الاثنين، يونيو 16، 2008

كوريا الجنوبية تتظاهر ضد البقر

د. عبدالله المدني
مضى ذلك الزمن الذي كان فيه الكوريون الجنوبيون يخرجون إلى الشوارع بمئات الآلاف للمطالبة بالديمقراطية والحريات، فتقابلهم عصي الأنظمة الديكتاتورية العسكرية وهراوات الأمن والشرطة وخراطيم مياه الدفاع المدني بالضرب والمطاردة وإطلاق قنابل الغاز المسيلة للدموع، دون أن يجرأ احد في وسائل الإعلام المحلية على رفع صوته.

حالة نستالوجية

فمنذ عودة الديمقراطية إلى هذه البلاد في مثل هذه الأيام قبل 21 عاما، اوتحديدا في الحادي عشر من يونيو/حزيران 1987 بفضل تلك المظاهرة الطلابية المليونية التي أجبرت العسكر ممثلا في الديكتاتورين "تشون دو هوان" و "روه تاو وو" على القبول بدستور ديمقراطي تحت سلطة رئيس مدني ينتخب مرة كل خمسة أعوام و لفترة واحدة فقط، توارت المظاهرات الشارعية إلى الخلف، لتعود فقط في الأسبوع الماضي ولتجذب أكثر من مائة ألف مشارك من مختلف المشارب والقطاعات والأعمار والطبقات، ولكأنما حالة من النستالوجيا تلبست الشعب الكوري الجنوبي فجأة فخرج عن بكرة أبيه يحمل الشموع ويلوح باليافطات ويردد الشعارات والأغاني الوطنية، بل ويسخر أيضا من قيادته بالرسوم الكرتونية غير اللائقة على نحو ما كان دارجا في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم. لكن على خلاف ما كان يجري في الماضي، جاءت مظاهرات الأسبوع الماضي ضد البقر، وتحديدا البقر الأمريكي.. نعم البقر الأمريكي الذي أعلنت إدارة الرئيس المنتخب حديثا "لي ميونغ باك" رفع حظر دام سنوات عن استيراد لحومه مؤخرا.


50 دولة أوقفت استيراد لحوم الأبقار الأمريكية

والجدير بالذكر أن خمسين دولة من بينها دول حليفة للولايات المتحدة مثل كوريا الجنوبية واليابان وتايوان، كانت قد أوقفت استيراد لحوم الأبقار الأمريكية بعيد اكتشاف حالة يتيمة من حالات جنون البقر في ولاية واشنطون المتاخمة لكندا في عام 2003 . وعلى حين رفع بعض هذه الدول - مثل اليابان - حظرها بمجرد ظهور تقرير من منظمة الأغذية والزراعة الدولية التابعة للأمم المتحدة (الفاو) في يوليو/تموز 2005 يفيد بخلو الولايات المتحدة من المرض المذكور، فان دولا أخرى مثل كوريا الجنوبية أبقت على حظرها، حتى ابريل/نيسان المنصرم، حينما اعتقد الرئيس" لي ميونغ " - هكذا يبدو - أن رفع مثل هذا الحظر قد يسرع في إتمام عقد اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة ويجنبها اعتراضات الكونغرس الأمريكي. والرئيس الجديد لي ميونغ مهتم بطبيعة الحال بسرعة إنجاز هذه الاتفاقية التي ستسفيد منه بلاده كثيرا وتحقق لها مكانة اقتصادية أقوى بين القوى الصاعدة، خاصة في ظل المنافسة الإقليمية المحتدمة حاليا في الشرق الأقصى حول البروز والنفوذ والدور ومستويات المعيشة.

من رئاسة هيونداي إلى رئاسة الجمهورية

وهذا ليس بغريب على رئيس يدين بصعوده السياسي والإداري إلى عوالم الاقتصاد والبزنس والمال، بل إلى الشركات العائلية المتنفذه المعروفة باسم "جوبل" وبالذات شركة هيونداي التي كان لي ميونغ رئيسا لها في وقت من الأوقات. كما انه ليس بغريب على رئيس وصل إلى البيت الرئاسي الأزرق وفق أجندة تسعى إلى تقوية الشراكة مع الحليف الأمريكي على مختلف الأصعدة واتخاذ مواقف أكثر تشددا من نظام بيونغيانغ الشيوعي في الشطر الشمالي من شبه الجزيرة الكورية، أو بعبارة أخرى تبني مواقف مخالفة للرئيس السابق المنتهية ولايته حديثا " رو مو هيون" الذي كثيرا ما وصف بالرئيس ذي الميول اليسارية أو المتعاطف مع نظام بيونغيانغ، أو الرئيس الذي استغل فترة رئاسته لإنعاش وبعث الأفكار اليسارية في أوساط الطلبة والمراهقين وبالتالي خلق حالة عداء دائمة ومستمرة بين سيئول وواشنطون.

برنامج تلفزيوني يثير الهلع

قد يكون مصدر اعتراض الكوريين على قرار رئيسهم هو خوفهم من إصابتهم بالأمراض، ولا سيما بعد عرض برنامج تلفزيوني قيل فيه أن احتمالات تعرضهم للأمراض بسبب لحوم البقر المريضة هي أكثر من احتمالات إصابة أقرانهم الأوروبيين والأمريكيين انطلاقا من عوامل جينية. وفي عالم تسوده ثورة الاتصالات والمعلوماتية، وفي بلد يعتبر من كبار صناع وسائط هذه الثورة ومتداوليها، لم يكن غريبا أن تنتشر تلك المعلومة المشكوك في صحتها في كل أرجاء البلاد انتشار النار في الهشيم، وان تصل إلى كل مواطن فيساهم الأخير بدوره في نشرها تحت يافطة " أن الرئيس لا يكترث بصحة المواطن ولا تهمه سلامته" أو يافطة " أن ما يكترث له الرئيس هو رضا الأمريكان فحسب". والمواطن الكوري، مثلما يعلم الذين ترددوا على هذه البلاد، يستهلك في طعامه كمية كبيرة من اللحوم – وفي المقدمة منها لحوم الأبقار – التي تعتبر هي والثوم المكونان الأساسيان لأشهر طبقين كوريين، وهما طبق بلغوغي و طبق كلبي (لا علاقة له بلحوم الكلاب التي يتناولها الكوريون أيضا)، بدليل أن كوريا الجنوبية كانت قبل وقف استيراد اللحوم الأمريكية ثالث اكبر زبون لهذه اللحوم على مستوى العالم.

غير أن مراقبين كثر لهم رأي آخر، هو أن عوامل أخرى ساهمت في خروج الحشد الجماهيري الضخم إلى الشوارع وبتلك الصورة التي غابت عن المشهد الكوري منذ زمن طويل، وبل والتي ربما أيضا ذكرت الرئيس لي ميونغ بمظاهرات كان هو وزملاؤه وقودها زمن حكم العسكر.

وطبقا لهؤلاء، فانه لو كان الأمر مقتصرا على الانزعاج من قرار حكومي حول لحوم الأبقار، لما شهدت سيئول مظاهرة بذلك الحجم والتنظيم، ولما فضل الكثيرون الخروج مباشرة من مصانعهم ومدارسهم و مكاتبهم بعد دوام يوم شاق إلى الشارع. إذن ، فلا بد أن هناك عوامل أخرى دفعتهم إلى ذلك.

عوامل عديدة ساهمت في ضخامة المظاهرات

ولمعرفة تلك العوامل من الضروري تأمل من كان وقودا للمظاهرة أو مشاركا فيها. لكن قبل ذلك لا بد من الإشارة إلى أن المظاهرة الشارعية الضخمة التي لم تشهد سيئول مثيلا لها منذ عودة الديمقراطية، لم تكن وليدة لحظتها، فقد بدأت صغيرة ومتواضعة قبل 40 يوما في أواسط البلاد ثم كبرت تدريجيا مثل كرة الجليد، أما وقودها فقد كان الطلبة المستاءون من السياسات التعليمية التي يرون أنها توضع دون أن يكون لهم دور في رسمها، أو الشباب اليساري المراهق والمفتون بالإيديولوجيات التي انتعشت في عصر الرئيس السابق، أو ربات البيوت اللواتي اكتوين بموجة الغلاء وارتفاع أسعار الطاقة، أو أنصار أحزاب المعارضة الذين فشل مرشحيهم في الوصول إلى البيت الأزرق، أو العمال الذين يعادون تقليديا رجال الأعمال ويتهمونهم بالجشع والاستغلال والهيمنة والفساد، ولا سيما إذا كانوا من الشركات العائلية العملاقة (جوبل) التي يصر الرئيس الحالي على دعمها رغم ظهور بعض أوجه الفساد فيها، أو الكوريون المعادون للأمريكيين أو أي شيء يستورد من الولايات المتحدة أو يحقق لها ربحا،


107 أيام غير كافية للحكم على سياسات الرئيس

وفي مواجهة هذه الحرب المستعرة من كل صوب ضد رجل لم يمض عليه في سدة الرئاسة سوى 107 أيام، أي لم تختبر سياساته بالقدر اللازم ، حاول الرئيس لي ميونغ إيجاد مخرج يمتص به غضب الشارع الذي أوصل شعبيته إلى ما دون 20 بالمئة ( أي إلى أدنى مستوى تصل إليه شعبية رئيس كوري جنوبي أثناء الأشهر الثلاث الأولى من رئاسته، علما بأن هذه النسبة كانت في حالة سلفه 40 بالمئة وفي حالة سلف الأخير 62 بالمئة) فاهتدى إلى فكرة إرسال وفد مفاوض إلى واشنطون لإقناع الأمريكيين بأن يعلنوا من جانبهم وبصورة طوعية "حظر تصدير لحوم الأبقار التي تزيد أعمارها عن 30 شهرا إلى كوريا الجنوبية" (المعروف أن الأبقار الأكبر عمرا هي مصدر اللحوم المريضة).


استقالات لم يبت فيها

غير أن هذه الفكرة لم يكن لها مفعول سحري، لاسيما وان الرئيس لم يبت في أمر استقالة حكومة رئيس الوزراء " هان سيونغ سو" أو أي من مستشاريه ممن سارعوا إلى تحمل المسئولية وتقديم استقالاتهم على نحو ما يحدث في الديمقراطيات العريقة. فقوى كثيرة لا تثق في ما تقوله الإدارة الأمريكية أو ما تتخذه من مواقف، إما انطلاقا من عدم ثقتها في الأمريكيين عموما أو انطلاقا من خلفية عداء إيديولوجي، وإما انطلاقا من موقف مسبق من إدارة الرئيس جورج دبليو بوش تحديدا،


الرئيس لن يرضخ لمطالب الشارع

وليس هناك ما يشير إلى أن الرئيس المنتخب ديمقراطيا سوف يرضخ بسهولة للشارع الذي جاء به إلى السلطة بتخويل شعبي عارم (الفارق بينه وبين اقرب منافسيه كان في حدود خمسة ملايين صوت) في ديسمبر/ كانون الأول الماضي في واحدة من أكثر الانتخابات نزاهة في تاريخ كوريا الجنوبية. فالصفة التي تسبق اسمه هو " البلدوزر"، كناية عن تغلبه على المصاعب، وجسارته، وإرادته الحديدية، في تحقيق ما يريد. وبتلك الإرادة خاض ذات مرة معركة التفوق الصناعي والاقتصادي على الصين، فنجح فيها ونال ثقة رؤسائه. وبتلك الإرادة أيضا دخل معركة الانتخابات الرئاسية الماضية، فنال فيها من الأصوات ما لم ينله احد من أسلافه. وبتلك الإرادة يحاول اليوم أن يثبت أن الديمقراطية ليست أداة للكسل والشغب والجمود والتخريب أو التنفيس عن عواطف مكتوبة ضد الساسة، وإنما وسيلة للبناء والتقدم والاندفاع إلى الإمام على نحو ما فعله - في ظل ظروف وأوضاع مختلفة ونظام سياسي مناقض – عمه (والد زوجته) الجنرال "بارك تشونغ هي" الذي يوصف بباني المعجزة الكورية الجنوبية والذي قتله رجال مخابراته بدم بارد في أكتوبر / تشرين الأول 1979 .

مسألة سيحتار العلماء فيها

يقول الصحفي الأمريكي " دونالد كيرك" الذي يكتب في الشئون الكورية بشطريها منذ أكثر من 30 عاما: "ستظل مسألة تحول لحوم الأبقار الأمريكية إلى موضوع مهدد لمسيرة الديمقراطية في كوريا الجنوبية لغزا محيرا للمؤرخين والساسة والعلماء والسيكولوجيين". فالمفترض أن تأخذ هذه المسألة طريقها كغيرها نحو البرلمان للبت فيها، طالما أننا نتحدث عن دولة ديمقراطية مستقلة السلطات. فأين حدث الخلل؟


السبب هو وزير الزراعة

وفي محاولة منه للإجابة على السؤال يقول كيرك: يبدو أن سبب المشكلة أو الورطة التي تورط بها الرئيس لي ميونغ من حيث لم يدري، هو وزير الزراعة الكوري الذي اتخذ قرارا هاما في وقت حرج وقصير للغاية هو الوقت ما بين ترك الرئيس السابق هيون لمنصبه وتولي الرئيس الجديد لمهامه، و أثناء فترة الإعداد لقمة عاجلة ما بين الأخير والرئيس جورج دبليو بوش في منتجع كامب ديفيد.

د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة 22 يونيو/ حزيران 2008
البريد الالكتروني : elmadani@batelco.com.bh

ليست هناك تعليقات: