د. عبدالله المدني
لعلها من المرات القليلة جدا، بل النادرة في تاريخ الأمم والشعوب، أن يسقط فيها نظام ملكي عريق دون إراقة دماء رموزه وقادته، بل دون اعتقالهم أو توقيفهم للمحاكمة. الأغرب من هذا، ولعله الأندر أيضا، أن رأس النظام ، أي الملك الذي كثيرا ما أشير إليه بالطاغية والفاسد والإقطاعي أو بكل هذه الصفات مجتمعة، لم يقطع اربأ مثلما شاهدنا في حالة النظام الملكي العراقي في عام 1958، ولم يطرد من البلاد شر طردة مثلما حدث مع رأس النظام الملكي المصري في عام 1952، بل عومل معاملة كريمة لم يألفها الملوك المطاح بعروشهم.
وهذا لعمري ينم عن تغيير واضح في سلوك الشيوعيين الماويين، يمكننا معه أن نجزم أنهم تغيروا مثل كل شيء شمله التغيير في هذا الكون الواسع فيما عدا بعض العقول الصدأة في عالمنا العربي. فالثوار الماويون الذين كانوا يبثون الذعر والخوف أينما حلوا لشراستهم واستمتاعهم بالقتل والتعذيب على نحو ما حدث في مسيرة الزحف الأكبر والثورة الثقافية في الصين، والذين خرج من بين صفوف إيديولوجيتهم المتطرفة اكبر هاو لجمع الجماجم البشرية، ونقصد به الزعيم الكمبودي بول بوت، إضافة إلى الآلاف ممن بقروا بطون النساء الحوامل في اندونيسيا والهند الصينية وشمال غرب الهند، هم أصحاب المعاملة المشار إليها أعلاه.
إن الحديث هنا، بطبيعة الحال، يدور حول ما حدث مؤخرا في النيبال التي استبدلت نظاما ملكيا عريقا له من العمر 240 عاما بنظام جمهوري هو في الواقع ثمار حملات متتالية من اجل إسقاط الملكية بدأها الشيوعيون الماويون في الستينات وتواصلت حتى التسعينات التي شهدت تفاهمهم مع الأحزاب السياسية الرئيسية الأخرى حول الهدف نفسه، وصولا إلى يوم 28 مايو/ أيار المنصرم الذي قررت فيه الجمعية التشريعية المنتخبة حديثا إلغاء الملكية لصالح "جمهورية ديمقراطية علمانية اتحادية مستقلة ذات سيادة " تحت اسم "جمهورية النيبال الاتحادية". وعطفا على هذا القرار الذي صوت لصالحه 560 نائبا وعارضه أربع نواب فقط، طلب البرلمان من آخر رؤساء حكومات العهد الملكي وزعيم حزب المؤتمر التاريخي الذي أدار البلاد في معظم سنوات الحقبة الاستقلالية السياسي العجوز "جيريا كوارالا" أن يرسل رسالة إلى الملك يخبره فيها بقرار خلعه وضرورة إخلائه للقصر الملكي ( المقصود قصر نارايانهيتي الوردي الذي ظل مقرا للأسرة المالكة منذ أكثر من 120 عاما) في غضون اسبوعين كي يتم تحويل القصر إلى متحف وطني للشعب.
والحقيقة أن التصويت الساحق لصالح إلغاء الملكية لم يمنع من ظهور بعض الفقهاء القانونيين للإشارة إلى ثلاث مخالفات دستورية وقعت أثناء العملية، وبالتالي القول بان الأخيرة شابهها بعض القصور: أولا: إن جلسة إلغاء النظام الملكي لم تعقد بكامل أعضاء البرلمان أي بوجود 601 عضو مثلما ينص الدستور، وذلك بسبب فشل الحكومة في تسمية الأعضاء الست والعشرين المعينين. ثانيا: الاقتراح المقدم بإلغاء الملغية وتغيير النظام إلى نظام جمهوري قدم من قبل رئيس الحكومة المؤقتة " كرشنا ستاولا" الذي لا يحق له ذلك باعتباره ليس عضوا في البرلمان لأنه فشل في الفوز بمقعد نيابي في انتخابات ابريل/ نيسان 2008 التشريعية. ثالثا: خلافا لما هو منصوص عليه في الدستور، طرح موضوع إلغاء الملكية للتصويت دون إتاحة الفرصة لممثلي الشعب لمناقشته والتحاور حوله.
مثلما كانت ردة فعل الملك فاروق في مصر على قرار خلعه من قبل ضباط الجيش، لم يبد العاهل النيبالي جيانيندرا شاه (60 عاما) أدنى مقاومة لقرار نواب شعبه، بل تقبله وكأنه زاهد في العرش وامتيازاته الكثيرة. وفي إشارة أخرى ربما كانت مقصودة وموجهة إلى المجتمع الدولي - وتحديدا إلى واشنطون التي لا تزال تعتبرهم ضمن قائمة الإرهابيين - بأنهم لم يعودوا كما كانوا في الماضي أقدم ماويو النيبال على عملين حضاريين أخريين: الأول السماح للملك المخلوع وأسرته البقاء مؤقتا في إحدى القصور الملكية الصغيرة في ضواحي العاصمة كاتمندو، وتحديدا قصر "ناغارجون" الذي كان شقيقه الراحل الملك بيريندرا قد بناه، مع استمرار الأسرة بالتمتع بخدمات عدد ضئيل من الحرس والخدم لا يتجاوز 75 عنصرا بدلا من 600 عنصر. والثاني السماح للملك بتوجيه آخر خطاب متلفز إلى الشعب، وهو الخطاب الذي بثه التلفزيون النيبالي الرسمي مباشرة واستغرق 14 دقيقة وقال فيه الرجل أنه سوف يحترم إرادة ممثلي شعبه ويتنحى، لكنه سيبقى في البلاد ولن يغادرها إلى المنفى، نافيا سرقته لثروات طائلة من أموال البلاد وتهريبها إلى الخارج أو امتلاكه لمليارات الدولارات في المصارف الاجنبية مثلما أشيع، و إلا لفضل الالتحاق بها، ومؤكدا أن كل أملاكه كانت داخل البلاد وقد تم الآن تأميمها.
في مقال سابق لي حول هذه البلاد وتطوراتها حمل عنوان " سيأتي يوم يندم فيه النيباليون على إطاحتهم بالملكية" قلت من وحي ما خبرناه وعايشناه في العالم العربي أن العبرة ليست في التسميات، فكم من نظام جمهوري لم يأت إلا بالكوارث والهزائم والتخلف والانحطاط، وكم من نظام ملكي تحقق في ظله الأمن والاستقرار والنهضة والتحديث و التنمية.
احد الأصدقاء لم يستسغ هذه المقولة، فشن علي حملة شعواء من منطلق انه لا مفاضلة ما بين ملكية ترتبط تقليديا بالإقطاع والظلم والاستغلال والتوريث، وجمهورية يقودها ثوار محررون خرجوا من صفوف الجماهير ويطمحون إلى إقامة العدالة والمساواة. وربما لولا وجودنا في مكان عام ووسط بعض الأصدقاء من الجانبين لهم بضربي. هذا رغم محدودية إطلاع الصديق على أوضاع نيبال وتاريخها ومستجداتها.
إن ما حذرت منه في مقالي المشار إليه أعلاه بدأ يظهر للعيان. فالذين تحمسوا للإطاحة للملكية وعلى رأسهم الشيوعيون الماويون ممن يسيطرون اليوم على 220 مقعدا ، لا يملكون خطة واضحة أو برنامجا دقيقا لتدشين إصلاحات تنقل هذه البلاد التي تعتبر ثاني أفقر بلد على مستوى العالم من التخلف إلى التقدم. ذلك أن كل ما تسرب عنهم من خطط حتى الآن ليست سوى شعارات عامة يقصد بها دغدغة عواطف شعب يتطلع إلى الارتقاء بمستويات معيشته ليس إلا، مثل: ضرورة الإصلاح الزراعي وتوزيع الثروة بعدالة اكبر ومنع الاحتكار وضرب الفساد. والشيء نفسه يقال حول البرلمان الجمهوري المنتخب الذي يتمثل فيه حزب المؤتمر بمائة وعشر مقاعد والشيوعيون اللينينيون بمائة وثلاث مقاعد وذوي الأصول الهندية باثنين وخمسين مقعدا، حيث لم يصدر عنه من القرارات إلا تلك الشبيهة بقرارات الأنظمة الثورجية أي تلك التي تشتمل على طائفة طويلة من اللاءات أو الإلغاءات مثل: إلغاء عيد جلوس الملك كيوم وطني واستبداله بيوم الجمهورية في 29 مايو/أيار، واستبدال النشيد الوطني، وإلغاء العلم القديم واستبداله بعلم جديد، علما بأن العلم القديم كان متميزا عن غيره على مستوى العالم كونه الوحيد الذي لم يكن مستطيلا وإنما عبارة عن مثلثين يجسدان من حيث الشكل جبال الهملايا، ومن حيث العدد الديانتين البوذية والهندوسية، ومن حيث النقوش داخل المثلثين (شمس وقمر) بقاء الأمة النيبالية ما بقيت الشمس وما بقي القمر.
الأمر الآخر الذي يشير إلى أن مستقبل هذه البلاد ليس واعدا في ظل الجمهورية مثلما يتمنى البعض هو الخلاف الذي بدأ يطفو على السطح بين الشيوعيين الماويين والكتل السياسية الأخرى حول العديد من الملفات. من هذه الملفات ملف رئاسة الدولة التي يريدها زعيم الثوار الماويين الرفيق"براتشاندا"، واسمه الأصلي " بوسبا كمال دال" لنفسه، بدليل البيان الذي وجهه الماويون إلى الشعب مؤخرا وقالوا فيه إن مهمتهم لم تنته بسقوط الملكية وإنما ستستمر إلى اطمئنانهم إلى أن هناك في موقع صنع القرار النهائي من يمثل الشعب حقيقة ومختار من قبله بحرية. هذا في الوقت الذي يطمح فيه السياسي العجوز " جيريا كوارالا" مدعوما من حزبه في أن يكون أول رئيس للجمهورية، الأمر الذي تقاومه الكتل السياسية الأخرى في البرلمان أيضا بذريعة انه من الأفضل إعطاء المنصب إلى شخصية غير حزبية وبعيدة عن الانتماءات السياسية. ومن الملفات الشائكة الأخرى، ملف تشكيل أول حكومة في العهد الجديد الذي تأخر كثيرا بسبب عدم حسم الملف الأول، ناهيك عن إصرار الرفيق " براتشاندا" ورفاقه على تشكيل حكومة ائتلافية مكونة من كافة الأحزاب الممثلة في البرلمان، واعتراض الشيوعيين اللينيين على ذلك. والمعروف في هذا السياق أن الماويين سبق وان هددوا علنا – في صورة تعكس خصال الإقصاء المعروفة عنهم - بأن كل من يعرقل مهمة النظام الجديد في أي مجال - سيدفع ثمنا كبيرا.
ومن الملفات المختلف حولها أيضا: كيفية دمج عناصر الميليشيات الماوية في الجيش الوطني. فعلى حين يصر الرفيق " براتشاندا" على ضرورة دمقرطة المؤسسة العسكرية وتأهيل جيش التحرير الشعبي الماوي تأهيلا عاليا كمفتاح لعملية الدمج، فان العجوز " كوارالا " يري في عملية الدمج تسييسا للجيش يجب تفاديه.
و لا يخفى أن تأخر حسم موضوع تشكيل الحكومة سوف يؤثر على قرار مجلس الأمن الدولي المفترض التئامه في 23 يوليو/تموز المقبل حول استمرار مهام بعثة " يوميم” الأممية في نيبال من عدمه. ذلك أن استمرار البعثة التي تشكلت بناء على طلب تحالف الأحزاب النيبالية إلى الأمين العام للأمم المتحدة في التاسع من أغسطس/ آب 2006 لإرسال مراقبين من اجل المساعدة في خلق مناخ حر لإجراء انتخابات برلمانية و تدشين عملية مصالحة وسلام، يتطلب موافقة حكومة كاتمندو.
من جهة أخرى، يقول المحللون ومتابعو شئون شبه القارة الهندية أن إطالة أمد الفراغ لن تستفيد منه سوى الهند باعتبارها الجارة الكبرى ذات الروابط التاريخية والدينية والعرقية المتجذرة، فضلا عن معاهدة الصداقة والسلام التي ابرمها البلدان في عام 1950،والتي يحاول الهنود تجديدها عبر إقامة علاقات تحالف وثقة مع النظام الجديد وعبر تذكير الأخير بأن بكين هي التي كانت تدعم الجيش الملكي النيبالي في حربه ضد الثوار، وليست نيودلهي. وفي هذا الإطار التقى المندوب السامي الهندي في كاتمندو بزعماء جميع الأحزاب السياسية وطاف على القيادات البارزة في النظام الجديد، رغم كل البيانات والمنشورات الحزبية الماوية التي لا زالت تتوالى متهمة نيودلهي بالتحالف مع الإمبرياليين الأمريكيين لاضطهاد الشعوب المكافحة.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي متخصص في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة : 22 يونيو 2008
البريد الالكتروني: elmadani@batelco.com.bh
لعلها من المرات القليلة جدا، بل النادرة في تاريخ الأمم والشعوب، أن يسقط فيها نظام ملكي عريق دون إراقة دماء رموزه وقادته، بل دون اعتقالهم أو توقيفهم للمحاكمة. الأغرب من هذا، ولعله الأندر أيضا، أن رأس النظام ، أي الملك الذي كثيرا ما أشير إليه بالطاغية والفاسد والإقطاعي أو بكل هذه الصفات مجتمعة، لم يقطع اربأ مثلما شاهدنا في حالة النظام الملكي العراقي في عام 1958، ولم يطرد من البلاد شر طردة مثلما حدث مع رأس النظام الملكي المصري في عام 1952، بل عومل معاملة كريمة لم يألفها الملوك المطاح بعروشهم.
وهذا لعمري ينم عن تغيير واضح في سلوك الشيوعيين الماويين، يمكننا معه أن نجزم أنهم تغيروا مثل كل شيء شمله التغيير في هذا الكون الواسع فيما عدا بعض العقول الصدأة في عالمنا العربي. فالثوار الماويون الذين كانوا يبثون الذعر والخوف أينما حلوا لشراستهم واستمتاعهم بالقتل والتعذيب على نحو ما حدث في مسيرة الزحف الأكبر والثورة الثقافية في الصين، والذين خرج من بين صفوف إيديولوجيتهم المتطرفة اكبر هاو لجمع الجماجم البشرية، ونقصد به الزعيم الكمبودي بول بوت، إضافة إلى الآلاف ممن بقروا بطون النساء الحوامل في اندونيسيا والهند الصينية وشمال غرب الهند، هم أصحاب المعاملة المشار إليها أعلاه.
إن الحديث هنا، بطبيعة الحال، يدور حول ما حدث مؤخرا في النيبال التي استبدلت نظاما ملكيا عريقا له من العمر 240 عاما بنظام جمهوري هو في الواقع ثمار حملات متتالية من اجل إسقاط الملكية بدأها الشيوعيون الماويون في الستينات وتواصلت حتى التسعينات التي شهدت تفاهمهم مع الأحزاب السياسية الرئيسية الأخرى حول الهدف نفسه، وصولا إلى يوم 28 مايو/ أيار المنصرم الذي قررت فيه الجمعية التشريعية المنتخبة حديثا إلغاء الملكية لصالح "جمهورية ديمقراطية علمانية اتحادية مستقلة ذات سيادة " تحت اسم "جمهورية النيبال الاتحادية". وعطفا على هذا القرار الذي صوت لصالحه 560 نائبا وعارضه أربع نواب فقط، طلب البرلمان من آخر رؤساء حكومات العهد الملكي وزعيم حزب المؤتمر التاريخي الذي أدار البلاد في معظم سنوات الحقبة الاستقلالية السياسي العجوز "جيريا كوارالا" أن يرسل رسالة إلى الملك يخبره فيها بقرار خلعه وضرورة إخلائه للقصر الملكي ( المقصود قصر نارايانهيتي الوردي الذي ظل مقرا للأسرة المالكة منذ أكثر من 120 عاما) في غضون اسبوعين كي يتم تحويل القصر إلى متحف وطني للشعب.
والحقيقة أن التصويت الساحق لصالح إلغاء الملكية لم يمنع من ظهور بعض الفقهاء القانونيين للإشارة إلى ثلاث مخالفات دستورية وقعت أثناء العملية، وبالتالي القول بان الأخيرة شابهها بعض القصور: أولا: إن جلسة إلغاء النظام الملكي لم تعقد بكامل أعضاء البرلمان أي بوجود 601 عضو مثلما ينص الدستور، وذلك بسبب فشل الحكومة في تسمية الأعضاء الست والعشرين المعينين. ثانيا: الاقتراح المقدم بإلغاء الملغية وتغيير النظام إلى نظام جمهوري قدم من قبل رئيس الحكومة المؤقتة " كرشنا ستاولا" الذي لا يحق له ذلك باعتباره ليس عضوا في البرلمان لأنه فشل في الفوز بمقعد نيابي في انتخابات ابريل/ نيسان 2008 التشريعية. ثالثا: خلافا لما هو منصوص عليه في الدستور، طرح موضوع إلغاء الملكية للتصويت دون إتاحة الفرصة لممثلي الشعب لمناقشته والتحاور حوله.
مثلما كانت ردة فعل الملك فاروق في مصر على قرار خلعه من قبل ضباط الجيش، لم يبد العاهل النيبالي جيانيندرا شاه (60 عاما) أدنى مقاومة لقرار نواب شعبه، بل تقبله وكأنه زاهد في العرش وامتيازاته الكثيرة. وفي إشارة أخرى ربما كانت مقصودة وموجهة إلى المجتمع الدولي - وتحديدا إلى واشنطون التي لا تزال تعتبرهم ضمن قائمة الإرهابيين - بأنهم لم يعودوا كما كانوا في الماضي أقدم ماويو النيبال على عملين حضاريين أخريين: الأول السماح للملك المخلوع وأسرته البقاء مؤقتا في إحدى القصور الملكية الصغيرة في ضواحي العاصمة كاتمندو، وتحديدا قصر "ناغارجون" الذي كان شقيقه الراحل الملك بيريندرا قد بناه، مع استمرار الأسرة بالتمتع بخدمات عدد ضئيل من الحرس والخدم لا يتجاوز 75 عنصرا بدلا من 600 عنصر. والثاني السماح للملك بتوجيه آخر خطاب متلفز إلى الشعب، وهو الخطاب الذي بثه التلفزيون النيبالي الرسمي مباشرة واستغرق 14 دقيقة وقال فيه الرجل أنه سوف يحترم إرادة ممثلي شعبه ويتنحى، لكنه سيبقى في البلاد ولن يغادرها إلى المنفى، نافيا سرقته لثروات طائلة من أموال البلاد وتهريبها إلى الخارج أو امتلاكه لمليارات الدولارات في المصارف الاجنبية مثلما أشيع، و إلا لفضل الالتحاق بها، ومؤكدا أن كل أملاكه كانت داخل البلاد وقد تم الآن تأميمها.
في مقال سابق لي حول هذه البلاد وتطوراتها حمل عنوان " سيأتي يوم يندم فيه النيباليون على إطاحتهم بالملكية" قلت من وحي ما خبرناه وعايشناه في العالم العربي أن العبرة ليست في التسميات، فكم من نظام جمهوري لم يأت إلا بالكوارث والهزائم والتخلف والانحطاط، وكم من نظام ملكي تحقق في ظله الأمن والاستقرار والنهضة والتحديث و التنمية.
احد الأصدقاء لم يستسغ هذه المقولة، فشن علي حملة شعواء من منطلق انه لا مفاضلة ما بين ملكية ترتبط تقليديا بالإقطاع والظلم والاستغلال والتوريث، وجمهورية يقودها ثوار محررون خرجوا من صفوف الجماهير ويطمحون إلى إقامة العدالة والمساواة. وربما لولا وجودنا في مكان عام ووسط بعض الأصدقاء من الجانبين لهم بضربي. هذا رغم محدودية إطلاع الصديق على أوضاع نيبال وتاريخها ومستجداتها.
إن ما حذرت منه في مقالي المشار إليه أعلاه بدأ يظهر للعيان. فالذين تحمسوا للإطاحة للملكية وعلى رأسهم الشيوعيون الماويون ممن يسيطرون اليوم على 220 مقعدا ، لا يملكون خطة واضحة أو برنامجا دقيقا لتدشين إصلاحات تنقل هذه البلاد التي تعتبر ثاني أفقر بلد على مستوى العالم من التخلف إلى التقدم. ذلك أن كل ما تسرب عنهم من خطط حتى الآن ليست سوى شعارات عامة يقصد بها دغدغة عواطف شعب يتطلع إلى الارتقاء بمستويات معيشته ليس إلا، مثل: ضرورة الإصلاح الزراعي وتوزيع الثروة بعدالة اكبر ومنع الاحتكار وضرب الفساد. والشيء نفسه يقال حول البرلمان الجمهوري المنتخب الذي يتمثل فيه حزب المؤتمر بمائة وعشر مقاعد والشيوعيون اللينينيون بمائة وثلاث مقاعد وذوي الأصول الهندية باثنين وخمسين مقعدا، حيث لم يصدر عنه من القرارات إلا تلك الشبيهة بقرارات الأنظمة الثورجية أي تلك التي تشتمل على طائفة طويلة من اللاءات أو الإلغاءات مثل: إلغاء عيد جلوس الملك كيوم وطني واستبداله بيوم الجمهورية في 29 مايو/أيار، واستبدال النشيد الوطني، وإلغاء العلم القديم واستبداله بعلم جديد، علما بأن العلم القديم كان متميزا عن غيره على مستوى العالم كونه الوحيد الذي لم يكن مستطيلا وإنما عبارة عن مثلثين يجسدان من حيث الشكل جبال الهملايا، ومن حيث العدد الديانتين البوذية والهندوسية، ومن حيث النقوش داخل المثلثين (شمس وقمر) بقاء الأمة النيبالية ما بقيت الشمس وما بقي القمر.
الأمر الآخر الذي يشير إلى أن مستقبل هذه البلاد ليس واعدا في ظل الجمهورية مثلما يتمنى البعض هو الخلاف الذي بدأ يطفو على السطح بين الشيوعيين الماويين والكتل السياسية الأخرى حول العديد من الملفات. من هذه الملفات ملف رئاسة الدولة التي يريدها زعيم الثوار الماويين الرفيق"براتشاندا"، واسمه الأصلي " بوسبا كمال دال" لنفسه، بدليل البيان الذي وجهه الماويون إلى الشعب مؤخرا وقالوا فيه إن مهمتهم لم تنته بسقوط الملكية وإنما ستستمر إلى اطمئنانهم إلى أن هناك في موقع صنع القرار النهائي من يمثل الشعب حقيقة ومختار من قبله بحرية. هذا في الوقت الذي يطمح فيه السياسي العجوز " جيريا كوارالا" مدعوما من حزبه في أن يكون أول رئيس للجمهورية، الأمر الذي تقاومه الكتل السياسية الأخرى في البرلمان أيضا بذريعة انه من الأفضل إعطاء المنصب إلى شخصية غير حزبية وبعيدة عن الانتماءات السياسية. ومن الملفات الشائكة الأخرى، ملف تشكيل أول حكومة في العهد الجديد الذي تأخر كثيرا بسبب عدم حسم الملف الأول، ناهيك عن إصرار الرفيق " براتشاندا" ورفاقه على تشكيل حكومة ائتلافية مكونة من كافة الأحزاب الممثلة في البرلمان، واعتراض الشيوعيين اللينيين على ذلك. والمعروف في هذا السياق أن الماويين سبق وان هددوا علنا – في صورة تعكس خصال الإقصاء المعروفة عنهم - بأن كل من يعرقل مهمة النظام الجديد في أي مجال - سيدفع ثمنا كبيرا.
ومن الملفات المختلف حولها أيضا: كيفية دمج عناصر الميليشيات الماوية في الجيش الوطني. فعلى حين يصر الرفيق " براتشاندا" على ضرورة دمقرطة المؤسسة العسكرية وتأهيل جيش التحرير الشعبي الماوي تأهيلا عاليا كمفتاح لعملية الدمج، فان العجوز " كوارالا " يري في عملية الدمج تسييسا للجيش يجب تفاديه.
و لا يخفى أن تأخر حسم موضوع تشكيل الحكومة سوف يؤثر على قرار مجلس الأمن الدولي المفترض التئامه في 23 يوليو/تموز المقبل حول استمرار مهام بعثة " يوميم” الأممية في نيبال من عدمه. ذلك أن استمرار البعثة التي تشكلت بناء على طلب تحالف الأحزاب النيبالية إلى الأمين العام للأمم المتحدة في التاسع من أغسطس/ آب 2006 لإرسال مراقبين من اجل المساعدة في خلق مناخ حر لإجراء انتخابات برلمانية و تدشين عملية مصالحة وسلام، يتطلب موافقة حكومة كاتمندو.
من جهة أخرى، يقول المحللون ومتابعو شئون شبه القارة الهندية أن إطالة أمد الفراغ لن تستفيد منه سوى الهند باعتبارها الجارة الكبرى ذات الروابط التاريخية والدينية والعرقية المتجذرة، فضلا عن معاهدة الصداقة والسلام التي ابرمها البلدان في عام 1950،والتي يحاول الهنود تجديدها عبر إقامة علاقات تحالف وثقة مع النظام الجديد وعبر تذكير الأخير بأن بكين هي التي كانت تدعم الجيش الملكي النيبالي في حربه ضد الثوار، وليست نيودلهي. وفي هذا الإطار التقى المندوب السامي الهندي في كاتمندو بزعماء جميع الأحزاب السياسية وطاف على القيادات البارزة في النظام الجديد، رغم كل البيانات والمنشورات الحزبية الماوية التي لا زالت تتوالى متهمة نيودلهي بالتحالف مع الإمبرياليين الأمريكيين لاضطهاد الشعوب المكافحة.
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي متخصص في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة : 22 يونيو 2008
البريد الالكتروني: elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق