د. عبدالله المدني
سألني أحد الأصدقاء مؤخرا إن كنت أرى في طريقة تعاطي النظامين الصيني والبورمي مع كارثتي الإعصار في بورما والزلزال في الصين، محركا للأمور السياسية في البلدين نحو التغيير والانفتاح، فكان ردي انه لا يجوز التعاطي مع الشأنين الصيني والبورمي بنفس الأدوات ونفس النظرة. فرغم ما يوجه إلى نظام بكين من انتقادات، فإنها لا تصل إلى درجة الانتقادات الموجهة إلى نظام رانغون الذي ضرب المثل في البطش والرعونة والاستهتار بحياة مواطنيه، بل والتلذذ بمعاناتهم، وهو ما ثبت عليه بالدليل القاطع من خلال إصراره على أن يقوم بنفسه بتوزيع المساعدات الدولية على ضحايا إعصار نرجس الأخير، دونما إشراف أو تدخل من الجهات المانحة، رغم توسل المجتمع الدولي إليه وزيارة الأمين العام للأمم المتحدة إلى رانغون.
وكي نضع القاريء في جو الأحداث وتطوراته منذ البداية نقول: إن إعصار نرجس ضرب الأجزاء الجنوبية الغربية من بورما في اليوم الثاني والثالث من مايو المنصرم، محدثا خرابا ودمارا غير مسبوقين في تاريخ هذا البلد مع الكوارث الطبيعية، ومفضيا – بحسب تقديرات الأمم المتحدة - إلى مقتل ما بين 63 ألف نسمة ومليون نسمة وتحويل نحو 220 ألف شخص إلى مشردين. ومنذ ذلك التاريخ حاول المجلس العسكري الحاكم الذي ليس له من اسمه (مجلس السلام والتنمية) نصيب إتباع سياسة مفادها إعطاء انطباع للداخل والخارج انه يملك الإمكانيات اللازمة للتعامل مع ما حدث وان أوضاع البلاد تحت السيطرة، وذلك عبر إصداره بيانات ومواقف متكررة ترفض فيها مساعدات ومعونات المجتمع الدولي – أو في أحسن الأحوال قبولها بشروط على شاكلة ألا يرافقها خبراء أو صحفيون أو كاميرات، أو تترك الحرية للمجلس العسكري الحاكم لجهة طريقة وأماكن توزيعها.
ورغم انه منذ التاسع من مايو الماضي أنهى مكابرته وغير لهجته المتعجرفة وصار يطلب رسميا من المجتمع الدولي نفس المساعدات التي عرضت عليه قبلا، بل التي طلب منه بإلحاح قبولها رأفة بالجياع والمرضى والمشردين من ضحايا الإعصار، فان النظام العسكري الذي يسجن شعب بورما في عزلة منذ عام 1962 ويحكم البلاد بقبضة حديدية منذ 1988 راح يراوغ عله يكسب نقطة هنا أو نقطة هناك. من ذلك إصراره على مواصلة التشدد فيما يتعلق بمنح التأشيرات إلى موظفي الإغاثة وخبراء المعونات الدولية المنتظرين في بانكوك أو على الحدود البورمية - التايلندية، وعدم خجله من التصريح علنا على لسان جنرالاته بأنه يريد مساعدات الإغاثة لكنه لا يريد موظفيها، ولا سيما الموظفين المكلفين بالتوزيع والذين سيعمدون حتما إلى منعهم من استغلال المساعدات لصالح فئة معينة بذاتها – مثل الفئات الأكثر ولاء لجنرالات الجيش أو أكثر قرابة لأسرهم – أو خوفا من استغلال تلك المساعدات ببيعها ووضع أثمانها في جيوبهم.
و في محاولة منه لتخفيف هذه السياسات المتشددة، حاول أمين عام الأمم المتحدة "بان كي مون" التدخل شخصيا عبر طيرانه من نيويورك إلى رانغون، لكن عسكر بورما المتغطرسون لم يقدروا للرجل تلك المبادرة الإنسانية، ولولا بقية من حياء لمنعوه أيضا من عقد مؤتمر صحفي. هذا المؤتمر الذي استغله الأمين العام ليعرض فيه قلق العالم كله من تأخر وصول المساعدات وموظفيها إلى بورما، وما يعنيه ذلك من إضافة أرقام جديدة إلى أعداد الموتى والمرضى والمشردين.
ولم تمض ساعة واحدة على هذا المؤتمر الصحفي حتى كان حكام بورما يطلقون النار على تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة بوقاحة قائلين " إن امتنا لا تحتاج إلى موظفي إغاثة ماهرين حتى هذا التاريخ، وان المجتمع الدولي إذا كان فعلا مهتما بمعاناة امتنا فليرسل مساعداته مباشرة إلى الحكومة ورموزها". وفي اليوم التالي خرجت مجلة " النور الجديدة" الناطقة بلسان عسكر بورما لتضيف أن المساعدات التي تحتاجها بورما يجب أن تكون على شاكلة المساعدات الهندية. والجدير بالذكر أن الهند التي تتنافس منذ عدة سنوات مع الصين على النفوذ في بورما بسبب الموقع الاستراتيجي للأخيرة من كليهما وبسبب موقعها الهام على خطوط الملاحة والتجارة والطاقة في المحيط الهندي، كانت قد سارعت إلى إرسال سفينتين من سفنها الحربية الضخمة لنقل إمدادات الإغاثة الطبية والغذائية غير المشروطة، وأعقبت ذلك بإرسال أربع طائرات من طائرات الشحن العملاقة المليئة بالأدوية والأغذية والخيام والبطانيات ومواد البناء. كذلك فعلت كل من سنغافورة وتايلند والصين وكمبوديا، بل و حتى السعودية.
غير ما استعرضناه في السطور الماضية من تصريحات ومواقف تنم عن الاستهتار بحياة المواطن البورمي، لكن في السياق ذاته، عقد وزير الرعاية الاجتماعية وعضو المجلس العسكري الحاكم الجنرال " موانغ موانغ شوي" مؤتمرا صحفيا قال فيه لأحد ممثلي الجهات المانحة ممن تجادل معه حول سياسات النظام البورمي في إخفاء الحقائق: " إذا كنتم تريدون زيارة بلادنا لنقل ما يجري فيها فاكتبوا لنا أولا وسوف ننظر في أمر كل طلب على حدة، ثم سنذهب سويا إلى المكان الذي تريدونه وفي الوقت الذي نحدده".
وحينما وافقت رانغون تحت ضغط الحاجة والحرج أمام العالم إلى الموافقة يوم 14 مايو على إدخال شحنتين من مساعدات برنامج الغذاء العالمي، تصرف جنرالاتها كالقراصنة فسيطروا على الشحنتين ووجهوها إلى الأماكن التي أرادوها وخططوا لها، الأمر الذي دفع البرنامج إلى وقف جهوده يوم 16 مايو، قبل أن يعود إلى العمل بعد يوم واحد تحت ضغط الظروف الإنسانية الخطيرة.
المتابعون للشأن البورمي عن كثب يجزمون بأن ما أملى على الطغمة الحاكمة في رانغون إتباع مثل هذه السياسات المتشددة، ليس فقط الاستفادة الذاتية من المساعدات الدولية، أو منع وصولها إلى قوى المعارضة بمن فيها كهنة المعابد البوذية الذين سجلوا انعطافة مهمة بتمردهم واحتجاجهم ضد النظام في سبتمبر من العام الماضي، وإنما أيضا الرغبة في توجيهها تحديدا إلى أفراد الجيش الذين هم دعامة النظام وحماته. فإعصار نرجس لم يقتل فقط المدنيين وإنما أزهق أيضا أرواح عدد غير معروف من العسكريين – ولا سيما ضمن القوات البحرية - و دمر منازلهم ومحاصيلهم وممتلكاتهم.
فمن وجهة نظر نظام رانغون إن الأولية في توزيع مساعدات الإغاثة الدولية يجب إن تعطى للجيش المكون من 400 ألف عنصر وليس لضحايا الإعصار من المدنيين أو من الفئات الأخرى المرتبطة بصورة من الصور بالنظام والذين يقدر عددهم بمليوني نسمة من اصل عدد سكان البلاد الإجمالي البالغ 22.5 مليون نسمة، فهؤلاء يمكنهم إن يتجاوزوا المحنة سريعا ويعودوا متكاتفين خلف النظام، لكن الجيش إذا حرم من الطعام وشعرت عائلاته بالجوع فلن يعود كما كان، وإنما تزدهر في داخله نزعة التمرد، خاصة إذا ما شاهد رؤساءه في نعيم وبحبوحة.
والحقيقة إن نقص الطعام ليست مشكلة جديدة بالنسبة للجيش البورمي، ففي تقرير نشر في التاسع من مايو من هذا العام قالت إحدى جماعات حقوق الإنسان المعروفة استنادا إلى مقابلة أجرتها مع احد جنود الجيش المتمردين، أن شح الغذاء كان من ضمن أسباب انشقاق ذلك الجندي وغيره. وحينما أجرت الجماعة الحقوقية ذاتها بحثا أكثر تفصيلا شمل أعدادا اكبر من الجنود المتمردين والمقاتلين في الميدان، أكد هؤلاء أن الجوع يعصف بعناصر الجيش، ليس فقط بسبب ندرة الطعام وإنما أيضا بسبب ارتفاع تكلفته الذي هو من ارتفاع تكاليف معظم السلع في العالم.
الدليل الآخر نستقيه من تقارير بعث بها عاملون ومقيمون أجانب في رانغون، اجمعوا فيها على الهزال والشحوب اللذين باتا من سمات الجندي البورمي بسبب نقص الطعام.
ولا يكتمل الموضوع دون الإشارة إلى أن النظام العسكري البورمي كان قد أمر في التسعينات من القرن المنصرم – ومن اجل تعزيز مكانته و نيل ولاء عناصر الجيش – بإطلاق يد الجنود في تحقيق الاكتفاء الذاتي لأنفسهم في أسباب الحياة. وتسبب هذا الأمر الجنوني – طبقا لمنظمات دولية وحقوقية عديدة – في حالات كثيرة من السرقة والحرق والاغتصاب وإجبار الناس على العمل كعبيد، والاستيلاء ظلما وعدوانا على الأراضي والمزارع والمنازل والممتلكات من قبل أصحاب البذلات الكاكية.
وبطبيعة الحال كان مثل هذه الحالات أكثر وضوحا في المناطق البعيدة عن العاصمة والحواضر، دون إن يعني هذا عدم وقوعها في الأخيرة. وبتلك السياسات الحمقاء ضمنت السلطة العسكرية البورمية لفترة طويلة نسبية حصول جنودها على الطعام وأشياء أخرى كثيرة كانت تلزمهم للإبقاء على ولائهم وتماهيهم مع سياسات المجلس العسكري الحاكم. غير أن الأمور منذ ما قبل إعصار نرجس توحي بحدوث تغيرات وحالات من التذمر ساهمت مجتمعة في حدوث تمرد متزايد في صفوف عناصر الجيش. وهذا تحديدا ما يحاول حكام رانغون تفاديه وتضييق نطاقه عبر تخصيص عناصر الجيش بالمساعدات ومنحهم الأولية في التوزيع.
الأمر الآخر الذي استعان به المراقبون كدليل إضافي على تلذذ حكام رانغون بمعاناة شعبهم، أو لا اكتراثهم بمصائبه، هو مضيه قدما في إجراء استفتاء شعبي حول دستور جديد للبلاد، في الوقت الذي كان فيه الآلاف من المواطنين يدفنون ضحاياهم أو يبحثون عما يسد رمقهم أو يقتفون اثر عزيز اختفى. فربما لأول مرة في التاريخ يقدم نظام على هكذا فعل مستهتر في هكذا ظرف تراجيدي، وليته كان من اجل إصلاح يعطي البورميين ما افتقدوه طويلا. فخطة الاستفتاء التي جرت في العاشر من مايو، ولم تتأجل إلى 24 منه إلا في المناطق الأكثر تضررا فقط ليست سوى عملية لا أخلاقية محبكة من جنرالات بورما لتأكيد سطوتهم واستمرارهم في الحكم، ومنع وصول زعيمة المعارضة الديمقراطية وابنة بطل الاستقلال "اونغ سان سو شي"ا إلى الحكم بحجة اقترانها برجل أجنبي، وإبقاء الأخيرة قيد الإقامة الجبرية لفترة أطول من السنوات الخمس الماضية، وتخصيص 25 بالمئة من مقاعد البرلمان لممثلي الجيش وبالتالي استحالة قدرة المدنيين على تغيير نصوص الدستور، ومنح رئاسة الدولة وكافة الحقائب السيادية في أية الحكومة مقبلة إلى عسكريين.
ورغم إجراء الاستفتاء على هكذا مضامين دستورية بليدة، وحدوث الاستفتاء وسط الأحزان وتداعيات إعصار نرجس المؤلمة، خرج الجنرال " أونغ تاو" رئيس اللجنة المشرفة على الاستفتاء، ليزف إلى العالم بأن الاستفتاء كان ناجحا وان نسبة الإقبال على الصناديق كانت 90 بالمئة فيما كانت نسب الذين صوتوا بنعم هي: 92.9 بالمئة. فصدق من قال: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة : 1 يونيو 2008
البريد الالكتروني: elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق