نقولا ناصر
(لم يخف ساركوزي ان ضمان امن اسرائيل هو الفكرة التي تطغى على تفكيره ، فالشروط الاربعة التي اعلنها لكي يتحقق السلام مع الفلسطينيين عرضها باعتبارها ضمانات لامن اسرائيل اولا ولهذا السبب بالذات فانها ضرورية لتحقيق السلام)
ربما يدخل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي التاريخ باعتباره اول زعيم غربي يجرؤ على المساواة الاخلاقية بين "الظلم" (الاوروبي) الذي لحق ب"الشعب اليهودي" وبين الظلم الذي الحقته اسرائيل بالشعب الفلسطيني عندما قال في بيت لحم في 24 حزيران / يونيو الماضي ان "المرء لن يحل الظلم الذي وقع على الشعب اليهودي بخلق الظروف لظلم يحيق بالشعب الفلسطيني" ، لكن هذا التصريح الجريء مثله مثل تصريحاته الفلسطينية التي جعلت نظيره الفلسطيني محمود عباس يطلق عليه امتنانا صفة "الصديق" لشعبه ينتظر من فرنسا ومن المجتمع الدولي ترجمة سياسية له على الارض وهو الامر الذي لم يصدر عن ساركوزي ولا عن غيره من نظرائه الغربيين حتى الان ما يشير الى انهم سوف يضعون ايديهم حيث السنتهم في المدى المنظور .
ومما لا شك فيه ان ساركوزي قد نجح فيما فشل فيه نظيره الاميركي جورج دبليو. بوش والمستشارة الالمانية انجيلا ميركل عندما زار دولة الاحتلال الاسرائيلي لكي يحتفل مثلهما بالسنوية الستين لزرعها مكان عرب فلسطين في قلب الوطن العربي الكبير ، اذ انه بتصريحه ذاك وتصريحاته الفلسطينية الاخرى تمكن بمهارة فائقة من اعطاء انطباع ب"التوازن" بين طرفي الصراع المحتدم على ارض فلسطين جنبه من ناحية "الغضب" الفلسطيني الذي اعلنه الرئيس عباس على عدم توازن بوش عندما قام بزيارة مماثلة ومن ناحية اخرى وفر له التغطية على حقيقتين اولاهما استنكافه عن الالتزام باي فعل يردف "ايجابية" تصريحاته وثانيتهما "الغموض" المدروس في تصريحاته .
ففي المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع عباس في بيت لحم تبنى ساركوزي الموقف الاميركي المعروف ، الذي كرر بوش علنا التزامه به ، فاستنكف عن أي فعل يردف تصريحاته عندما اكد بان الفلسطينيين والاسرائيليين "فقط" هم من يستطيعون صنع السلام بينهم لكن بلاده سوف "تساعدهم" في ذلك ، أي ان فرنسا مثلها مثل الولايات المتحدة لن تتدخل في المفاوضات بين الطرفين ، بالرغم من المعرفة الاكيدة لكل القوى الدولية ، وبخاصة الاميركية والاوروبية منها ، التي تتبنى هذا الموقف بموازين القوى المختلة بشكل ساحق بفضلهم ضد المفاوض الفلسطيني وبان أي مفاوض لن يصل على مائدة التفاوض ابعد مما يستطيع جنوده الوصول اليه فكيف يكون حاله ان كان بلا جنود اصلا كما هو حال المفاوض الفلسطيني . ولم يجد ساركوزي أي حرج في اعلان موقف بلاده هذا بينما الرئيس عباس يقف الى جانبه مطالبا اوروبا بما فيها فرنسا بدور انشط في "عملية السلام" !
ان مواقف ساركوزي المعلنة مثل مواقف الاتحاد الاوروبي المعلنة ومثل العشرات من قرارات الامم المتحدة سوف تظل حبرا على ورق وكلمات جوفاء كما كانت مثيلاتها طوال الستين عاما المنصرمة لان المجتمع الدولي ما زال يرفض أي ترجمة ملموسة لها على الارض ويرفض استخدام نفوذه لفرضها على دولة الاحتلال بينما لم ولا يتردد هذا المجتمع في دعمه الملموس العسكري والمالي والاقتصادي والدبلوماسي والسياسي لدولة الاحتلال دون كلمات ، مما وفر البيئة المثلى لكي يطول امد الاحتلال دون رادع بكل الصراع الناجم عن استمراره واستمرار المعاناة الانسانية الناتجة عن استمراره كما هو الحال مع اللاجئين الفلسطينيين الذين اصبحت قضيتهم اطول قضايا اللاجئين في العالم عمرا ، ومما يحول القوتان الاميركية والاوروبية عمليا الى شريك في هذا الاحتلال لانهما القوتان القادرتان على تطبيق الشرعية الدولية في كل انحاء العالم لكنهما تحولان دون المجتمع الدولي وتطبيق قرارات شرعيته في فلسطين .
لقد تعرض الشعب الفلسطيني لعملية خداع كبرى من القيادة الاميركية الاوروبية للمجتمع الدولي ، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ، عندما صدقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وعود هذا المجتمع بدعمها في تحقيق برنامجها لحل الدولتين فقدمت اعترافا مجانيا بدولة الاحتلال دون أي اعتراف مقابل بدولة فلسطين ووافقت على تجريدها من سلاح المقاومة المشروعة مقابل وعدها بتعويضه بثقل المجتمع الدولي في دعمها ليكتشف الشعب الفلسطيني بعد سبعة عشر عاما منذ مؤتمر مدريد ان دويلته الموعودة سراب وانه لم يكسب المجتمع الدولي ولكنه خسر المقاومة او يكاد كما يكاد يخسر أي قيادة موحدة له .
اما الحقيقة الثانية التي غطى عليها الانطباع بالتوازن الذي خلقته تصريحات ساركوزي الفلسطينية فهي "غموض" هذه التصريحات نفسها .
ودون اجحاف باهمية تصريحات ساركوزي التي اطلقها داخل الكنيست ، اهم منبر سياسي في دولة الاحتلال الاسرائيلي ، والتي حدد فيها اربعة شروط تضمن امن اسرائيل وبالتالي لا يمكن للسلام ان يتحقق دونها وهي اقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس ، والاعتراف بالقدس عاصمة لدولتين ، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين ، ووقف الاستيطان في الضفة الغربية والقدس معا وتشجيع المستوطنين على الرحيل عنهما ، فان الرئيس ساركوزي لم يضف بهذه التصريحات جديدا على المواقف التقليدية لفرنسا الملتزمة بدورها بمواقف الاتحاد الاوروبي المعلنة التي لا تخرج في جوهرها عما اعلنه ساركوزي .
وربما تكمن اهميتها فقط في كونها عوضت على الفلسطينيين بعض خيبة الامل الكبيرة التي اصابتهم بعد زيارتي بوش وميركل اللذبن لم يظهرا ادنى اهتمام بالموازنة بين التزامهما بضمان امن دولة الاحتلال وبين حرصهما على احترام برنامج الحد الادنى للرئاسة الفلسطينية الذي لا يخرج في جوهره ايضا عما اعلنه ساركوزي .
لكن ساركوزي المفوه الذي لا تعوزه الكلمات ولا المعلومات لم يخف ان ضمان امن اسرائيل هو الفكرة التي تطغى على تفكيره ، فالشروط الاربعة التي اعلنها لكي يتحقق السلام عرضها باعتبارها ضمانات لامن اسرائيل اولا ولهذا السبب بالذات فانها ضرورية لتحقيق السلام ، وامن اسرائيل كان المقياس الباطني والعلني الذي حدد على اساسه ما هو على استعداد لمنحه للفلسطينيين .
لكن المدقق في تصريحاته سرعان ما يكتشف بان اسرائيل التي تعهد بضمان امنها هي دولة لا حدود لها ، بينما لم يذكر مرة واحدة ان الدويلة الفلسطينية التي دعا لها لانها افضل ضمان لامن اسرائيل ، على حد قوله ،هي في حدود عام 1967 ، مما يضع علامة سؤال كبيره حول تصريحاته "الايجابية" عن المستعمرات الاستيطانية اليهودية ، وهذا غموض ينسحب على مستعمرات القدس التي اعلن انه يريدها عاصمة لدولتين دون ان يوضح ما اذا كانت هذه العاصمة "المشتركة" تشمل او لا تشمل استمرار مكاسب الاحتلال الاستيطانية والتهويدية فيها . وحتى اشارته الغامضة بصورة مماثلة الى جدار الضم والتوسع الذي يبنيه الاحتلال في القدس والضفة الغربية ، والذي لم يطالب بازالته ، كانت مرتبطة في ذهنه بامن دولة الاحتلال عندما قال انه لا يمكن ان يضمن امنها الى الابد . اما دعوته الى "حل" قضية اللاجئين فقد خلت من أي اشارة الى الاساس التي يريد حلها عليه او في أي مكان وزمان . ولا يمكن تفسير هذا الغموض بالسهو والخطا مهما افترض المراقب حسن النية لدى الرئيس الفرنسي .
وربما بسبب هذا "الغموض" المدروس لم تنعكس تصريحاته الفلسطينية سلبا على حرارة الترحيب به في دولة الاحتلال ، حيث يعرف باسم "ساركو الاسرائيلي" تحببا ، وحيث وصف رئيس الوزراء ايهود اولمرت العلاقات الثنائية في عهد ساركوزي بانها "ليست مجرد شهر عسل بل انها قصة حب حقيقية" . لقد كان الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريس اول رئيس دولة اجنبية يستقبله ساركوزي الذي تنحدر امه من عائلة يهودية يونانية عريقة في صهيونيتها ودورها في تاسيس اسرائيل والذي عقد ابنه "جان" مؤخرا خطبته على ابنة رجل اعمال يهودي فرنسي بارز . ولكل ذلك وغيره وصف البروفسور جيرالد شتاينبيرغ الاستاذ بجامعة بار ايلان الاسرائيلية تصريحات ساركوزي الفلسطينية بانها "كلمات جوفاء نسبيا" (شينخوا 24/6/2008) .
غير ان هذه "الكلمات الجوفاء" نجحت في اطلاق ساتر دخاني حجب عن الراي العام الفلسطيني حقيقة ان زيارته لدولة الاحتلال من 22 الى 24 حزيران جاءت اساسا للاحتفال بالذكرى السنوية الستين لتاسيسها ، كما اكد رئيس هذه الدولة بيريس ورئيس وزرائها اولمرت في بيانين رسميين نشرهما الموقع الالكتروني لوزارة خارجيتهما ، مما يضع تصريحات ساركوزي الفلسطينية في سياقها الصحيح . ويتضح هذا السياق اكثر في اسباب الزيارة واهدافها ونتائجها وحيثياتها وما سبقها وما سيعقبها .
ان الغموض الفاضح في تصريحاته والتناقض بين ما قاله وما يتوقع منه ان يفعل تجاه الفلسطينيين يصبحان اكثر وضوحا اذا ما قورنا بالتطابق الكامل بين القول والفعل تجاه دولة الاحتلال . فقد تطابقت افعاله مع وعوده لشمعون بيريس عندما زاره بعد انتخابه في محاربة العداء للسامية داخليا ضد جالية يهودية يبلغ تعدادها (600) الف نسمة بينما تتصاعد شكاوى خمسة ملايين مسلم فرنسي من التضييق عليهم والتشدد معهم وهم اكبر جالية اسلامية في اوروبا . وعلى مستوى العلاقات الثنائية فتح ساركوزي صفحة جديدة في العلاقات الفرنسية الاسرائيلية كانت مشاركته في احتفالات السنوية الستين لاسرائيل تتويجا لها ، في انسجام مع توجه اوروبي حديث لتصحيح ما قال وزير الخارجية الايطالي فرانكو فراتيني في ندوة له مؤخرا ببرلين انه "موقف غير متوازن" لاوروبا تجاه اسرائيل .
وقد ذهب ساركوزي الى اسرائيل بعد ايام من دعم فرنسا لرفع مستوى علاقات دولة الاحتلال مع الاتحاد الاوروبي ، بالرغم من المناشدة الرسمية لرئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض والجامعة العربية للحكومات الاوروبية ومنها الفرنسية كي لا تقدم على هذه الخطوة حتى تفي اسرائيل باستحقاقات السلام ، لكي يوقع الجانبان اوائل الشهر الجاري اتفاقية للتعاون الاوروبي الاسرائيلي دبلوماسيا وحكوميا وبرلمانيا تنضم تل ابيب بموجبه الى الوكالات والبرامج ومجموعات العمل الاوروبية لتقريب الاقتصاد والمجتمع الاسرائيلي بشكل اوثق الى مثيليهما الاوروبيين تمهيدا لاندماج اسرائيل في السوق الاوروبية الموحدة مما يمهد بدوره لرفع العلاقات الثنائية الى مستوى ارفع كما ينص الاتفاق .
اما في اعقاب زيارته فان تسلم فرنسا للرئاسة الدورية للاتحاد الاوروبي في الاول من تموز / يوليو لا يتوقع ان يكون اختبارا قريبا لتصريحات ساركوزي الفلسطينية بل سيكون على الارجح تاكيدا لاستمرار التناقض بين يقوله ساركوزي وبين سياسته الفعلية تجاه الفلسطينيين كما لاستمرار التطابق بين اقواله وافعاله تجاه الاسرائيليين ليتبين قبل مرور وقت طويل ان اطلاق وصف "الصديق" للشعب الفلسطيني عليه كان متسرعا ، دون الاقلال طبعا من اهمية المنح المالية والدعم الانساني الذي تقدمه فرنسا واوروبا للفلسطينيين تحت الاحتلال ، وهو دعم ان لم يرافقه دعم سياسي مماثل لن يكون سوى اعفاء غير مباشر لاسرائيل من مسؤولياتها كقوة قائمة بالاحتلال حسب القانون الدولي .
كما ليس من المتوقع ان يتوازن ساركوزي لكي يعترف بدولة فلسطين التي يدعو الى قيامها لكي يشارك الرئيس عباس في القمة المتوسطية التي تستضيفها باريس في (13) تموز / يوليو كرئيس دولة وليس كرئيس لسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية تحت الاحتلال ، لكن الرئيس الفرنسي لم يترك الامر للتكهنات عندما اكد ان اسرائيل سوف تشارك في القمة كعضو اصيل بين دول حوض البحر الابيض المتوسط .
وقد انعكس عدم التوازن اولا في برنامج زيارة ساركوزي ، الذي انكر على الرئاسة الفلسطينية تكريمها بزيارة في مقرها المؤقت برام الله ، اذ خصص برنامج زيارته لدولة الاحتلال ثلاثة ايام اقتطع اربع ساعات فقط لفلسطين من ساعاتها الثماني وسبعين التي قضى معظمها في القدس ، ولو كان ساركوزي يسعى عمليا الى ما قاله اثناء زيارته عن ضرورة اقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس لضمن برنامج زيارته لقاء ولو لربع ساعة مع عباس في القدس الشريف او في الاقل ضمنه وقتا للقيام بزيارة مهما قصرت لها كما فعل سلفه جاك شيراك قبل اثنتي عشر سنة ليطلع "عيانا" على ما نجا منها من التهويد ليقرر ما اذا كان ما تبقى منها بوضعه الراهن يصلح عاصمة "متصلة" باي دولة فلسطينية مرجوة .
ثم انعكس عدم التوازن في زيارته لاسرة جندي الاحتلال الاسير في قطاع غزة جلعاد شاليط ومطالبته بانه "يجب الافراج عنه" دون أي اشارة الى (12) الف اسير فلسطيني ، او زيارة اسرة من اسرهم . لقد انطوت هذه الزيارة على استفزاز بالغ للشعب الفلسطيني لانها تعتبر تشجيعا للاحتلال من ناحية وتكريما لمواطن فرنسي يحمل الجنسية الفرنسية ولا يخدم في جيش الاحتلال فقط بل يؤدي خدمته في الاراضي الفلسطينية المحتلة ويساهم في العقوبة الجماعية التي يفرضها هذا الجيش على مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة مما يعتبر تشجيعا لغيره من المواطنين الفرنسيين الذين يحملون جنسية مزدوجة مثله على الاقتداء به .
لكن ذروة عدم التوازن الساركوزي بانت ب"احترامه" لعدم التدخل في الشان الداخلي الاسرائيلي حتى عندما بادر صديقه بنيامين نتنياهو واولمرت وبيريس فورا وعلنا الى معارضة تصريحاته الفلسطينية دون ان يوازن ذلك باحترام مماثل لعدم التدخل في الشان الداخلي الفلسطيني ليصنف الشعب الفلسطيني الى "محبين للسلام" في رام الله يدعمهم و"ارهابيين" في غزة يحاربهم متبنيا تصنيفات الاحتلال الاسرائيلي نفسه لهم ، في انحياز فاضح لم يمنعه مع ذلك من اعلان طموحه الى القيام بدور وسيط بين الجانبين ، دور لم يؤهل فرنسا له مثلما تفعل روسيا وتركيا والنرويج المحرومة اميركيا واسرائيليا من أي دور وساطة بسبب احترامها للاجتهادات الوطنية الفلسطينية كافة باعتبارها شانا داخليا .
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com
(لم يخف ساركوزي ان ضمان امن اسرائيل هو الفكرة التي تطغى على تفكيره ، فالشروط الاربعة التي اعلنها لكي يتحقق السلام مع الفلسطينيين عرضها باعتبارها ضمانات لامن اسرائيل اولا ولهذا السبب بالذات فانها ضرورية لتحقيق السلام)
ربما يدخل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي التاريخ باعتباره اول زعيم غربي يجرؤ على المساواة الاخلاقية بين "الظلم" (الاوروبي) الذي لحق ب"الشعب اليهودي" وبين الظلم الذي الحقته اسرائيل بالشعب الفلسطيني عندما قال في بيت لحم في 24 حزيران / يونيو الماضي ان "المرء لن يحل الظلم الذي وقع على الشعب اليهودي بخلق الظروف لظلم يحيق بالشعب الفلسطيني" ، لكن هذا التصريح الجريء مثله مثل تصريحاته الفلسطينية التي جعلت نظيره الفلسطيني محمود عباس يطلق عليه امتنانا صفة "الصديق" لشعبه ينتظر من فرنسا ومن المجتمع الدولي ترجمة سياسية له على الارض وهو الامر الذي لم يصدر عن ساركوزي ولا عن غيره من نظرائه الغربيين حتى الان ما يشير الى انهم سوف يضعون ايديهم حيث السنتهم في المدى المنظور .
ومما لا شك فيه ان ساركوزي قد نجح فيما فشل فيه نظيره الاميركي جورج دبليو. بوش والمستشارة الالمانية انجيلا ميركل عندما زار دولة الاحتلال الاسرائيلي لكي يحتفل مثلهما بالسنوية الستين لزرعها مكان عرب فلسطين في قلب الوطن العربي الكبير ، اذ انه بتصريحه ذاك وتصريحاته الفلسطينية الاخرى تمكن بمهارة فائقة من اعطاء انطباع ب"التوازن" بين طرفي الصراع المحتدم على ارض فلسطين جنبه من ناحية "الغضب" الفلسطيني الذي اعلنه الرئيس عباس على عدم توازن بوش عندما قام بزيارة مماثلة ومن ناحية اخرى وفر له التغطية على حقيقتين اولاهما استنكافه عن الالتزام باي فعل يردف "ايجابية" تصريحاته وثانيتهما "الغموض" المدروس في تصريحاته .
ففي المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع عباس في بيت لحم تبنى ساركوزي الموقف الاميركي المعروف ، الذي كرر بوش علنا التزامه به ، فاستنكف عن أي فعل يردف تصريحاته عندما اكد بان الفلسطينيين والاسرائيليين "فقط" هم من يستطيعون صنع السلام بينهم لكن بلاده سوف "تساعدهم" في ذلك ، أي ان فرنسا مثلها مثل الولايات المتحدة لن تتدخل في المفاوضات بين الطرفين ، بالرغم من المعرفة الاكيدة لكل القوى الدولية ، وبخاصة الاميركية والاوروبية منها ، التي تتبنى هذا الموقف بموازين القوى المختلة بشكل ساحق بفضلهم ضد المفاوض الفلسطيني وبان أي مفاوض لن يصل على مائدة التفاوض ابعد مما يستطيع جنوده الوصول اليه فكيف يكون حاله ان كان بلا جنود اصلا كما هو حال المفاوض الفلسطيني . ولم يجد ساركوزي أي حرج في اعلان موقف بلاده هذا بينما الرئيس عباس يقف الى جانبه مطالبا اوروبا بما فيها فرنسا بدور انشط في "عملية السلام" !
ان مواقف ساركوزي المعلنة مثل مواقف الاتحاد الاوروبي المعلنة ومثل العشرات من قرارات الامم المتحدة سوف تظل حبرا على ورق وكلمات جوفاء كما كانت مثيلاتها طوال الستين عاما المنصرمة لان المجتمع الدولي ما زال يرفض أي ترجمة ملموسة لها على الارض ويرفض استخدام نفوذه لفرضها على دولة الاحتلال بينما لم ولا يتردد هذا المجتمع في دعمه الملموس العسكري والمالي والاقتصادي والدبلوماسي والسياسي لدولة الاحتلال دون كلمات ، مما وفر البيئة المثلى لكي يطول امد الاحتلال دون رادع بكل الصراع الناجم عن استمراره واستمرار المعاناة الانسانية الناتجة عن استمراره كما هو الحال مع اللاجئين الفلسطينيين الذين اصبحت قضيتهم اطول قضايا اللاجئين في العالم عمرا ، ومما يحول القوتان الاميركية والاوروبية عمليا الى شريك في هذا الاحتلال لانهما القوتان القادرتان على تطبيق الشرعية الدولية في كل انحاء العالم لكنهما تحولان دون المجتمع الدولي وتطبيق قرارات شرعيته في فلسطين .
لقد تعرض الشعب الفلسطيني لعملية خداع كبرى من القيادة الاميركية الاوروبية للمجتمع الدولي ، خصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ، عندما صدقت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وعود هذا المجتمع بدعمها في تحقيق برنامجها لحل الدولتين فقدمت اعترافا مجانيا بدولة الاحتلال دون أي اعتراف مقابل بدولة فلسطين ووافقت على تجريدها من سلاح المقاومة المشروعة مقابل وعدها بتعويضه بثقل المجتمع الدولي في دعمها ليكتشف الشعب الفلسطيني بعد سبعة عشر عاما منذ مؤتمر مدريد ان دويلته الموعودة سراب وانه لم يكسب المجتمع الدولي ولكنه خسر المقاومة او يكاد كما يكاد يخسر أي قيادة موحدة له .
اما الحقيقة الثانية التي غطى عليها الانطباع بالتوازن الذي خلقته تصريحات ساركوزي الفلسطينية فهي "غموض" هذه التصريحات نفسها .
ودون اجحاف باهمية تصريحات ساركوزي التي اطلقها داخل الكنيست ، اهم منبر سياسي في دولة الاحتلال الاسرائيلي ، والتي حدد فيها اربعة شروط تضمن امن اسرائيل وبالتالي لا يمكن للسلام ان يتحقق دونها وهي اقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس ، والاعتراف بالقدس عاصمة لدولتين ، وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين ، ووقف الاستيطان في الضفة الغربية والقدس معا وتشجيع المستوطنين على الرحيل عنهما ، فان الرئيس ساركوزي لم يضف بهذه التصريحات جديدا على المواقف التقليدية لفرنسا الملتزمة بدورها بمواقف الاتحاد الاوروبي المعلنة التي لا تخرج في جوهرها عما اعلنه ساركوزي .
وربما تكمن اهميتها فقط في كونها عوضت على الفلسطينيين بعض خيبة الامل الكبيرة التي اصابتهم بعد زيارتي بوش وميركل اللذبن لم يظهرا ادنى اهتمام بالموازنة بين التزامهما بضمان امن دولة الاحتلال وبين حرصهما على احترام برنامج الحد الادنى للرئاسة الفلسطينية الذي لا يخرج في جوهره ايضا عما اعلنه ساركوزي .
لكن ساركوزي المفوه الذي لا تعوزه الكلمات ولا المعلومات لم يخف ان ضمان امن اسرائيل هو الفكرة التي تطغى على تفكيره ، فالشروط الاربعة التي اعلنها لكي يتحقق السلام عرضها باعتبارها ضمانات لامن اسرائيل اولا ولهذا السبب بالذات فانها ضرورية لتحقيق السلام ، وامن اسرائيل كان المقياس الباطني والعلني الذي حدد على اساسه ما هو على استعداد لمنحه للفلسطينيين .
لكن المدقق في تصريحاته سرعان ما يكتشف بان اسرائيل التي تعهد بضمان امنها هي دولة لا حدود لها ، بينما لم يذكر مرة واحدة ان الدويلة الفلسطينية التي دعا لها لانها افضل ضمان لامن اسرائيل ، على حد قوله ،هي في حدود عام 1967 ، مما يضع علامة سؤال كبيره حول تصريحاته "الايجابية" عن المستعمرات الاستيطانية اليهودية ، وهذا غموض ينسحب على مستعمرات القدس التي اعلن انه يريدها عاصمة لدولتين دون ان يوضح ما اذا كانت هذه العاصمة "المشتركة" تشمل او لا تشمل استمرار مكاسب الاحتلال الاستيطانية والتهويدية فيها . وحتى اشارته الغامضة بصورة مماثلة الى جدار الضم والتوسع الذي يبنيه الاحتلال في القدس والضفة الغربية ، والذي لم يطالب بازالته ، كانت مرتبطة في ذهنه بامن دولة الاحتلال عندما قال انه لا يمكن ان يضمن امنها الى الابد . اما دعوته الى "حل" قضية اللاجئين فقد خلت من أي اشارة الى الاساس التي يريد حلها عليه او في أي مكان وزمان . ولا يمكن تفسير هذا الغموض بالسهو والخطا مهما افترض المراقب حسن النية لدى الرئيس الفرنسي .
وربما بسبب هذا "الغموض" المدروس لم تنعكس تصريحاته الفلسطينية سلبا على حرارة الترحيب به في دولة الاحتلال ، حيث يعرف باسم "ساركو الاسرائيلي" تحببا ، وحيث وصف رئيس الوزراء ايهود اولمرت العلاقات الثنائية في عهد ساركوزي بانها "ليست مجرد شهر عسل بل انها قصة حب حقيقية" . لقد كان الرئيس الاسرائيلي شمعون بيريس اول رئيس دولة اجنبية يستقبله ساركوزي الذي تنحدر امه من عائلة يهودية يونانية عريقة في صهيونيتها ودورها في تاسيس اسرائيل والذي عقد ابنه "جان" مؤخرا خطبته على ابنة رجل اعمال يهودي فرنسي بارز . ولكل ذلك وغيره وصف البروفسور جيرالد شتاينبيرغ الاستاذ بجامعة بار ايلان الاسرائيلية تصريحات ساركوزي الفلسطينية بانها "كلمات جوفاء نسبيا" (شينخوا 24/6/2008) .
غير ان هذه "الكلمات الجوفاء" نجحت في اطلاق ساتر دخاني حجب عن الراي العام الفلسطيني حقيقة ان زيارته لدولة الاحتلال من 22 الى 24 حزيران جاءت اساسا للاحتفال بالذكرى السنوية الستين لتاسيسها ، كما اكد رئيس هذه الدولة بيريس ورئيس وزرائها اولمرت في بيانين رسميين نشرهما الموقع الالكتروني لوزارة خارجيتهما ، مما يضع تصريحات ساركوزي الفلسطينية في سياقها الصحيح . ويتضح هذا السياق اكثر في اسباب الزيارة واهدافها ونتائجها وحيثياتها وما سبقها وما سيعقبها .
ان الغموض الفاضح في تصريحاته والتناقض بين ما قاله وما يتوقع منه ان يفعل تجاه الفلسطينيين يصبحان اكثر وضوحا اذا ما قورنا بالتطابق الكامل بين القول والفعل تجاه دولة الاحتلال . فقد تطابقت افعاله مع وعوده لشمعون بيريس عندما زاره بعد انتخابه في محاربة العداء للسامية داخليا ضد جالية يهودية يبلغ تعدادها (600) الف نسمة بينما تتصاعد شكاوى خمسة ملايين مسلم فرنسي من التضييق عليهم والتشدد معهم وهم اكبر جالية اسلامية في اوروبا . وعلى مستوى العلاقات الثنائية فتح ساركوزي صفحة جديدة في العلاقات الفرنسية الاسرائيلية كانت مشاركته في احتفالات السنوية الستين لاسرائيل تتويجا لها ، في انسجام مع توجه اوروبي حديث لتصحيح ما قال وزير الخارجية الايطالي فرانكو فراتيني في ندوة له مؤخرا ببرلين انه "موقف غير متوازن" لاوروبا تجاه اسرائيل .
وقد ذهب ساركوزي الى اسرائيل بعد ايام من دعم فرنسا لرفع مستوى علاقات دولة الاحتلال مع الاتحاد الاوروبي ، بالرغم من المناشدة الرسمية لرئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض والجامعة العربية للحكومات الاوروبية ومنها الفرنسية كي لا تقدم على هذه الخطوة حتى تفي اسرائيل باستحقاقات السلام ، لكي يوقع الجانبان اوائل الشهر الجاري اتفاقية للتعاون الاوروبي الاسرائيلي دبلوماسيا وحكوميا وبرلمانيا تنضم تل ابيب بموجبه الى الوكالات والبرامج ومجموعات العمل الاوروبية لتقريب الاقتصاد والمجتمع الاسرائيلي بشكل اوثق الى مثيليهما الاوروبيين تمهيدا لاندماج اسرائيل في السوق الاوروبية الموحدة مما يمهد بدوره لرفع العلاقات الثنائية الى مستوى ارفع كما ينص الاتفاق .
اما في اعقاب زيارته فان تسلم فرنسا للرئاسة الدورية للاتحاد الاوروبي في الاول من تموز / يوليو لا يتوقع ان يكون اختبارا قريبا لتصريحات ساركوزي الفلسطينية بل سيكون على الارجح تاكيدا لاستمرار التناقض بين يقوله ساركوزي وبين سياسته الفعلية تجاه الفلسطينيين كما لاستمرار التطابق بين اقواله وافعاله تجاه الاسرائيليين ليتبين قبل مرور وقت طويل ان اطلاق وصف "الصديق" للشعب الفلسطيني عليه كان متسرعا ، دون الاقلال طبعا من اهمية المنح المالية والدعم الانساني الذي تقدمه فرنسا واوروبا للفلسطينيين تحت الاحتلال ، وهو دعم ان لم يرافقه دعم سياسي مماثل لن يكون سوى اعفاء غير مباشر لاسرائيل من مسؤولياتها كقوة قائمة بالاحتلال حسب القانون الدولي .
كما ليس من المتوقع ان يتوازن ساركوزي لكي يعترف بدولة فلسطين التي يدعو الى قيامها لكي يشارك الرئيس عباس في القمة المتوسطية التي تستضيفها باريس في (13) تموز / يوليو كرئيس دولة وليس كرئيس لسلطة الحكم الذاتي الفلسطينية تحت الاحتلال ، لكن الرئيس الفرنسي لم يترك الامر للتكهنات عندما اكد ان اسرائيل سوف تشارك في القمة كعضو اصيل بين دول حوض البحر الابيض المتوسط .
وقد انعكس عدم التوازن اولا في برنامج زيارة ساركوزي ، الذي انكر على الرئاسة الفلسطينية تكريمها بزيارة في مقرها المؤقت برام الله ، اذ خصص برنامج زيارته لدولة الاحتلال ثلاثة ايام اقتطع اربع ساعات فقط لفلسطين من ساعاتها الثماني وسبعين التي قضى معظمها في القدس ، ولو كان ساركوزي يسعى عمليا الى ما قاله اثناء زيارته عن ضرورة اقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس لضمن برنامج زيارته لقاء ولو لربع ساعة مع عباس في القدس الشريف او في الاقل ضمنه وقتا للقيام بزيارة مهما قصرت لها كما فعل سلفه جاك شيراك قبل اثنتي عشر سنة ليطلع "عيانا" على ما نجا منها من التهويد ليقرر ما اذا كان ما تبقى منها بوضعه الراهن يصلح عاصمة "متصلة" باي دولة فلسطينية مرجوة .
ثم انعكس عدم التوازن في زيارته لاسرة جندي الاحتلال الاسير في قطاع غزة جلعاد شاليط ومطالبته بانه "يجب الافراج عنه" دون أي اشارة الى (12) الف اسير فلسطيني ، او زيارة اسرة من اسرهم . لقد انطوت هذه الزيارة على استفزاز بالغ للشعب الفلسطيني لانها تعتبر تشجيعا للاحتلال من ناحية وتكريما لمواطن فرنسي يحمل الجنسية الفرنسية ولا يخدم في جيش الاحتلال فقط بل يؤدي خدمته في الاراضي الفلسطينية المحتلة ويساهم في العقوبة الجماعية التي يفرضها هذا الجيش على مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة مما يعتبر تشجيعا لغيره من المواطنين الفرنسيين الذين يحملون جنسية مزدوجة مثله على الاقتداء به .
لكن ذروة عدم التوازن الساركوزي بانت ب"احترامه" لعدم التدخل في الشان الداخلي الاسرائيلي حتى عندما بادر صديقه بنيامين نتنياهو واولمرت وبيريس فورا وعلنا الى معارضة تصريحاته الفلسطينية دون ان يوازن ذلك باحترام مماثل لعدم التدخل في الشان الداخلي الفلسطيني ليصنف الشعب الفلسطيني الى "محبين للسلام" في رام الله يدعمهم و"ارهابيين" في غزة يحاربهم متبنيا تصنيفات الاحتلال الاسرائيلي نفسه لهم ، في انحياز فاضح لم يمنعه مع ذلك من اعلان طموحه الى القيام بدور وسيط بين الجانبين ، دور لم يؤهل فرنسا له مثلما تفعل روسيا وتركيا والنرويج المحرومة اميركيا واسرائيليا من أي دور وساطة بسبب احترامها للاجتهادات الوطنية الفلسطينية كافة باعتبارها شانا داخليا .
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق