غزة/ تقرير : يوسف صادق
"رزَقني الله يخليك – أنا يتيم أمانه رزَقني – الله يجوزك ترزقيني"... كلمات تخرج من ألسنة بريئة، أطفال نسجت حياة الفقر خيوطها وألقت بشعاعها على وجوههم.كلمات يكاد الطفل أبن الثمانية أعوام نطقها من بين شفتاه البريئتان، في وقت تحكي عينيه الجميلتين لوحة طفولية لم يستطع رسمها أشهر فنانين العالم العظام. مشهد يتكرر يومياً، يخفي بين الشفتان البريئتان قصة حياة وعالم آخر..
عالم الفقر المدقع الذي حول الأطفال إلى كبار وأرباب أسر بشكل فعلي.. تجلت في نهايتها على إجبار هذا الطفل أن يبتعد عن حضن أمه الدافئ، ليخرج إلى عالم بعيداً عن طفولته البريئة التي جعلت منها الأيام والسنين تتكسر أمام هذا الفقر اللعين.
على مفترق شارع البحر، وهو الشارع الحيوي في محافظة خان يونس، يقف "محمد" إبن الثمانية من العمر تقريباً، ليترقب وجوه "نظيفة" كما أسماها، ويقصد هنا رجل بلباس لائق أو فتاة يبدو عليها الرُقيُ، ليبدأ محمد كما يقول، محاولة مستميتةً من جانبه، وكأنه يعيش لحظات حرب مع "الشيكل" الذي سيحصل عليه بعد التوسل والاستجداء.
لماذا يتسول الأطفال...!؟ويعترف الطفل "محمد"، أنه يجني ما يقرب من خمسة عشر إلى عشرين شيكلاً في اليوم العادي، معظم تلك الأموال من الطالبات الجامعيات الذين يمرون من هذا المفرق الحيوي، بينما يزيد هذا المبلغ للضعفين في أول يومين من رواتب الموظفين "القبضة"، على حسب تعبيره.أما قصته في الوصول لهذه الظاهرة "التسوَل" فترويها شفتاه البريئتان، عندما قال، "أبويا كان بشتغل في إسرائيل زمان، ولما اجت الانتفاضة قعدوه عن العمل، وعشانه كبير في السن ولا واحد راضي يشغله، وأنا ما معي فلوس اصرف زي لولاد واشتري شو ما بدي".
ويضيف الرجل الطفل، "قبل يمكن سنة لقيت بنت ماشية قلتلها الله يخليكي أعطيني شيكل، راحت البنت أعطتني، ساعتها قلت بدي أصير اطلب من البنات اللي معهم كتب وشناطي "حقائب"، لما تعودت على هيك وصرت اطلب من كل واحد".التسول.. المخدرات..
السرقة ظواهر سلبية جديدةيرى الباحث الاجتماعي الأستاذ "محمد إبراهيم العقاد"، أن تلك القصة التي رواها الطفل، ليست مجرد كلمات خرجت من فاهِ، إنما هي حالة تفاقمت وانتشرت مع ازدياد معاناة الشعب الفلسطيني من خلال الحصار الجائر الذي فرضه الاحتلال الإسرائيلي على الضفة الغربية وقطاع غزة بعد الانتخابات التشريعية التي جرت أوائل العام الماضي وأفرزت فوز حرمة حماس المتعارضة مع الرؤية الإسرائيلية، إلى أن وصلت هذه المعاناة لظاهرة سلبية في مجتمعنا الفلسطيني وهي "التسوَل"وبرأي العقاد، فأن تلك الظاهرة تعتبر أقل وطأةً من الظواهر السليبة التي ظهرت نتيجة الحصار الجائر، إذا ما قورنت بظاهرة السرقات التي إمتدت إلى دور التعليم والمدارس وسرقة السيارات الخاصة والعامة، ناهيك عن إدمان العديد من المواطنين على المخدرات هربا من المسؤولية الأساسية المناط إليه كمسؤولية المنزل والأسرة الأطفال.
الطفلة "هدى" إبنة العشرة أعوام، لا تعرف للتعليم طريقاً، فهي من بين عشرة أطفال من ذكور وإناث يتخذون من مفرق السرايا وحتى مفرق شارع فلسطين مأوىً لهم، فيما تترقب إمرأة يبدو وكأنها المسؤولة عنهم، ولا تترك شاردة ولا واردة صارت مع هؤلاء الأطفال، إلا وراقبتها.
تقول الطفلة هدى، أنا واحدة من بين ثلاثة عشر من إخوتي نعيش في غرفتين مسقوفتين "بالكارميد"، ووالدي عاطل عن العمل، فيما نقوم نحن بالتسول حتى نستطيع أن نعيش، وتلك عي أمي التي تجلس طول يومها وسط الرمال، تتسول مثلنا وتراقبنا على مدار الساعة.
وقد كفلت القوانين الدولية حق الطفل في التعليم والعيش برفاهية، كما كفلت القوانين الشرعية حق الطفل في الرعاية والأمومة من قبل ذويه حتى يبلغ سن الرشد، ولكن فيما يبدو فإن ذوي هؤلاء الأطفال لم تصلهم تلك القوانين بعد، أو تجاهلوها رغماً عنهم أو فرضت عليهم نتيجة الفقر الذي وصل ذروته في قطاع غزة.الحلول المطروحة لإنهاء ظاهرة التسولوإن كانت ظاهرة تسول الأطفال تشكل جانبا إنسانياً في حياة الفلسطينيين، خاصة في ظل إزدياد البطالة والفقر الذي وصل لنسبة 70% كما جاءت إحصائية رسمية مع بداية العام الحالي، فإن تسول أرباب الأسر يشكل ظاهرة سلبية في مجتمعنا الفلسطيني، هذا ما أكده الدكتور رأفت العوضي مدير المركز الفلسطيني للتدريب والدراسات "إبدأ" التي تعني بالمواطن الفلسطيني، مشيراً إلى أن تلك الظاهرة تضر بنضال الشعب الفلسطيني وسمعته التي رفعت هامة الفلسطينيين في الداخل والخارج ودفعت ثمنها دماء سالت من جبين أنبل بني البشر
ويضيف الدكتور العوضي، أن ظاهرة التسول ستزداد إذا ما وضعت الحلول الجذرية لإنهائها، منوهاً إلى أنها كانت محدودة في الأعوام الماضية، بينما إنتشرت وأصبحت ظاهرة تعودت أعين الفلسطينيين على رؤيتها صباحاً مساءاً، مؤكداً على ضرورة سن قوانين تمنع تلك الظاهرة ومعاقبة مرتكبيها، بعد توفير مصدر رزق يستطيع رب الأسرة الفلسطيني أن ينتج من خلالها وأن يكون فعال في المجتمع الفلسطيني، وذلك من خلال فتح مصانع في الأراضي المحررة تستوعب عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل، والإسراع في إعادة تشغيل مطار وميناء غزة، سيما وأن هاذين المشروعين يستوعب أكثر من عشرين ألف عامل من قطاع غزة لوحدها .
وتتأرجح ظاهرة التسول في فلسطين بين الحاجة الماسة لشعرات آلاف الأسر التي فقدت مصادر رزقها جراء الحصار الإسرائيلي والدولي الذي فرض على الشعب الفلسطيني، ناهيك عن ستة أعوام من الانتفاضة وما صاحبها من تدمير للراضي الزراعية وللعديد من المصانع التي يستفيد منها مئات أرباب الأسر الفلسطينية، إضافة إلى طرد أكثر من مائة وأربعين ألف عامل فلسطيني موزعين بين الضفة الغربية وقطاع غزة تحت حجج أمنية إسرائيلية واهية، وبين ظاهرة سلبية وغير صحية تشكل وجه آخر من مجتمع فلسطيني ناضل من أجل حريته وقدم آلاف الشهداء والجرحى والأسرى كشموع تعبد الطريق لجيل جديد هدفه النصر والحرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق