطارة" المتحكمة بفتح معبر رفح ومثله منافذ القطاع التي يتحكم الاحتلال بها لابقاء ضحايا الحصار في العناية المركزة معلقين بشعرة مصرية – اسرائيلية بين الموت وبين الحياة .
ان الجدل الساخن الدائر فلسطينيا الان حول الشرعية الفلسطينية بعد انتهاء ولاية الرئيس في التاسع من كانون الثاني / يناير المقبل يبدو بالنسبة لاهل القطاع جدلا بيزنطيا بين قيادات سياسية جميعها محاصرة خارجيا بالاحتلال وداخليا بالعصبية التنظيمية وجداول الاعمال الفصائلية ، فالتمديد لعباس او عدم التمديد له ، وخلافة رئيس المجلس التشريعي او نائبه له او عدم خلافته ، واحترام القانون الاساسي الفلسطيني او سحقه تحت اقدام المتصارعين على سلطة تحت الاحتلال ، هي جميعها خيارات نخبوية لقيادات تملك رفاهية الاختلاف او الاتفاق حولها داخل مكاتبها الباذخة لكن ايا منها لا يعد اهل غزة بوقف الكارثة .
لقد اعلنت دولة الاحتلال الاسرائيلي قطاع غزة "كيانا معاديا" واعلنت السلطة الفلسطينية حكومة الامر الواقع التي تديرها حماس هناك بانها "انقلاب على الشرعية" واعلنت شرطتها واجنحتها العسكرية "خارجة على القانون" وهناك الان من يحرض في رام الله لاعلان القطاع "كيانا متمردا" ، بينما الراعي الاميركي للاحتلال وللسلطة يعتبر القطاع منطقة خاضعة لل"ارهاب" الدولي ، وكل ذلك وغيره يمثل عملية اغتيال سياسي للقطاع تسوغ تصفيته ماديا بالتجويع او بالجراحة العسكرية لا فرق ، بغض النظر عن النوايا المعلنة لكل الاطراف المعنية ، فهذه النوايا لا تعفيها من مسؤولية الشراكة المباشرة او غير المباشرة في ما وصفه عباس نفسه ب"جريمة الحرب" الجارية في القطاع .
ويحدث ذلك في وقت بدأ الوضع في القطاع ينتقل من "العقوبة الجماعية الى الابادة الجماعية" كما قال عضو المجلس التشريعي الفلسطيني ورئيس اللجنة الشعبية ضد الحصار جمال الخضري ، مما يقتضي اعلان قطاع غزة "منطقة منكوبة" بحاجة الى اجتماع عربي او دولي طارئ على ارفع مستوى لاغاثة مليون ونصف المليون عربي فلسطيني ، لكن العرب والعالم يتفرجون ومنشغلون بالجدل البيزنطي حول عملية انابوليس والشرعية الفلسطينية بعيدا عن الكارثة المحدقة وهذا وضع يمثل الحاضنة المثلى لوقوع الكارثة ، بل لاستمرارها .
وليست حماس هي التي تطلق التحذيرات من وقوع الكارثة الانسانية في قطاع غزة حتى تتهم بانها تستغل ما هو انساني لخدمة اغراضها السياسية ، بل هو بان كي-مون امين عام الامم المتحدة ، وكارين ابو زيد ومسؤولو عمليات الاونروا في القطاع مثل جون جينغ ، ومفوضة العلاقات الخارجية للاتحاد الاوروبي بنيتا فيريرو والدنر ، والمفوضة السامية لحقوق الانسان في جنيف نافي بيلاي ، واحدى وعشرين منظمة انسانية عالمية معروفة ، ناهيك عن المنظمات الانسانية الفلسطينية الوطنية في القطاع ، وقد انضم اليهم مؤخرا توني بلير مبعوث اللجنة الرباعية الدولية في بيان اعرب فيه عن "القلق العميق" لتطور الوضع في القطاع !
وهذه "المشاعر" الانسانية الدولية ليست جديدة لكن ماساتها لا تقل عن ماساوية الوضع في غزة لانها على اتساعها وتكرارها لم تجد لها أي ترجمة عملية على الارض في القطاع او على معابره وهي لا تقل في عبثها عن عشرات لقاءات القمم الفلسطينية الاسرائيلية والاميركية وزيارات قادة "الرباعية" الدولية للمنطقة دون ان تلمس اقدام أي منهم ارض القطاع ، وان "غامر" الكثير منهم بزيارة "سديروت" على مرمى حجر منه .
ويدرك اهل غزة ان مصطلحات مثل "الشرعية الدولية" و "قرارات الامم المتحدة" و "القانون الدولي" و "القانون الانساني" ، الخ ، التي تجترها القيادات الفلسطينية والعربية كانت مثل "طبخة الحصى" المعروفة في التراث العربي لم تسكت لهم جوعا لكنها ايضا لم تلههم حتى يناموا على جوعهم الذي طال الى العدل قبل الغذاء كما ان تجربتهم التاريخية مع الدق العربي والفلسطيني على ابواب مجلس الامن الدولي لم تكن افضل .
فعلى سبيل المثال ، عقد مجلس الامن الدولي باعضائه الخمسة عشر في الثاني والعشرين من الشهر الاول هذا العام جلسة طارئة بناء على طلب المجموعة العربية في الامم المتحدة و 57 دولة عضو في منظمة المؤتمر الاسلامي لبحث الوضع المتدهور في قطاع غزة وقام امين عام الامم المتحدة بان كي – مون بالاتصال هاتفيا مع رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت للاعراب عن قلقه ، فما الذي تغير منذ كانون الثاني / يناير حتى الان ، وهل سيتغير الوضع لو عقد مجلس الامن الدولي جلسة مماثلة اليوم !
ان الامم المتحدة التي تكشر عن اسنانها في كل مكان من العالم قد تحولت في فلسطين الى هيئة اممية اسنانها مخلعة منذ النكبة قبل ما يزيد على ستين عاما وهي لا تملك اليوم مفكا واحدا لفتح ثغرة واحدة في طوق الاسلاك الشائكة الاسرائيلي المحيط بغزة لكي ينفد منها مريض بحاجة طارئة الى اسعاف .
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
السبت، ديسمبر 13، 2008
الرئاسة الفلسطينية مطلوبة في غزة
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق