صبحي غندور
حلَت على العرب ذكرى مناسبتين هامّتين في التاريخ العربي المعاصر. الأولى، هي مناسبة ذكرى تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي في 25 أيار/مايو 2000، والثانية، هي مناسبة ذكرى هزيمة 5 حزيران/يونيو 1967.
ورغم أنّه من حيث الشكل هناك تناقض بين الاحتفال بالنصر على إسرائيل (في لبنان) وبين ذكرى هزيمة العرب في حرب عام 1967، فإنّي أرى تطابقاً وتكاملاً بين المناسبتين، ليس فقط في طبيعتهما المتّصلة بالصراع العربي/الصهيوني، ولكن أيضاً في منهج التعامل مع هذا الصراع بوجهيْه السياسي والعسكري.
إنّ انتصار المقاومة اللبنانية على إسرائيل وإجبارها على الانسحاب غير المشروط في لبنان، كان تأكيداً للمقولة التي أطلقها جمال عبد الناصر بعد حرب 67 بأنّ "ما أُخِذ بالقوّة لا يُستردُّ بغير القوّة"، كما كان انسجاماً طبيعياً مع ما وضعه جمال عبد الناصر عقب حرب 67 من استراتيجيّة لإزالة آثار العدوان، تلك الاستراتيجية التي قامت على الجمع ما بين مقرّرات قمّة الخرطوم (1967) الرافضة للمفاوضات المباشرة وللصلح والاعتراف بإسرائيل، وبين حرب الاستنزاف التي قامت بها القوّات المصرية على جبهة السويس لأكثر من عامين وإلى حين وفاة ناصر تقريباً.
فالقيادة الناصرية لمصر أدركت بعد هزيمة عام 1967 أهميّة إعطاء الأولويّة الكاملة للصراع مع إسرائيل، وأنّ هذا الصراع يقتضي تكاملاً بين هذه العناصر الثلاثة:
1- بناء تضامن عربي فعّال يضع الخطوط الحمراء من جهة (كمجموعة لاءات قمة الخرطوم) حتى لا ينزلق أيّ طرفٍ عربي في اتفاقيات منفردة، وبوقف كلّ الصراعات العربية/العربية والمعارك الهامشية داخل المجتمع العربي. وبذلك حسم ناصر بأن: "لا صوت يعلو على صوت المعركة مع العدوّ الصهيوني"، وبأنّ معيار المرحلة هو "موقف أيّ طرف عربي من العدوّ، وموقف العدو من هذا الطرف".
إنّ التضامن العربي إنّما يكون فاعلاً حينما لا يكتفي بترديد ما هو "مرفوض" بل حينما يضع خططاً لما هو مطلوب إنجازه في المعركة.
فلقد كانت قرارات قمّة الخرطوم عقب هزيمة 67، هي الأرضيّة الصلبة للدعم العربي الذي تقرّر لدول المواجهة ولمنظمة التحرير الفلسطينية، وقامت حصيلة ذلك جبهة عربية واسعة جمعت "دول النفط" مع "دول المدفع" في إطارٍ تضامنيٍّ عام، ساعد على إعادة بناء القوات المسلحة المصرية والسورية وخوضها لمعارك حرب الاستنزاف على قناة السويس، ثمّ كان هذا التضامن ذاته وراء القرار في حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، الذي جمع بين الجبهتين المصرية والسورية، وبين استخدام السلاح والاقتصاد والسياسة، فكان قرار حظر النفط متساوياً في أهمّيته مع قرار المواجهة العسكرية مع إسرائيل.
2- بناء جبهة داخلية متينة لا تستنزفها صراعات طائفية أو داخلية، ولا تلهيها معارك هامشية عن المعركة الرئيسية مع العدوّ الصهيوني. طبعاً، مع إعادة بناءٍ كاملٍ للقوات المسلحة واعتماد عنصر "الكفاءة" لا "الولاء" في مواقع المسؤولية داخل الدولة عموماً، والجيش خصوصاً. وكان نموذج هؤلاء الشهيد الفريق عبد المنعم رياض (رئيس أركان القوات المصرية) أحد شهداء حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية عام 1969.
3- بناء أهداف سياسية مرحلية لا تقبل التنازلات أو التفريط. فقد رفض جمال عبد الناصر إغراءات التسوية كلّها مع إسرائيل، بما في ذلك العرض الأميركي/الإسرائيلي له بالانسحاب الكامل من كلّ سيناء مقابل عدم تدخّل مصر في الجبهات العربية الأخرى، ومقابل إنهاء الصراع بينها وبين إسرائيل (وهذا ما فعله أنور السادات فيما بعد باتفاقية كامب ديفيد). وكان ناصر يردّد "القدس قبل سيناء، والجولان قبل سيناء"، و"لا صلح ولا اعتراف بإسرائيل ما لم تتحرّر كلّ الأراضي العربية المحتلّة عام 1967، وما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة".
وأصرَّ ناصر على هذه الأهداف السياسية رغم قبوله بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن ثمَّ لما كان يُعرَف باسم "مبادرة روجرز"، وكان يتحرّك دولياً في مختلف الاتجاهات (رغم ظروف الحرب الباردة واضطراره لعلاقةٍ خاصّة مع موسكو) من دون تفريطٍ أو تنازلٍ عن الأهداف السياسية المرحلية، وبشكلٍ متزامنٍ مع البناء العسكري والمعارك المفتوحة على الجبهة المصرية ومع أقصى درجات التضامن العربي والدعم المفتوح لحركة المقاومة الفلسطينية.
هكذا جعل عبد الناصر من هزيمة عام 1967 أرضاً صلبة لبناء وضعٍ عربيّ أفضل عموماً، مهّد الطريق أمام حرب عام 1973، فكانت 6 سنوات (من 1967 إلى 1973) مليئة بعوامل البناء والمواقف الصلبة والتي أعادت للأمَّة المهزومة اعتبارها وكرامتها.
لكن بعد وفاة جمال عبد الناصر، وبعد اتفاقية كامب ديفيد التي وقّعها أنور السادات مع إسرائيل بإشرافٍ أميركيّ كامل، تحقّقَ لإسرائيل مطلب "عزل مصر" فاستفردت بالمشرق العربيّ واجتاحت لبنان مرّتين (عام 78 وعام 82)، واحتلّت أوّل عاصمةٍ عربية (بيروت) بعد أن حاصرتها لأشهرٍ عديدة، كما واصل الاحتلال الإسرائيلي قضمه للأراضي الفلسطينية وتوسيع المستوطنات عليها.
ولا أعلم لِمَ يحلو لبعض العرب إرجاع أسباب سلبيات أوضاعهم العربية الراهنة إلى هزيمة عام 1967، ولا يعودون بها إلى أسبابها الحقيقية التي كانت مزيجاً من اتفاقيات "سلام" مع إسرائيل و"حروب" حصلت مع غير إسرائيل في العقود الثلاثة الماضية!.
لقد كانت بداية الحرب اللبنانية عام 1975 هي نفسها بداية مرحلة عصر الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة العربية، وبداية أسلوب التفاوض والصلح والاعتراف بين العرب وإسرائيل، ثم كان انتصار المقاومة اللبنانية على الاحتلال، مدخلا لمرحلة عربية جديدة انعكست على الأراضي الفلسطينية المحتلة وعلى انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية من جديد، وعلى تحرير قطاع غزة.
لكن بغضِّ النّظر عن كلِّ الاحتمالات الآن في عموم المنطقة العربية، وعن ما يمكن أن يحدث مستقبلا، فإنّ ظاهرة المقاومة هي وسام شرف على صدر الأمَّة العربية، بعد فترة طويلة من الذلّ والهوان، ومن التنظير السياسي والإعلامي بضرورة (الواقعية في التعامل) مع العدوّ الإسرائيلي والمتغيّرات الدولية!.
حلَت على العرب ذكرى مناسبتين هامّتين في التاريخ العربي المعاصر. الأولى، هي مناسبة ذكرى تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي في 25 أيار/مايو 2000، والثانية، هي مناسبة ذكرى هزيمة 5 حزيران/يونيو 1967.
ورغم أنّه من حيث الشكل هناك تناقض بين الاحتفال بالنصر على إسرائيل (في لبنان) وبين ذكرى هزيمة العرب في حرب عام 1967، فإنّي أرى تطابقاً وتكاملاً بين المناسبتين، ليس فقط في طبيعتهما المتّصلة بالصراع العربي/الصهيوني، ولكن أيضاً في منهج التعامل مع هذا الصراع بوجهيْه السياسي والعسكري.
إنّ انتصار المقاومة اللبنانية على إسرائيل وإجبارها على الانسحاب غير المشروط في لبنان، كان تأكيداً للمقولة التي أطلقها جمال عبد الناصر بعد حرب 67 بأنّ "ما أُخِذ بالقوّة لا يُستردُّ بغير القوّة"، كما كان انسجاماً طبيعياً مع ما وضعه جمال عبد الناصر عقب حرب 67 من استراتيجيّة لإزالة آثار العدوان، تلك الاستراتيجية التي قامت على الجمع ما بين مقرّرات قمّة الخرطوم (1967) الرافضة للمفاوضات المباشرة وللصلح والاعتراف بإسرائيل، وبين حرب الاستنزاف التي قامت بها القوّات المصرية على جبهة السويس لأكثر من عامين وإلى حين وفاة ناصر تقريباً.
فالقيادة الناصرية لمصر أدركت بعد هزيمة عام 1967 أهميّة إعطاء الأولويّة الكاملة للصراع مع إسرائيل، وأنّ هذا الصراع يقتضي تكاملاً بين هذه العناصر الثلاثة:
1- بناء تضامن عربي فعّال يضع الخطوط الحمراء من جهة (كمجموعة لاءات قمة الخرطوم) حتى لا ينزلق أيّ طرفٍ عربي في اتفاقيات منفردة، وبوقف كلّ الصراعات العربية/العربية والمعارك الهامشية داخل المجتمع العربي. وبذلك حسم ناصر بأن: "لا صوت يعلو على صوت المعركة مع العدوّ الصهيوني"، وبأنّ معيار المرحلة هو "موقف أيّ طرف عربي من العدوّ، وموقف العدو من هذا الطرف".
إنّ التضامن العربي إنّما يكون فاعلاً حينما لا يكتفي بترديد ما هو "مرفوض" بل حينما يضع خططاً لما هو مطلوب إنجازه في المعركة.
فلقد كانت قرارات قمّة الخرطوم عقب هزيمة 67، هي الأرضيّة الصلبة للدعم العربي الذي تقرّر لدول المواجهة ولمنظمة التحرير الفلسطينية، وقامت حصيلة ذلك جبهة عربية واسعة جمعت "دول النفط" مع "دول المدفع" في إطارٍ تضامنيٍّ عام، ساعد على إعادة بناء القوات المسلحة المصرية والسورية وخوضها لمعارك حرب الاستنزاف على قناة السويس، ثمّ كان هذا التضامن ذاته وراء القرار في حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، الذي جمع بين الجبهتين المصرية والسورية، وبين استخدام السلاح والاقتصاد والسياسة، فكان قرار حظر النفط متساوياً في أهمّيته مع قرار المواجهة العسكرية مع إسرائيل.
2- بناء جبهة داخلية متينة لا تستنزفها صراعات طائفية أو داخلية، ولا تلهيها معارك هامشية عن المعركة الرئيسية مع العدوّ الصهيوني. طبعاً، مع إعادة بناءٍ كاملٍ للقوات المسلحة واعتماد عنصر "الكفاءة" لا "الولاء" في مواقع المسؤولية داخل الدولة عموماً، والجيش خصوصاً. وكان نموذج هؤلاء الشهيد الفريق عبد المنعم رياض (رئيس أركان القوات المصرية) أحد شهداء حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية عام 1969.
3- بناء أهداف سياسية مرحلية لا تقبل التنازلات أو التفريط. فقد رفض جمال عبد الناصر إغراءات التسوية كلّها مع إسرائيل، بما في ذلك العرض الأميركي/الإسرائيلي له بالانسحاب الكامل من كلّ سيناء مقابل عدم تدخّل مصر في الجبهات العربية الأخرى، ومقابل إنهاء الصراع بينها وبين إسرائيل (وهذا ما فعله أنور السادات فيما بعد باتفاقية كامب ديفيد). وكان ناصر يردّد "القدس قبل سيناء، والجولان قبل سيناء"، و"لا صلح ولا اعتراف بإسرائيل ما لم تتحرّر كلّ الأراضي العربية المحتلّة عام 1967، وما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة".
وأصرَّ ناصر على هذه الأهداف السياسية رغم قبوله بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن ثمَّ لما كان يُعرَف باسم "مبادرة روجرز"، وكان يتحرّك دولياً في مختلف الاتجاهات (رغم ظروف الحرب الباردة واضطراره لعلاقةٍ خاصّة مع موسكو) من دون تفريطٍ أو تنازلٍ عن الأهداف السياسية المرحلية، وبشكلٍ متزامنٍ مع البناء العسكري والمعارك المفتوحة على الجبهة المصرية ومع أقصى درجات التضامن العربي والدعم المفتوح لحركة المقاومة الفلسطينية.
هكذا جعل عبد الناصر من هزيمة عام 1967 أرضاً صلبة لبناء وضعٍ عربيّ أفضل عموماً، مهّد الطريق أمام حرب عام 1973، فكانت 6 سنوات (من 1967 إلى 1973) مليئة بعوامل البناء والمواقف الصلبة والتي أعادت للأمَّة المهزومة اعتبارها وكرامتها.
لكن بعد وفاة جمال عبد الناصر، وبعد اتفاقية كامب ديفيد التي وقّعها أنور السادات مع إسرائيل بإشرافٍ أميركيّ كامل، تحقّقَ لإسرائيل مطلب "عزل مصر" فاستفردت بالمشرق العربيّ واجتاحت لبنان مرّتين (عام 78 وعام 82)، واحتلّت أوّل عاصمةٍ عربية (بيروت) بعد أن حاصرتها لأشهرٍ عديدة، كما واصل الاحتلال الإسرائيلي قضمه للأراضي الفلسطينية وتوسيع المستوطنات عليها.
ولا أعلم لِمَ يحلو لبعض العرب إرجاع أسباب سلبيات أوضاعهم العربية الراهنة إلى هزيمة عام 1967، ولا يعودون بها إلى أسبابها الحقيقية التي كانت مزيجاً من اتفاقيات "سلام" مع إسرائيل و"حروب" حصلت مع غير إسرائيل في العقود الثلاثة الماضية!.
لقد كانت بداية الحرب اللبنانية عام 1975 هي نفسها بداية مرحلة عصر الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة العربية، وبداية أسلوب التفاوض والصلح والاعتراف بين العرب وإسرائيل، ثم كان انتصار المقاومة اللبنانية على الاحتلال، مدخلا لمرحلة عربية جديدة انعكست على الأراضي الفلسطينية المحتلة وعلى انطلاقة الانتفاضة الفلسطينية من جديد، وعلى تحرير قطاع غزة.
لكن بغضِّ النّظر عن كلِّ الاحتمالات الآن في عموم المنطقة العربية، وعن ما يمكن أن يحدث مستقبلا، فإنّ ظاهرة المقاومة هي وسام شرف على صدر الأمَّة العربية، بعد فترة طويلة من الذلّ والهوان، ومن التنظير السياسي والإعلامي بضرورة (الواقعية في التعامل) مع العدوّ الإسرائيلي والمتغيّرات الدولية!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق