صبحي غندور
لا يمكن اعتبار معاهدة الصداقة المبرمة عام 1789 بين المغرب والولايات المتحدة بدايةً فعلية لتاريخ العلاقات العربية/الأميركية. فصحيح أنّ هذه المعاهدة هي من أقدم المعاهدات الأميركية التي ما زالت سارية المفعول، وعمرها يساوي عمر الدستور الأميركي، لكنّها كانت مع بلد عربي أطلسي ولم تكن مع عموم المنطقة العربية التي بغالبيتها كانت ترزح تحت السلطة العثمانية وبدايات الاحتلال الأوروبي. فقد كان للولايات المتحدة آنذاك دور محدود جدا في المنطقة العربية بل في عموم العالم… لكن تأثير الولايات المتحدة بدأ ينمو في العالم العربي منذ بداية القرن العشرين، بعد ثورة صناعة السيارات والطائرات وبعد اكتشاف الحاجة لنفط الجزيرة العربية عقب الحرب العالمية الأولى التي ساهمت فيها أميركا، ثمّ من خلال الامتداد الأميركي الى مناطق النفوذ البريطاني والفرنسي عقب الحرب العالمية الثانية. أمّا التأثير الأميركي الفعّال في المنطقة فقد بدأ يحدث عملياً بعد انطلاقة الحرب الباردة بين موسكو واشنطن، وتنافس المعسكرين على وراثة النفوذ الأوروبي الذي اضمحلّ نتيجة الحرب العالمية الثانية خاصّةً بعد حرب السويس وانتصار مصر عبد الناصر على العدوان الثلاثي.
وقد كان قيام كيان إسرائيل عام 1948، وتسارع واشنطن للاعتراف به، هو المحطة البارزة في تاريخ العلاقة بين أميركا والبلدان العربية. وكان الصراع العربي/الصهيوني هو المحور الأساس بمؤشر الصعود والهبوط في نوعية العلاقات العربية/الأميركية. وكانت حرب 1967 ذروة التصعيد الأميركي المباشر ضدَّ العرب حيث ساهمت واشنطن عسكرياً آنذاك في دعم العدوان الإسرائيلي بعد أن فشلت أميركا في مرحلة ما قبل حرب 1967 في ضغوطها السياسية والاقتصادية على مصر عبد الناصر.
وكانت مرحلة الرئيس جونسون أسوأ حقبة في تاريخ العلاقات الأميركية/العربية، ثم جاءت مرحلة الرئيس نيكسون الذي استطاع من خلال "مبادرة روجرز" صيف عام 1970 وقف إطلاق النار على جبهة قناة السويس (التي شهدت على مدار سنتين على الضفة الشرقية للقناة حرب استنزافٍ قاسية للمحتلّين الإسرائيليين).
إنّ القدر لم يسمح لجمال عبد الناصر أن يعيش طويلاً وأن يحصد ثمرة إعادة بنائه للقوات المسلحة المصرية، إضافة إلى سياسة التضامن العربي التي أرسى عبد الناصر قواعدها عام 1967 في قمَّة الخرطوم.
فلحظة التحوّل التاريخي في دور مصر، وفي النفوذ الأميركي بالمنطقة كلها، بدأت بعد وفاة ناصر، حيث استثمر أنور السادات انتصار حرب 73 ليقبل بما لم يقبله ناصر بعد هزيمة 1967، أي الصلح والاعتراف والمفاوضات مع إسرائيل، وبشكلٍ منفرد ومستقل عن باقي الجبهات العربية وعن جوهر الصراع: القضية الفلسطينية. وارتضى السادات أن يكون الانسحاب من سيناء هو الثمن لتحويل مجرى الدور المصري في المنطقة العربية (والعالم الثالث) من موقع القيادة إلى حال "السلامة عن طريق الانعزال" وهي الجملة التي كان عبد الناصر يردّد بعد حرب 1967 رفضه لها في معظم خطبه.
كانت كامب دافيد "الأولى" ثمرة جهود كسينجر في ترسيخ سياسة (الخطوة خطوة) والتي اقتلعت دور مصر (خطوة خطوة) منذ مفاوضات فكّ الارتباط عقب حرب 73 إلى حين توقيع معاهدات كامب دايفيد بين مصر وإسرائيل بإشراف العرّاب الأميركي.
أيضاً، كان الانهيار يحدث عربياً (خطوة خطوة) حول أكثر من قضية وفي أكثر من مكان وزمان، ونجحت واشنطن في خطوات "عربَنة الصراعات" إضافة إلى تقييد مصر عن ممارسة دورها العربي الريادي.
وكان من مظاهر "عربنة الصراعات" في المنطقة، الحرب اللبنانية التي تورّط فيها أكثر من طرف عربي، ثمّ ما قام به النظام العراقي السابق عام 1990 من غزو لدولة الكويت، ثمّ حرب الخليج الثانية.
مع هذا التطوّر النوعي السلبي في المنطقة، انتقلت العلاقات العربية/الأميركية من دور الخصومة الى دور "الشراكة"، وكانت أبرز الآمال الأميركية من هذا الدور الجديد هو تشجيع الأطراف العربية على استكمال "الخطوات" التي بدأت بين مصر وإسرائيل في "كامب دافيد" الأولى، وذلك عبر صيغة مؤتمر مدريد أولاً ثمّ من خلال الاتفاقيات المنفردة التي نتجت عن المفاوضات السرية في أوسلو.
لكن حدثت لحظة التصادم الكبير من جديد بين واشنطن والمنطقة العربية في ظلّ إدارة بوش التي غزت العراق واحتلّت وما تزال كلَّ أراضيه، إضافة إلى دعمها المفتوح لإسرائيل ومحاربة كل ظاهرة للمقاومة ضدَّ الاحتلال.
****
إنّ من المهمّ، بعد هذه اللمحة السريعة عن العلاقات العربية/الأميركية، النّظر إلى واقع ومستقبل هذه العلاقات من خلال الأمور التالية:
أولاً: هناك مزيج من اتفاقيات ثنائية أميركية مع عدد من الدول العربية، مقابل تأزّم كبير في العلاقة مع أطراف عربية أخرى. وما تعتمده واشنطن من معيار لها في تفسير ذلك هو مدى القرب أو البعد عن سياستها تجاه إيران دون أن تعير التفاتاً إلى معيار موقفها من الصراع العربي/الإٍٍٍسرائيلي أو في المسألة العراقية.
ثانياً: هناك صراع على مستقبل هوية المنطقة، فالعرب يريدونها هوية عربية، وأميركا تعمل للهوية "الشرق أوسطية"، وأوروبا تدعو ل"الهوية المتوسطية". وتدرك واشنطن أنّ سيطرتها الكاملة على المنطقة العربية هو أمر يتنافس مع مصالح قوى إقليمية ودولية أخرى وهذا ما يجعل المنطقة ساحة تنافس دولي، ولو في حدوده الدنيا الآن، مح احتمال تصاعده مستقبلا.
ثالثاًً: على الجانب العربي، من المهم التخلّي عن المقولة التالية: "إنّ أميركا غير عادلة في المنطقة لأنّ اللوبي الإسرائيلي يتحكّم في سياستها الخارجية". فالواقع هو أنّ لأميركا، وقبل وجود إسرائيل، مصالحها الخاصة الاستراتيجية في المنطقة. وهي، أي أميركا، تستخدم الوجود الإسرائيلي لتحقيق هذه المصالح الأميركية مقابل ما تقدّمه من مساعدات لإسرائيل.
إنّ واقع حال العلاقات العربية/الأميركية في أزمة.. وآفاقها تنذر بمزيد من التصادم ما لم يحصل تعديل في المسار الأميركي، خاصّةً في جانبه المتعلّق باحتلال العراق وبالصراع العربي الإسرائيلي. وأمام الإدارة الأميركية القادمة إمّّا خيار العداء أو الصداقة مع العرب.
لا يمكن اعتبار معاهدة الصداقة المبرمة عام 1789 بين المغرب والولايات المتحدة بدايةً فعلية لتاريخ العلاقات العربية/الأميركية. فصحيح أنّ هذه المعاهدة هي من أقدم المعاهدات الأميركية التي ما زالت سارية المفعول، وعمرها يساوي عمر الدستور الأميركي، لكنّها كانت مع بلد عربي أطلسي ولم تكن مع عموم المنطقة العربية التي بغالبيتها كانت ترزح تحت السلطة العثمانية وبدايات الاحتلال الأوروبي. فقد كان للولايات المتحدة آنذاك دور محدود جدا في المنطقة العربية بل في عموم العالم… لكن تأثير الولايات المتحدة بدأ ينمو في العالم العربي منذ بداية القرن العشرين، بعد ثورة صناعة السيارات والطائرات وبعد اكتشاف الحاجة لنفط الجزيرة العربية عقب الحرب العالمية الأولى التي ساهمت فيها أميركا، ثمّ من خلال الامتداد الأميركي الى مناطق النفوذ البريطاني والفرنسي عقب الحرب العالمية الثانية. أمّا التأثير الأميركي الفعّال في المنطقة فقد بدأ يحدث عملياً بعد انطلاقة الحرب الباردة بين موسكو واشنطن، وتنافس المعسكرين على وراثة النفوذ الأوروبي الذي اضمحلّ نتيجة الحرب العالمية الثانية خاصّةً بعد حرب السويس وانتصار مصر عبد الناصر على العدوان الثلاثي.
وقد كان قيام كيان إسرائيل عام 1948، وتسارع واشنطن للاعتراف به، هو المحطة البارزة في تاريخ العلاقة بين أميركا والبلدان العربية. وكان الصراع العربي/الصهيوني هو المحور الأساس بمؤشر الصعود والهبوط في نوعية العلاقات العربية/الأميركية. وكانت حرب 1967 ذروة التصعيد الأميركي المباشر ضدَّ العرب حيث ساهمت واشنطن عسكرياً آنذاك في دعم العدوان الإسرائيلي بعد أن فشلت أميركا في مرحلة ما قبل حرب 1967 في ضغوطها السياسية والاقتصادية على مصر عبد الناصر.
وكانت مرحلة الرئيس جونسون أسوأ حقبة في تاريخ العلاقات الأميركية/العربية، ثم جاءت مرحلة الرئيس نيكسون الذي استطاع من خلال "مبادرة روجرز" صيف عام 1970 وقف إطلاق النار على جبهة قناة السويس (التي شهدت على مدار سنتين على الضفة الشرقية للقناة حرب استنزافٍ قاسية للمحتلّين الإسرائيليين).
إنّ القدر لم يسمح لجمال عبد الناصر أن يعيش طويلاً وأن يحصد ثمرة إعادة بنائه للقوات المسلحة المصرية، إضافة إلى سياسة التضامن العربي التي أرسى عبد الناصر قواعدها عام 1967 في قمَّة الخرطوم.
فلحظة التحوّل التاريخي في دور مصر، وفي النفوذ الأميركي بالمنطقة كلها، بدأت بعد وفاة ناصر، حيث استثمر أنور السادات انتصار حرب 73 ليقبل بما لم يقبله ناصر بعد هزيمة 1967، أي الصلح والاعتراف والمفاوضات مع إسرائيل، وبشكلٍ منفرد ومستقل عن باقي الجبهات العربية وعن جوهر الصراع: القضية الفلسطينية. وارتضى السادات أن يكون الانسحاب من سيناء هو الثمن لتحويل مجرى الدور المصري في المنطقة العربية (والعالم الثالث) من موقع القيادة إلى حال "السلامة عن طريق الانعزال" وهي الجملة التي كان عبد الناصر يردّد بعد حرب 1967 رفضه لها في معظم خطبه.
كانت كامب دافيد "الأولى" ثمرة جهود كسينجر في ترسيخ سياسة (الخطوة خطوة) والتي اقتلعت دور مصر (خطوة خطوة) منذ مفاوضات فكّ الارتباط عقب حرب 73 إلى حين توقيع معاهدات كامب دايفيد بين مصر وإسرائيل بإشراف العرّاب الأميركي.
أيضاً، كان الانهيار يحدث عربياً (خطوة خطوة) حول أكثر من قضية وفي أكثر من مكان وزمان، ونجحت واشنطن في خطوات "عربَنة الصراعات" إضافة إلى تقييد مصر عن ممارسة دورها العربي الريادي.
وكان من مظاهر "عربنة الصراعات" في المنطقة، الحرب اللبنانية التي تورّط فيها أكثر من طرف عربي، ثمّ ما قام به النظام العراقي السابق عام 1990 من غزو لدولة الكويت، ثمّ حرب الخليج الثانية.
مع هذا التطوّر النوعي السلبي في المنطقة، انتقلت العلاقات العربية/الأميركية من دور الخصومة الى دور "الشراكة"، وكانت أبرز الآمال الأميركية من هذا الدور الجديد هو تشجيع الأطراف العربية على استكمال "الخطوات" التي بدأت بين مصر وإسرائيل في "كامب دافيد" الأولى، وذلك عبر صيغة مؤتمر مدريد أولاً ثمّ من خلال الاتفاقيات المنفردة التي نتجت عن المفاوضات السرية في أوسلو.
لكن حدثت لحظة التصادم الكبير من جديد بين واشنطن والمنطقة العربية في ظلّ إدارة بوش التي غزت العراق واحتلّت وما تزال كلَّ أراضيه، إضافة إلى دعمها المفتوح لإسرائيل ومحاربة كل ظاهرة للمقاومة ضدَّ الاحتلال.
****
إنّ من المهمّ، بعد هذه اللمحة السريعة عن العلاقات العربية/الأميركية، النّظر إلى واقع ومستقبل هذه العلاقات من خلال الأمور التالية:
أولاً: هناك مزيج من اتفاقيات ثنائية أميركية مع عدد من الدول العربية، مقابل تأزّم كبير في العلاقة مع أطراف عربية أخرى. وما تعتمده واشنطن من معيار لها في تفسير ذلك هو مدى القرب أو البعد عن سياستها تجاه إيران دون أن تعير التفاتاً إلى معيار موقفها من الصراع العربي/الإٍٍٍسرائيلي أو في المسألة العراقية.
ثانياً: هناك صراع على مستقبل هوية المنطقة، فالعرب يريدونها هوية عربية، وأميركا تعمل للهوية "الشرق أوسطية"، وأوروبا تدعو ل"الهوية المتوسطية". وتدرك واشنطن أنّ سيطرتها الكاملة على المنطقة العربية هو أمر يتنافس مع مصالح قوى إقليمية ودولية أخرى وهذا ما يجعل المنطقة ساحة تنافس دولي، ولو في حدوده الدنيا الآن، مح احتمال تصاعده مستقبلا.
ثالثاًً: على الجانب العربي، من المهم التخلّي عن المقولة التالية: "إنّ أميركا غير عادلة في المنطقة لأنّ اللوبي الإسرائيلي يتحكّم في سياستها الخارجية". فالواقع هو أنّ لأميركا، وقبل وجود إسرائيل، مصالحها الخاصة الاستراتيجية في المنطقة. وهي، أي أميركا، تستخدم الوجود الإسرائيلي لتحقيق هذه المصالح الأميركية مقابل ما تقدّمه من مساعدات لإسرائيل.
إنّ واقع حال العلاقات العربية/الأميركية في أزمة.. وآفاقها تنذر بمزيد من التصادم ما لم يحصل تعديل في المسار الأميركي، خاصّةً في جانبه المتعلّق باحتلال العراق وبالصراع العربي الإسرائيلي. وأمام الإدارة الأميركية القادمة إمّّا خيار العداء أو الصداقة مع العرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق