الخميس، ديسمبر 04، 2008

واشنطن.. والدولة الفلسطينية

صبحي غندور

كانت السياسة الأميركية تجاه الصراع العربي/الإسرائيلي (وبغضّ النظر عن شخص الحاكم في واشنطن) أسيرة مفاهيم الحرب الباردة التي كان لإسرائيل خلالها دور بارز في تحقيق المصالح الأميركية. اليوم، إسرائيل هي عبء كبير على أميركا وعلى مصالحها في العالمين الإسلامي والعربي، فلم تعد إسرائيل وشواطئها فقط هي المتاح الأساس للتسهيلات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط (كما كانت في حقبةٍ طويلة في الحرب الباردة)، ولم تعد إسرائيل مصدر أمنٍ وحماية للمصالح الأميركية، بل إنَّ تلك العلاقة الخاصَّة معها أضحت هي السبب في تهديد مصالح واشنطن في بقعةٍ جغرافيةٍ تمتدّ من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهندي، ويعيش عليها مئات الملايين من العرب وغير العرب، وترتبط ثروات هؤلاء أصلاً بل وسائر خيراتهم الاقتصادية ارتباطاً شديداً بالشركات والمصالح الأميركية.

ولأنَّ واشنطن رفضت سابقاً دعواتٍ عربيةٍ ودولية لعقد مؤتمرٍ دولي لتحديد مفهوم الإرهاب وللفرز بينه وبين حقِّ مقاومة الاحتلال، فإنَّ المفهوم الأميركي للإرهاب أصبح هو نفسه مصدر تشجيع للإرهاب، عوضاً عن الحدّ منه ومن أسبابه ومن ظواهره.

فقد أعطى هذا المفهوم الأميركي للإرهاب شرعية أميركية للعدوان الإسرائيلي على الشعبين الفلسطيني واللبناني. وكانت حصيلة هذا المفهوم الأميركي، ونتيجةً لهذا العدوان الإسرائيلي، ردود فعلٍ عديدة من المظلومين في ظلِّ هذا المفهوم وممَّن هم ضحايا لهذا العدوان.

ولم تعترف واشنطن وإسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية إلا حينما أكّدت المنظمة كتابةً (في رسالة شخصية من رئيسها ياسر عرفات ثمّ في وثائق اتفاقات أوسلو) على رفض أسلوب العنف (وهو هنا المقاومة) وتعهّدت باستبداله بأسلوب وحيد فقط هو التفاوض والعلاقات الثنائية المباشرة دون وسطاء. لذلك نرى الضغط الأميركي دائماً على السلطة الفلسطينية لجعلها تلتزم بالإدانة الصريحة والعلنية لأي عملية عسكرية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.

إنَّ واشنطن تعتبر أيّ عدوان إسرائيلي نوعاً من الدفاع عن النفس، بينما تنظر (واشنطن) إلى المقاومة ضدّ الاحتلال كما لو كانت حالةً إرهابية، تستوجب منها الردع والعقاب!.

فالموقف الأميركي سيبقى موضع شكٍّ لدى العرب والعالم كلّه طالما استمرّت واشنطن في إغفال التعامل مع العدوان الإسرائيلي على أنَّه حالة احتلال يتوجَّب وقفها فوراً، وأنَّ إنهاء الاحتلال يعني أيضاً بناء دولةٍ فلسطينية مستقلةً على كلّ الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، وضرورة تلازم ذلك مع ضمانٍ لحلٍّ عادل لحقوق اللاجئين الفلسطينيين.

تحدَّثت واشنطن كثيراً عن "دولة فلسطينية"، لكن دون تحديدٍ لحدود هذه الدولة وسكانها وعاصمتها، وبلا تحديدٍ أيضاً لنوع السلطة فيها. فلا يكفي الحديث بالعموميات عن "الدولة الفلسطينية"، فحكّام إسرائيل أنفسهم قالوا بتلك العمومية، بينما يقتلون الفلسطينيين على الأرض الفلسطينية ويدمّرون ممتلكاتهم ..

فإدارة بوش تعاملت مع الملفّ الفلسطيني بمنطق ردّ الفعل والتمييع وليس من منطلق السعي لحلٍّ عادلٍ وشامل للقضية الفلسطينية. وما سعت إليه إدارة بوش منذ مجيئها هو تجميد الملفّ الفلسطيني لتسهل عليها حربها على العراق. وهاهي الآن إدارة بوش في أسابيعها الأخيرة تراوح مكانها في التعامل مع الملف الفلسطيني بعدما كرّرت في السنوات الماضية أكثر من مرّة عن "أملها" بإقامة دولة فلسطينية قبل رحيل الإدارة.

وإذا افترضنا أنَّ واشنطن ستكون في ظل إدارة أوباما جادَّة فعلاً في التعامل مع الملفّ الفلسطيني، فإنَّ منطلق هذه الجدّية هو أن تنظر واشنطن إلى حركة المقاومة الفلسطينية ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي على أنّها نتيجة لحالةٍ عدوانية احتلالية وليست سبباً لأزمةٍ أمنيةٍ وسياسية راهنة. فالمطلوب أولاً وقف العدوان الإسرائيلي وإنهاء الاحتلال الغاشم، أي مطلوبٌ أولاً معالجة الأسباب في إطار حلٍّ سياسيٍّ شامل قبل التركيز على النتائج الأمنية والسياسية المترتِّبة على مواجهة واقع الاحتلال.

إدارة أوباما مدعوَّة للنظر إلى الأراضي الفلسطينية المحتلّة على أنَّها حالة شبيهة إلى حدٍّ ما بالمشكلة الأيرلندية، حيث كان الجيش الجمهوري الأيرلندي يستخدم العنف ضدَّ المدنيين في لندن وغيرها لكنْ من أجل حقوقٍ سياسية يسعى لتحقيقها. وقد نجحت واشنطن، رغم صداقتها الخاصَّة مع الحكومات البريطانية، بأن تطرح تسوية سياسية رعاها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون. فلِمَ لم تضع واشنطن آنذاك على الجيش الأيرلندي شروطاً كالتي تضعها الآن على الفلسطينيين؟ لِمَ لمْ تضع واشنطن الجيش الجمهوري الأيرلندي على لائحتها للإرهاب؟

إن إدارة أوباما القادمة معنيّة بالرؤية الشاملة للصراعات الدائرة بالمنطقة، وستجد حتماً أن الملفّ الفلسطيني هو أساس مهم في هذه الصراعات رغم التشويه الحاصل الآن على أكثر من جبهة.

فالتشويه يحصل للصراعات الحقيقية في المنطقة ولمواصفات الأعداء والخصوم والأصدقاء، بحيث لم يعد واضحاً من هو العدوّ ومن الصديق، وفي أيِّ قضية أو أيّة معركة، ولصالح من؟!

نعم هناك صراع دولي/إقليمي على المنطقة العربية. نعم هناك محوران يتصارعان الآن في منطقة الشرق الشرق الأوسط. لكن ما الذي أوصل المنطقة إلى هذا الحال من الصراع والتصعيد؟

المسؤول الأوّل عن ذلك هو الإدارة الأميركية الحالية التي وضعت العراق منذ مطلع العام 2001 في قمّة أولوياتها، وقبل الأعمال الإرهابية في أميركا، وتجاهلت تماماً الصراع العربي/الإسرائيلي بعدما كانت الأولوّية هي لملفّات هذا الصراع في نهاية إدارة جورج بوش الأب عبر مؤتمر مدريد عام 1991، ثمّ في سنوات إدارة كلينتون حتى آخر شهر من وجوده في البيت الأبيض.

فلو ضغطت في السابق واشنطن على إسرائيل للانسحاب من الجولان والضفة والقدس وغزّة، ومن مزارع شبعا، هل كان للمنطقة أن تشهد ما شهدته من تصعيد عسكري وتأزّم سياسي خطير؟!

لو تجاوبت الإدارة الأميركية بشكلٍ جدّيٍّ مع مبادرة السلام العربية التي أعلنتها قمّة بيروت عام 2002، وأقامت على أساسها مؤتمراً دولياً لاستكمال المفاوضات وتحقيق تسوية شاملة على كلّ الجبهات، وإعلان دولة فلسطينية، هل كان للأمور أن تتعقد وتتأزم كما هو حالها اليوم؟!

لو تمّ ذلك، لما كانت هناك مشكلة تتعلّق بسلاح المقاومة في لبنان أو في فلسطين. فالحرب الأميركية على العراق والتخلّي الأميركي عن عملية السلام في الشرق الأوسط، هما مسؤولية الإدارة الأميركية الحالية، وهما السبب في انتعاش حركات المقاومة وكلّ مظاهر الغضب على السياسة الأميركية في الشرق الأوسط.

أيضاً، فإن المسؤول عن ازدياد التأثير الإيراني في المشرق العربي هو السياسة الأميركية نفسها التي أطلقت العنان للرؤية الإسرائيلية القائمة على قهر الشعب الفلسطيني والاستمرار بالاحتلال والاستيطان في الضفّة والجولان، تماماً كما كانت الحرب الأميركية على العراق هي المسؤولة عن تدمير مؤسساته وتصدّع وحدته وجعله ساحة صراع لنفوذ قوًى إقليمية عديدة.

إنّ غياب السلام الحقيقي يستحضر الحرب والعنف ويدفع بالخاضعين للاحتلال إلى ممارسة حقّ مقاومته.

وغياب الدور العربي الفاعل هو الذي يستحضر الدور الأجنبي الدولي والإقليمي.

وغياب الوفاق الوطني الحقيقي في أيّ بلد عربي هو الذي يشجّع الآخرين على التدخّل بشؤونه وتحويل أرضه إلى ساحة صراعات ..

ليست هناك تعليقات: