د. صلاح عودة الله
يقول المؤرخ البريطاني جورج هربرت ويلز في كتابه"موجز التاريخ":(كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حالة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار، ومن البدء حتى النهاية لم تكن ممتلكاتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسوريا وآشور وفينيقيا ذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم)..في التاسع والعشرين من شهر تشرين ثاني عام 1947 قامت الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالمصادقة على مشروع القرار 181 والذي بموجبه تم تقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية, وتدويل مدينة القدس. ومن المعروف أن هذا القرار صدر نتيجة للجهود المكثفة التي بذلتها الصهيونية العالمية بدعم من القوى الاستعمارية وعلى رأسها امريكا, وورد في مذكرات الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان"...لقد شملت هذه الجهود الضغوط السياسية والاقتصادية على أعضاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة، والرشاوى المادية التي قدمت لهذه الدول ورؤساء وفودها".
بالرغم من انحيازه الواضح لليهود الا ان هذا القرار رفض من قبلهم، وفور صدوره، باشرت العصابات الصهيونية بتنفيذ الخطة القاضية بتهجير السكان الفلسطينيين من القسم اليهودي الذي نص عليه القرار 181، والذين كانوا يشكلون أكثر من نصف سكان هذا القسم، ويمتلكون أكثر من ثلثي الأراضي والعقارات، فارتكبت العصابات الصهيونية ـ التي تشكلت من عناصر محترفة قاتلت في صفوف الجيوش الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية، وتأمن لها تسليح جيد ـ مجازر رهيبة بحق الفلسطينيين بغية دفعهم إلى الهجرة وترك أراضيهم في القسم اليهودي، وتحديداً من المدن والمناطق الساحلية، وهو ما أدى إلى نشوء قضية اللاجئين واضطر مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى ترك أراضيهم وممتلكاتهم واللجوء إلى الأقطار العربية المجاورة، وإلى المدن والبلدات الفلسطينية الأخرى. لقد تم تعطيل الشق الثاني من القرار الذي نص على استقلال الدولة العربية ووضع دستور لها, وذلك نتيجة لاستخدام سياسة الكيل بمكيالين من قبل الأمم المتحدة والدول الكبرى في ذلك الوقت, وقد حرم الفلسطينيون من اقامة دولتهم وكيانهم على ارضهم وارض ابائهم واجدادهم, بينما أعلن الصهاينة اقامة دولتهم بعد أشهر قلائل من صدور هذا القرار وعلى ما نسبته 78 % من أراضي فلسطين التاريخية بدعم غربي واسع النطاق وخاصة بريطاني وبتواطؤ بعض الأنظمة العربية وشخصيات فلسطينية رخيصة لا تاريخ لها..
واستمرت"إسرائيل" نتيجة لذلك بنهب الأراضي العربية وتهجير سكانها، لتستكمل احتلالها لكل الأراضي الفلسطينية وأجزاء من الدول العربية المحيطة في حرب حزيران عام 1967 والذي يطلق عليه عام النكسة, ليلحق بعام النكبة الكبرى, وهو عام انتصاب الكيان الصهيوني. تمر علينا الذكرى الحادية والستون لقرار التقسيم وقضيتنا تعصف بها حالة من التشرذم لم تشهد لها مثيلا منذ انتصاب الكيان الصهيوني..فاذا نحن الآن نتحدث عن هذا القرار الظالم بحق قضيتنا وشعبنا نشهد ونعاصر تقسيما جغرافيا بين ما تبقى من الوطن الجريح..لقد قامت حماس بحسمها العسكري المرفوض بفصل غزة عن الضفة الغربية, وان كان واضحا بانها استبقت التيار الانقلابي في فتح الذي كان يهدف للسيطرة على غزة وسحق حماس تنفيذا لبنود اتفاقية اوسلو المشؤومة والتي مهدت الطريق للاقتتال الفلسطيني الداخلي بين حركتي فتح وحماس..وان تواجدت النية والأسباب الأخرى لهذا الاقتتال. لقد جاء مؤتمر الشؤم"أنابوليس" والذي سمي زورا وبهتانا بمؤتمر السلام في الشرق الأوسط لتصفية ما تبقى من قضيتنا الفلسطينية وتهرول الفلسطينيون والعرب نحوه وللأسف..
وهنا أود أن أقول أنه ليس من قبيل الصدفة أن يقوم الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بالدعوة لعقد هذا المؤتمر قبل ميعاد الذكرى الستين لقرار التقسيم بيومين(27 تشرين ثاني 2007 ), وهو اليوم الذي اعتبرته الأمم المتحدة باليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني , وكأن الإدارة الأمريكية وعلى رأسها مجرم الحرب العالمي"بوش" ووزيرة خارجيته الشمطاء"رايس", يريدون أن يتوجوا الجهود الأمريكية الداعمة لإسرائيل بتحويل اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني إلى يوم عالمي للتضامن مع المغتصب الصهيوني للأرض الفلسطينية..لقد حذرنا زعامة السلطة في رام الله من هذا المؤتمر ونصحناهم بعدم الذهاب اليه والاشتراك فيه, الا انهم اصروا على المشاركة..وقد اسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي..!.
تمر علينا هذه الذكرى وسط اجواء فلسطينية داخلية متوترة ومعقدة..اتهامات متبادلة بين حركتي حماس وفتح بتعطيل فرص الحوار..احتلال واعتقالات وقتل في الضفة, وحصار وتجويع ومرضى يموتون لعدم وجود العلاج في غزة..قبل ايام قلائل سمعنا خطاب السيد ابو مازن بمناسبة تعيينه رئيسا ل"دولة فلسطين", أكثر من ثلثي الخطاب تضمنت هجوما على حركة حماس أو ما أسماهم بالانقلابيين..نتفق معك يا سيادة الرئيس بأنهم "انقلابيون" وشجبنا حسمهم العسكري في غزة ورفضناه جملة وتفصيلا ولم نجد له أي مبرر..لكن يا سيادة الرئيس نسيت او تناسيت انك "رئيسا" لكل الشعب, فقمت بمخاطبة ابناء شعبك وكأنك قائدا لحركة فتح..سيادة الرئيس:اذهب الى غزة هاشم وسترى أبناء شعبك مرحبين بك..انهم نساء وشيوخ ورجال واطفال غزة..أطفال غزة، صورة مصغره من حرم الطفولة العربي خصوصا والعالمي عموما ، الطفولة البريئة المسلوبة قدسيتها وحقها في الابتسام وتذوق طعم الحياة الطبيعي ، تلك البراءة وذلك الطهر الذي غيبته براثن الموت ،
وافترسته غيلان الظلام ، وقطع أوصاله الصغيرة رصاص الإرهاب والإجرام الصهيوني ، والصمت الدولي ، وغيب حقه ظلم ذوي القربى ، فكانت غزة هاشم بأطفالها الصغار بأجسادهم ، والكبار بأفعالهم وصبرهم ، قبر كبير اتسع للألم والحزن والدموع ولم يتسع لهم ، بل لم يجد بين جوانبه قيد أنملة للتخفيف من تلك الجراح النازفة من عيون الأطفال ، فلم تتجاوز صرخاتهم التي اخترقت صدورهم ، ان تكون مجرد شكوى ضائعة في عالم كئيب قاس. نعم, يا سيادة الرئيس ابو مازن ويا قادة حماس..لم يفرق الرصاص الطائش والظلم الأعمى بين من يلعب الكرة وهو لم يتجاوز بعد سن العاشرة ، وبين من يحمل في يده البندقية والرشاش..لم يفرق بين اللعبة المصنوعة من القش والقماش والقنبلة..لم يفرق بين من يحمل في يديه الصغيرتين خبز الحياة ، وبين من يحمل معه قوت المنون، كلهم غيبهم الظلم والظلام ، وأطفأ الموت نور الحياة وجمالها في عيونهم البريئة، فتساوى بذلك الجلاد والضحية ، وطائر الرخ والعصفور الصغير،..
فالويل في الدنيا التي في شرعها..فأس الطغام كريشة الرسام..ويا اقطاب الرئاسة تذكروا قول الحكيم القائل" ليسَ شيءٌ أضرَّ على الأممِ ، وأسرعَ لسقوطِها من خِذلانِ أبنائِها للسانِها ، وإقبالِهم على ألسنةِ أعدائِها"..فهل في ذكري التقسيم وفي يوم التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني سنكون أكثر تلاحماً ووحدة, أم سنقوم بتقسيم المقسم وتجزئة المجزأ ما بين غزة والضفة؟ نعم لفلسطين كل فلسطين..المجد والخلود لشهدائنا الأبرار..الشفاء العاجل للجرحى..لا للمعتقلات الحمساوية والفتحاوية..نعم لحرية التعبير عن الرأي واحترام الرأي الاخر..الحرية لسجناء"الحرية"في المعتقلات الصهيونية..نعم للقدس كل القدس عربية فلسطينية..الخزي والعار للأعداء ومن سار في فلكهم..الموت للعملاء الأنذال..والنصر حليف المقاومة..وانهي بما قاله"باريمور":( انك تبلغ مرتبة النمو الكامل حين تضحك ساخرا من نفسك)..ومعذرة يا اقطاب الرئاسة على هذه النهاية..!.
-القدس المحتلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق