محمود كعوش
صبراً أيها العراقيون...إن َغداً لناظرهُ قريبْ
استقبل العرب الذين لا زالوا على عهدهم ووفائهم لأمتهم وقضاياهم الوطنية والقومية الذكرى الخامسة لغزو واحتلال العراق الأشم بمزيج من الألم والأمل، ألماً على ما تسبب به تحالف الاستعمار الجديد بقيادة الولايات المتحدة من خراب ودمار وتفكيك في بنية هذا البلد التحتية والفوقية وما ارتكبه من مجازر ومذابح وحشية ودموية بحق أهله الكرام تجاوزت كل أنواع الإبادة الجماعية التي عرفها التاريخ في حديثه وقديمه، باستثناء تلك التي ارتكبها الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ولا زال يرتكبها بحق الفلسطينيين في أرضهم المباركة التي يحتلها للعام الستين على التوالي دون ما اعتبار لقيم أو أخلاق أو قوانين أو عهود أو مواثيق، وأملاً بقرب حلول بشائر النصر الآتي الذي ستصنعه بطولات وتضحيات المجاهدين الأبطال من فصائل المقاومة العراقية الوطنية والإسلامية التي أرسى قواعدها وأذن بانطلاقتها الراحل الكبير صدام حسين، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
ففي العشرين من آذار 2003 الذي تصادفت ذكراه يوم الخميس الماضي قام تحالف الاستعمار الجديد، الذي لم يماثله استعمار آخر من حيث لا إنسانيته وجبروته ووحشيته وطغيانه غير الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الإجرامي في فلسطين المحتلة، بغزو هذا البلد العربي الذي شرف العالم بجميع مستوياته الدولية والإقليمية والعربية، عندما أسهم بكل تميز واقتدار بتأسيس منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وجميع المؤسسات الدولية والعربية التابعة لهما، بما في ذلك عاصمته الشامخة والزاهية بانتمائها العربي بغداد، التي تربت في أحضانها أرقى وأهم حضارات وثقافات الدنيا، والتي تضرب جذورها في عمق أعماق التاريخ.
في ذلك اليوم المشئوم شرع هذا التحالف الاستعماري في عدوانه الهمجي على العراق وواصله بكل حقدٍ وكيدٍ وغلٍ إلى أن كان لجحافله العسكرية الباغية ما أرادت فتمكنت من اجتياح عاصمته في التاسع من نيسان في ذلك العام، ولم يزل يواصله حتى اللحظة الراهنة بذات الكيفية الإجرامية المعتادة.
كل ذلك حدث تحت سمع وبصر الأصدقاء غير الصدوقين والاخوة غير الأوفياء، وفي تحد صارخ للشرعية الدولية المتمثلة بمنظمة الأمم المتحدة وخرق فاضح للقانون الدولي والمواثيق والمعاهدات التي تحكم العلاقات بين الدول وتحفظ حقوق الناس في أوقات السلم والحرب.
وكان هذا التحالف الشيطاني قد مهد لعدوانه السافر بعملية تسويق مخادعة وتضليلية لجملة من المبررات والذرائع التي ما لبثت أن تساقطت وتداعت الواحدة بعد الأخرى، ليتأكد في ما بعد للغرب والشرق أن ما حدث في العراق لم يكن إلا جريمة نكراء ارتكبت بحق بلد وشعب آمنين، أجمع العالم على إدانتها وإدانة من ارتكبوها وخططوا لها وأسهموا في دعها وتأييدها والترويج لها وحتى التغاضي عن تبعاتها وإفرازاتها، لأنها واحدة من أرذل وأشنع الجرائم اللاإنسانية واللاأخلاقية التي ارتُكبت على مدار التاريخ، إن لم تكن الأرذل والأشنع.
بين آذار 2003 وآذار 2008 خمسة أعوام كانت الأسوأ في تاريخ العراق والعراقيين القديم والحديث. فإن كان العراق قد عرف على مدار تاريخه الكثير من الغزاة الطامعين بأرضه ومصادره الطبيعية وبالأخص بتروله وموقعه الإستراتيجي ومكانته العربية والإسلامية والدولية العالية، إلا أن "الغزاة الجدد" الذين قدموا إليه هذه المرة من أقصى بقاع الشمال الغربي هم الأسوأ لما ارتكبوه من فضائع وكبائر بحقه وحق أبنائه، يندى لها جبين الإنسانية وتخجل منها الأخلاق. هذا إن بقي للإنسانية والأخلاق من مكان في هذا العالم الذي تحول إلى غابة حقيقية، بعدما اختطف "المحافظون الجدد" بمعية جورج بوش الابن مقاليد السياسة الأميركية من خلال سيطرتهم على إدارة الحكم و"البيت الأسود" إثر الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2000 والتي فاز فيها بوش على آل جور بمنطق رعاة البقر!!
بين آذار 2003 وآذار 2008 أمضى العراق أسوأ خمسة أعوام في تاريخه، في ظل الاحتلال الأميركي التعسفي وفي ظل العنف والاقتتال الطائفي والمذهبي والعرقي الذي لم يعرفه أبناؤه من قبل، حتى في عصور الجهل والظلام. فخلال تلك الأعوام الغبراء، التي نأمل أن لا تمتد طويلاً بعد الآن، لم يسمع العراقيون غيرأزيز الرصاص و دوي الانفجارات، ولم يعرفوا غير القتل والسحل والذبح والتنكيل والتعذيب والفتك والتدمير والاغتصاب وهتك الأعراض وفقدان أبسط مقومات الحياة التي وعدهم بها كذاب "البيت الأسود" في كل خطبه الجوفاء وأحاديثه الحمقاء. لقد أغرقهم في وهم "ديمقراطيته" المزعومة التي لم يجنوا من "فضائلها ومكرماتها" غير سمها الزعاف ولسعاتها "العرقوبية"، والتي جعلتهم يترحمون على حكم حزب البعث والراحل الكبير ورفاقه الشجعان في كل لحظة وطرفة عين.
نعم أمضى العراق أسوأ خمسة أعوام خسر خلالها الغالي والرخيص لمجرد أن حفنة من أبنائه الخونة والعملاء المأجورين رغبوا في إشباع شبقهم للسلطة وغريزتهم للانتقام وإرضاء نفوسهم المريضة وشخصياتهم التافهة، وقبل هذه مجتمعة إرضاء أسيادهم في واشنطن ولندن وربما في تل أبيب أيضاً!!
فخلال تلك الأعوام المثقلة بالحزن والألم العاصفين، فقد العراق مئات آلاف الضحايا البريئة، بعد ثلاثة عشر عاما من الحصارالشامل والمرير تلت العدوان الثلاثيني الذي شنته الولايات المتحدة والبلدان الحليفة لها على العراق في عام 1991 تحت مُسمى "عاصفة الصحراء" وبدعوى تحرير إمارة الكويت وخسر بنتيجته مئات الآلاف من أطفاله ونسائه وشيوخه. وكما كانت الأعوام الخمسة المشؤومة هي الأسوأ في تاريخ العراق للأسباب التي أوردت وملايين الأسباب الأخرى، فقد كان العام 2007 أسوأ من الأعوام الأربعة التي سبقته، بسبب أجواء الحرب الأهلية التي كانت ولم تزل "سيدة الموقف" فيه!!
إن إصرار سلطة الاحتلال الغاشمة وعملائها المحليين والمنتفعين والمستفيدين من استمرار وجودها غير الشرعي والمفروض في العراق بمنطق القوة والقهر على الإدعاء بأن "تغيرات إيجابية كبيرة قد حدثت فيه بين آذار 2003 وآذار 2008" لا يغير في واقع الأمر شيئاً ولا يلغي الحقيقة المرة للمشهد العراقي الذي استجد بعد الغزو وتكرس في ظل الاحتلال .
فهذا المشهد المضرج بالدماء الغزيرة والموشح بالسواد القاتم لم يتوقف عن الصراخ من هول وجعه، معترفاً بأن السلبيات التي أفرزها الغزو والاحتلال وتسلق العملاء المحليين إلى السلطة، على اختلاف أشكالها وأنواعها ومشاربها، قد طغت على كل شيء ولم يعد هناك من مجال لوجود أيٍ من إيجابيات الماضي التي لم يعد ممكناً غير الترحم عليها والنضال الجاد من أجل استعادتها.
ولربما أن أبرز تلك السلبيات تمثل بتفشي ظاهرة العنف التي استشرت في البلاد وبين العباد والتي حصدت ولم تزل تحصد أرواح عشرات بل مئات العراقيين يومياً، وارتفاع معدلات البطالة وتفشي الفساد المالي والإداري. ولعل ما يُدمي القلوب أكثر من غيره أن الشكلين الطائفي والمذهبي لهذه الظاهرة الملعونة باتا ينذران باندلاع حرب أهلية مدمرة، لطالما انتظرتها سلطة الاحتلال الغاصبة التي يُشرف عليها "هولاكو العصر" جورج بوش الابن، ولطالما تمنتها حكومة الخونة والجواسيس المختبئة في "المنطقة الخضراء" والتي يرأسها "مصاص الدماء" نوري المالكي سراً وجهاراً .
ومن المؤسف أنه في الوقت الذي يُذكي "العراقيون الجدد" ـ نسبة إلى أسيادهم في واشنطن ـ جذوة خلافاتهم ويسترسلون في صراعاتهم حول "الكعكة السامة" وتقسيم المغانم السياسية وبالأخص مواقع النفوذ السلطوية وتوزيع الحصص الاقتصادية وبالأخص البترولية منها، تتواصل معاناة العراقيين مع انعدام الأمن والأمان وغياب الاستقرار، ويتواصل معها ارتفاع معدل الفقر والبطالة ويستشري الفساد الإداري والمالي وتتحول الخدمات المدنية كالماء والكهرباء والوقود وغير ذلك من مقومات الحياة الأساسية إلى "عملة نادرة الوجود" .
ومن المؤسف أيضاً أنه فيما ينشغل"العراقيون الجدد" في خطب ود سلطة الاحتلال من خلال إظهار ولائهم الكامل لها ويتلهون بخلافاتهم حول النفوذ والمكاسب والمغانم الخاصة، تتزايد العصابات التي تمارس العنف والإجرام في العراق من ميليشيات تابعة للأحزاب المدعومة من قبل هذه السلطة الجائرة وأركان النظام الإيراني الطامعين به على مدار التاريخ، بحيث أصبح العثور على الجثث الملقاة هنا وهناك في الطرقات والأزقة وفي كل مكان والحديث المتواصل عنها قوت وسائل الإعلام اليومي، وبحيث تحولت المشارح في بغداد والمدن الرئيسية الأخرى إلى مدافن مؤقتة لجثث القتلى.
أما عن جرائم الاختطاف التي يتعرض لها أجانب وعراقيون وعمليات القتل والاغتيال التي يتعرض لها أكاديميون وأساتذة جامعيون وعلماء وأطباء وموجات الهجرة الاختيارية والإجبارية للكفاءات العلمية بعد اغتيال المئات من هؤلاء فحدث ولا حرج. وإن أنحى العراقيون باللائمة على عملاء النظام الإيراني ورجال مخابراته في هذه الجريمة، فهم ينحون باللائمة على عملاء الكيان الصهيوني ورجال مخابراته في تلك الجريمة!! فإيران والكيان الصهيوني مستفيدان من الوضع الشاذ القائم في العراق منذ آذار 2003 حتى الآن، وكلاهما يتبادلان المصالح ويتقاسمان الأدوار برعاية سلطة الاحتلال الأميركية وبالتنسيق المباشر وغير المباشر معها.
و"العراقيون الجدد" من أركان حكومة نوري المالكي العميلة والمعينة من قبل سلطة الاحتلال والمدعومة من إيران التي كانت ولا زالت شريكاً رئيسياً في التسبب بمأساة العراق يعترفون سراً وجهاراً بأن هذا البلد الذي كان من أكثر البلدان أماناً في العالم قبل غزوه واحتلاله يعاني منذ أكثر من ثلاثة أعوام من حربٍ أهلية حقيقية وخطيرة. ويعترفون بأن هذه الحرب توقع يومياً عشرات بل مئات الضحايا من جميع الطوائف والمذاهب والأعراق العراقية، وتستهدف جميع دور العبادة دون تفريق أو تمييز.
ولعل هذه هي المرة المليون التي يعترف فيها "العراقيون الجدد" من أركان الحكومة الهزيلة والعميلة بهذه الحقيقة ولا يعملون على إطفاء جذوتها!! و"المحافظون الجدد" في واشنطن وسيدهم في "البيت الأسود" يعترفون أيضاً بتفجر الحرب الأهلية في العراق، لكنهم بدل أن يطفئوا جذوتها نراهم يؤججونها عن سابق عمد وترصد، أملاً في إطالة بقائهم فيه، "لا قدر الله"!! لكن "العراقيين الجدد" و"المحافظين الجدد" لا يخفون تشاؤمهم ومخاوفهم من قرب نهايتهم في العراق.
وكما قلت سابقاً، أعود وأكرر أن الحقيقة قد تعرت ولم يعد ممكناً ستر عورتها بعد الآن بكل أنواع الأوراق. فبين آذار 2003 وآذار 2008 خمسة أعوام تضاعف المأزق الأميركي في العراق خلالها مئات بل آلاف المرات، وذلك بفضل بشائر انتصار المقاومة العراقية الآتي وبفضل تطبيق المقاومة الأمين للمشروع الوطني الذي طرحته بعد فترة وجيزة من بدء الاحتلال البغيض.
ففي ظل هذه البشائر الجدية والخيرة، أصبح من الصعب على إدارة المحافظين الجدد في واشنطن إيجاد مخرج لسحب جيشها من عراق العروبة الخالدة بشكل يحفظ ماء وجهها ووجه هذا الجيش الغازي معاً، مما يُضيق المخارج أمامهما ويبقيهما أسيري خيار الهزيمة المنكرة وخيار الهروب الذليل تحت جنح الظلام. فصبراً يا عراق إن النصر لآت، بعون الله وسواعد المقاومين الأبطال.
كاتب وباحث مقيم في الدانمرك
kawashmahmoud@hotmail.com
kawashmahmoud@yahoo.co.uk
صبراً أيها العراقيون...إن َغداً لناظرهُ قريبْ
استقبل العرب الذين لا زالوا على عهدهم ووفائهم لأمتهم وقضاياهم الوطنية والقومية الذكرى الخامسة لغزو واحتلال العراق الأشم بمزيج من الألم والأمل، ألماً على ما تسبب به تحالف الاستعمار الجديد بقيادة الولايات المتحدة من خراب ودمار وتفكيك في بنية هذا البلد التحتية والفوقية وما ارتكبه من مجازر ومذابح وحشية ودموية بحق أهله الكرام تجاوزت كل أنواع الإبادة الجماعية التي عرفها التاريخ في حديثه وقديمه، باستثناء تلك التي ارتكبها الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ولا زال يرتكبها بحق الفلسطينيين في أرضهم المباركة التي يحتلها للعام الستين على التوالي دون ما اعتبار لقيم أو أخلاق أو قوانين أو عهود أو مواثيق، وأملاً بقرب حلول بشائر النصر الآتي الذي ستصنعه بطولات وتضحيات المجاهدين الأبطال من فصائل المقاومة العراقية الوطنية والإسلامية التي أرسى قواعدها وأذن بانطلاقتها الراحل الكبير صدام حسين، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
ففي العشرين من آذار 2003 الذي تصادفت ذكراه يوم الخميس الماضي قام تحالف الاستعمار الجديد، الذي لم يماثله استعمار آخر من حيث لا إنسانيته وجبروته ووحشيته وطغيانه غير الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الإجرامي في فلسطين المحتلة، بغزو هذا البلد العربي الذي شرف العالم بجميع مستوياته الدولية والإقليمية والعربية، عندما أسهم بكل تميز واقتدار بتأسيس منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وجميع المؤسسات الدولية والعربية التابعة لهما، بما في ذلك عاصمته الشامخة والزاهية بانتمائها العربي بغداد، التي تربت في أحضانها أرقى وأهم حضارات وثقافات الدنيا، والتي تضرب جذورها في عمق أعماق التاريخ.
في ذلك اليوم المشئوم شرع هذا التحالف الاستعماري في عدوانه الهمجي على العراق وواصله بكل حقدٍ وكيدٍ وغلٍ إلى أن كان لجحافله العسكرية الباغية ما أرادت فتمكنت من اجتياح عاصمته في التاسع من نيسان في ذلك العام، ولم يزل يواصله حتى اللحظة الراهنة بذات الكيفية الإجرامية المعتادة.
كل ذلك حدث تحت سمع وبصر الأصدقاء غير الصدوقين والاخوة غير الأوفياء، وفي تحد صارخ للشرعية الدولية المتمثلة بمنظمة الأمم المتحدة وخرق فاضح للقانون الدولي والمواثيق والمعاهدات التي تحكم العلاقات بين الدول وتحفظ حقوق الناس في أوقات السلم والحرب.
وكان هذا التحالف الشيطاني قد مهد لعدوانه السافر بعملية تسويق مخادعة وتضليلية لجملة من المبررات والذرائع التي ما لبثت أن تساقطت وتداعت الواحدة بعد الأخرى، ليتأكد في ما بعد للغرب والشرق أن ما حدث في العراق لم يكن إلا جريمة نكراء ارتكبت بحق بلد وشعب آمنين، أجمع العالم على إدانتها وإدانة من ارتكبوها وخططوا لها وأسهموا في دعها وتأييدها والترويج لها وحتى التغاضي عن تبعاتها وإفرازاتها، لأنها واحدة من أرذل وأشنع الجرائم اللاإنسانية واللاأخلاقية التي ارتُكبت على مدار التاريخ، إن لم تكن الأرذل والأشنع.
بين آذار 2003 وآذار 2008 خمسة أعوام كانت الأسوأ في تاريخ العراق والعراقيين القديم والحديث. فإن كان العراق قد عرف على مدار تاريخه الكثير من الغزاة الطامعين بأرضه ومصادره الطبيعية وبالأخص بتروله وموقعه الإستراتيجي ومكانته العربية والإسلامية والدولية العالية، إلا أن "الغزاة الجدد" الذين قدموا إليه هذه المرة من أقصى بقاع الشمال الغربي هم الأسوأ لما ارتكبوه من فضائع وكبائر بحقه وحق أبنائه، يندى لها جبين الإنسانية وتخجل منها الأخلاق. هذا إن بقي للإنسانية والأخلاق من مكان في هذا العالم الذي تحول إلى غابة حقيقية، بعدما اختطف "المحافظون الجدد" بمعية جورج بوش الابن مقاليد السياسة الأميركية من خلال سيطرتهم على إدارة الحكم و"البيت الأسود" إثر الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2000 والتي فاز فيها بوش على آل جور بمنطق رعاة البقر!!
بين آذار 2003 وآذار 2008 أمضى العراق أسوأ خمسة أعوام في تاريخه، في ظل الاحتلال الأميركي التعسفي وفي ظل العنف والاقتتال الطائفي والمذهبي والعرقي الذي لم يعرفه أبناؤه من قبل، حتى في عصور الجهل والظلام. فخلال تلك الأعوام الغبراء، التي نأمل أن لا تمتد طويلاً بعد الآن، لم يسمع العراقيون غيرأزيز الرصاص و دوي الانفجارات، ولم يعرفوا غير القتل والسحل والذبح والتنكيل والتعذيب والفتك والتدمير والاغتصاب وهتك الأعراض وفقدان أبسط مقومات الحياة التي وعدهم بها كذاب "البيت الأسود" في كل خطبه الجوفاء وأحاديثه الحمقاء. لقد أغرقهم في وهم "ديمقراطيته" المزعومة التي لم يجنوا من "فضائلها ومكرماتها" غير سمها الزعاف ولسعاتها "العرقوبية"، والتي جعلتهم يترحمون على حكم حزب البعث والراحل الكبير ورفاقه الشجعان في كل لحظة وطرفة عين.
نعم أمضى العراق أسوأ خمسة أعوام خسر خلالها الغالي والرخيص لمجرد أن حفنة من أبنائه الخونة والعملاء المأجورين رغبوا في إشباع شبقهم للسلطة وغريزتهم للانتقام وإرضاء نفوسهم المريضة وشخصياتهم التافهة، وقبل هذه مجتمعة إرضاء أسيادهم في واشنطن ولندن وربما في تل أبيب أيضاً!!
فخلال تلك الأعوام المثقلة بالحزن والألم العاصفين، فقد العراق مئات آلاف الضحايا البريئة، بعد ثلاثة عشر عاما من الحصارالشامل والمرير تلت العدوان الثلاثيني الذي شنته الولايات المتحدة والبلدان الحليفة لها على العراق في عام 1991 تحت مُسمى "عاصفة الصحراء" وبدعوى تحرير إمارة الكويت وخسر بنتيجته مئات الآلاف من أطفاله ونسائه وشيوخه. وكما كانت الأعوام الخمسة المشؤومة هي الأسوأ في تاريخ العراق للأسباب التي أوردت وملايين الأسباب الأخرى، فقد كان العام 2007 أسوأ من الأعوام الأربعة التي سبقته، بسبب أجواء الحرب الأهلية التي كانت ولم تزل "سيدة الموقف" فيه!!
إن إصرار سلطة الاحتلال الغاشمة وعملائها المحليين والمنتفعين والمستفيدين من استمرار وجودها غير الشرعي والمفروض في العراق بمنطق القوة والقهر على الإدعاء بأن "تغيرات إيجابية كبيرة قد حدثت فيه بين آذار 2003 وآذار 2008" لا يغير في واقع الأمر شيئاً ولا يلغي الحقيقة المرة للمشهد العراقي الذي استجد بعد الغزو وتكرس في ظل الاحتلال .
فهذا المشهد المضرج بالدماء الغزيرة والموشح بالسواد القاتم لم يتوقف عن الصراخ من هول وجعه، معترفاً بأن السلبيات التي أفرزها الغزو والاحتلال وتسلق العملاء المحليين إلى السلطة، على اختلاف أشكالها وأنواعها ومشاربها، قد طغت على كل شيء ولم يعد هناك من مجال لوجود أيٍ من إيجابيات الماضي التي لم يعد ممكناً غير الترحم عليها والنضال الجاد من أجل استعادتها.
ولربما أن أبرز تلك السلبيات تمثل بتفشي ظاهرة العنف التي استشرت في البلاد وبين العباد والتي حصدت ولم تزل تحصد أرواح عشرات بل مئات العراقيين يومياً، وارتفاع معدلات البطالة وتفشي الفساد المالي والإداري. ولعل ما يُدمي القلوب أكثر من غيره أن الشكلين الطائفي والمذهبي لهذه الظاهرة الملعونة باتا ينذران باندلاع حرب أهلية مدمرة، لطالما انتظرتها سلطة الاحتلال الغاصبة التي يُشرف عليها "هولاكو العصر" جورج بوش الابن، ولطالما تمنتها حكومة الخونة والجواسيس المختبئة في "المنطقة الخضراء" والتي يرأسها "مصاص الدماء" نوري المالكي سراً وجهاراً .
ومن المؤسف أنه في الوقت الذي يُذكي "العراقيون الجدد" ـ نسبة إلى أسيادهم في واشنطن ـ جذوة خلافاتهم ويسترسلون في صراعاتهم حول "الكعكة السامة" وتقسيم المغانم السياسية وبالأخص مواقع النفوذ السلطوية وتوزيع الحصص الاقتصادية وبالأخص البترولية منها، تتواصل معاناة العراقيين مع انعدام الأمن والأمان وغياب الاستقرار، ويتواصل معها ارتفاع معدل الفقر والبطالة ويستشري الفساد الإداري والمالي وتتحول الخدمات المدنية كالماء والكهرباء والوقود وغير ذلك من مقومات الحياة الأساسية إلى "عملة نادرة الوجود" .
ومن المؤسف أيضاً أنه فيما ينشغل"العراقيون الجدد" في خطب ود سلطة الاحتلال من خلال إظهار ولائهم الكامل لها ويتلهون بخلافاتهم حول النفوذ والمكاسب والمغانم الخاصة، تتزايد العصابات التي تمارس العنف والإجرام في العراق من ميليشيات تابعة للأحزاب المدعومة من قبل هذه السلطة الجائرة وأركان النظام الإيراني الطامعين به على مدار التاريخ، بحيث أصبح العثور على الجثث الملقاة هنا وهناك في الطرقات والأزقة وفي كل مكان والحديث المتواصل عنها قوت وسائل الإعلام اليومي، وبحيث تحولت المشارح في بغداد والمدن الرئيسية الأخرى إلى مدافن مؤقتة لجثث القتلى.
أما عن جرائم الاختطاف التي يتعرض لها أجانب وعراقيون وعمليات القتل والاغتيال التي يتعرض لها أكاديميون وأساتذة جامعيون وعلماء وأطباء وموجات الهجرة الاختيارية والإجبارية للكفاءات العلمية بعد اغتيال المئات من هؤلاء فحدث ولا حرج. وإن أنحى العراقيون باللائمة على عملاء النظام الإيراني ورجال مخابراته في هذه الجريمة، فهم ينحون باللائمة على عملاء الكيان الصهيوني ورجال مخابراته في تلك الجريمة!! فإيران والكيان الصهيوني مستفيدان من الوضع الشاذ القائم في العراق منذ آذار 2003 حتى الآن، وكلاهما يتبادلان المصالح ويتقاسمان الأدوار برعاية سلطة الاحتلال الأميركية وبالتنسيق المباشر وغير المباشر معها.
و"العراقيون الجدد" من أركان حكومة نوري المالكي العميلة والمعينة من قبل سلطة الاحتلال والمدعومة من إيران التي كانت ولا زالت شريكاً رئيسياً في التسبب بمأساة العراق يعترفون سراً وجهاراً بأن هذا البلد الذي كان من أكثر البلدان أماناً في العالم قبل غزوه واحتلاله يعاني منذ أكثر من ثلاثة أعوام من حربٍ أهلية حقيقية وخطيرة. ويعترفون بأن هذه الحرب توقع يومياً عشرات بل مئات الضحايا من جميع الطوائف والمذاهب والأعراق العراقية، وتستهدف جميع دور العبادة دون تفريق أو تمييز.
ولعل هذه هي المرة المليون التي يعترف فيها "العراقيون الجدد" من أركان الحكومة الهزيلة والعميلة بهذه الحقيقة ولا يعملون على إطفاء جذوتها!! و"المحافظون الجدد" في واشنطن وسيدهم في "البيت الأسود" يعترفون أيضاً بتفجر الحرب الأهلية في العراق، لكنهم بدل أن يطفئوا جذوتها نراهم يؤججونها عن سابق عمد وترصد، أملاً في إطالة بقائهم فيه، "لا قدر الله"!! لكن "العراقيين الجدد" و"المحافظين الجدد" لا يخفون تشاؤمهم ومخاوفهم من قرب نهايتهم في العراق.
وكما قلت سابقاً، أعود وأكرر أن الحقيقة قد تعرت ولم يعد ممكناً ستر عورتها بعد الآن بكل أنواع الأوراق. فبين آذار 2003 وآذار 2008 خمسة أعوام تضاعف المأزق الأميركي في العراق خلالها مئات بل آلاف المرات، وذلك بفضل بشائر انتصار المقاومة العراقية الآتي وبفضل تطبيق المقاومة الأمين للمشروع الوطني الذي طرحته بعد فترة وجيزة من بدء الاحتلال البغيض.
ففي ظل هذه البشائر الجدية والخيرة، أصبح من الصعب على إدارة المحافظين الجدد في واشنطن إيجاد مخرج لسحب جيشها من عراق العروبة الخالدة بشكل يحفظ ماء وجهها ووجه هذا الجيش الغازي معاً، مما يُضيق المخارج أمامهما ويبقيهما أسيري خيار الهزيمة المنكرة وخيار الهروب الذليل تحت جنح الظلام. فصبراً يا عراق إن النصر لآت، بعون الله وسواعد المقاومين الأبطال.
كاتب وباحث مقيم في الدانمرك
kawashmahmoud@hotmail.com
kawashmahmoud@yahoo.co.uk
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق