الأربعاء، يونيو 25، 2008

تسوية .. هدنة .. أم فخ؟

صبحي غندور
تدور الآن تساؤلات عدّة حول أبعاد وأهداف القطع المبعثرة في التسويات الجزئية التي حدثت وتحدث في المنطقة العربية.
فهل هي مقدّمة لتسويات شاملة في المنطقة أم مجرّد هدنة مؤقتّة هنا أو هناك، أم هي كمائن وأفخاخ تستهدف ظاهرة المقاومة وتحجيم الدور الإيراني في الصراع العربي/الإسرائيلي؟
رأس جبل هذه التطوّرات الأخيرة ظهر أولاً في الإعلان عن مفاوضات غير مباشرة ترعاها تركيا بين سوريا وإسرائيل، ثمّ حدثت تطوّرات أمنية وسياسية في لبنان دفعت إلى "اتفاق الدوحة" وما نتج عنه من انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية وتوافق على حصص وزارية وعلى دوائر انتخابية نيابية.
واستتبع "اتفاق الدوحة" اللبناني تنشيط لمحاولات رأب الصدع الداخلي الفلسطيني ولحلّ مشكلة الانقسام السياسي والجغرافي الحاصل بين الضفّة وغزّة.
لكن عوضاً عن حدوث التفاهم الداخلي الفلسطيني أولاً، جرى التفاهم (برعاية مصرية) على إعلان اتفاق للهدنة بين إسرائيل وحركة "حماس" التي يخضع قطاع غزّة لإدارتها الكاملة.
الملاحظ هنا، أنّ المفاوضات غير المباشرة الجارية بين سوريا وإسرائيل تحدث برعاية تركية، وليس برعاية أميركية أو أوروبية كما كان عهد المفاوضات الأخرى مع إسرائيل، وفي ظلّ استمرار التأزّم في العلاقات ما بين دمشق وواشنطن.
ثمّ حصل "اتفاق الدوحة" اللبناني دون أن يسبقه تفاهم سوري/سعودي أو إيراني/أميركي، وهذا ما كان مفاجئاً ومثيراً لكثير من التساؤلات عن مدى جدّية هذا الاتفاق وقابليته للتنفيذ الكامل.
ثمّ، أيضاً، حصل اتفاق الهدنة بين إسرائيل وحركة حماس دون اتفاق مسبق بين حركتيْ فتح وحماس أو بين الأطراف العربية والإقليمية والدولية الداعمة لهذه الجهة الفلسطينية أو تلك.
إذن، نحن أمام تسويات جزئية تحدث في المصبّ الأخير للأزمات لا في ينابيعها، أي كمن يضع سدوداً أمام أنهر جارفة قبل أن تُحدِث الطوفان في مناطق أخرى.
أهي إذن مجرّد هدنات مؤقتّة ستنفجر الأمور بعدها من جديد؟
هذا احتمال وارد إذا كان هناك من مصلحة في تفجير لاحق، بينما المؤشرات كلّها تدلّ على أنّ أطراف الصراع السياسي والعسكري الدائر الآن في المنطقة قد وصلت جميعها إلى طريق مسدود لا تقدر على تجاوزه، وهي بحاجة إلى مخرج من هذا التأزّم الناتج عن سلّة من الأزمات المتشابكة. فهناك متغيّرات تحدث الآن تتطلّب تعديلاً في النهج المتّبع لدى الأطراف عموماً. فالسنوات الخمس الماضية، أي منذ غزو العراق في ربيع العام 2003، شهدت في النصف الأول من هذه الفترة الزمنية صعوداً بالمشروع الأميركي/الإسرائيلي لإحداث تحوّلات سياسية كبيرة في المنطقة كان أولها احتلال العراق وتغيير نظامه، ثمّ كان الهدف اللاحق الضغط على طهران ودمشق لتغيير "سلوكهما" أو التهديد بتغيير الأنظمة فيهما، أي تخيير طهران ودمشق ما بين "النموذج العراقي" أو "النموذج الليبي".
وكان في سياق المشروع الأميركي/الإسرائيلي أيضاً إنهاء ظاهرة المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي في لبنان وفلسطين من خلال استخدام أقصى درجات القوة العسكرية ضد المقاومة، ومحاولات العزل السياسي لها، وافتعال الأزمات الداخلية معها؛ كما حدث في بيروت وغزّة، وفي العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف عام 2006، وفي القصف الوحشي والاغتيالات المتكرّرة على قطاع غزّة.
هذا المشروع الأميركي/الإسرائيلي في المنطقة فشل وتعثّر رغم ما أحدثه من دمٍ ودمار، وأهدافه لم تتحقّق على امتداد الشريط الممتد من غزّة إلى طهران مروراً بدمشق وبيروت وبغداد.
عسكرياً نجحت واشنطن في نهج الهدم بالعراق لكنّها فشلت سياسياً وأمنياً هناك بينما زاد التأثير الإيراني في العراق. وإسرائيل نجحت في التدمير والقتل داخل لبنان وفلسطين لكنّها فشلت في إنهاء ظاهرة المقاومة أو في إحداث انقلابات سياسية وأمنية على قواها الأساسية.
ولم يعد الآن أمام إدارتيْ بوش وأولمرت إلا خيار التفاوض مع "الطرف الآخر"، خاصّةً في ظلّ ضعف سياسي داخلي كبير لكلٍّ من بوش وأولمرت والقوى الداعمة لهما، وحاجة بوش وأولمرت الآن لانتصارات سياسية.
إنّ النصف الثاني من فترة السنوات الخمس الماضية كان مرحلة الانحدار والتراجعات والتعثّر بالنسبة لمشروع وأجندة إدارة بوش، ولم يبقَ لهذه الإدارة في الحكم إلا أشهر قليلة، كذلك الحال بالنسبة لحكومة أولمرت المهدّدة بالسقوط حتى من داخل أعضائها.
إنّ إدارة بوش فشلت في أهداف حروبها أو سياساتها في كلٍّ من العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين، ولم تستطع حليفتها إسرائيل أيضاً تعويض هذا الفشل بل زادته خسارة في أكثر من مجال. كذلك هو حال الموقف الأميركي/الإسرائيلي من إيران. ولم ينجح الجبروت العسكري الأميركي والإسرائيلي في القضاء على حركات المقاومة ولا في إضعاف الدول الإقليمية المؤيّدة لها. وكان ذلك، وما يزال، العامل الأهم في اضطرار إدارة بوش إلى مراجعة مسار سياستها الفاشلة في الشرق الأوسط.

لذلك، ربّما تكون التسويات الجزئية الجارية هي مقدّمة لصيغة تسوية شاملة قد تحدث في سبتمبر أو أكتوبر، وفيها تحاول إدارة بوش استثمار ما يتمّ تحقيقه الآن من خطوات تفاوض تحصل بين إسرائيل وسوريا، والتي ستنعكس حتماً على الجبهتين اللبنانية والفلسطينية، فتؤدّي فلسطينياً إلى تفاهمات بين "فتح" و"حماس" حول مصير المفاوضات مع إسرائيل والمشاركة بالسلطة الفلسطينية، كما هو ممكن أن تنعكس هذه المفاوضات لبنانياً بحدوث تفاهمات حول مشاركة لبنان في مؤتمر دولي يحسم مصير ما تبقّى من أرض لبنانية محتلّة، ويكون الاتفاق اللبناني/الإسرائيلي بشأنها مرادفاً ومتلازماً مع الاتفاق السوري/الإسرائيلي الممكن التوصّل إليه.
وهذه التسويات الجزئية الجارية الآن لا تعني برداً وسلاماً فورياً في أزمات الشرق الأوسط، بل إنّ صراع الإرادات المحلية والخارجية سيستمرّ بأشكال مختلفة إلى حين التوصّل إلى صيغ مقبولة من كل الأطراف الفاعلة في هذه الأزمات، لكن ما هو الآن في حال التعطيل أو التجميد، هو الخيارات العسكرية لهذه الأزمات.

ليست هناك تعليقات: