الكولونيل شربل بركات
عجيب أمر اللبنانيين فإنهم لم يدركوا بعد أن الفرصة تلو الأخرى تضيع من أيديهم، ولم يعرفوا بعد أن الدول لا تبنى بالتمنيات ولا، بالطبع، بالفجور وأن هناك مسارات حتمية تمر فيها الأمم والشعوب وعلى من يريد التقدم والاستمرار أن يستفيد منها وإلا فإن القطار يفوته.
لقد مر لبنان خلال ثلاثين سنة من العنف والاحتلال بأيام سوداء كثيرة كان يجب أن تصهر اللبنانيين وتجعل منهم شعبا واحدا ويدا واحدة تعرف ما تريد ولكن هذه التجارب، على ما يبدو، هي ما يدفع المنظورين من بنيه إلى الإحجام عن المبادرة والتلطي دوما خلف مفهوم أو مصطلح مبني، بدون شك، على الخوف وعدم الثقة بالنفس، سلاحه التردد، يسمونه "المؤامرة" ويفسرون به كل الأحداث وكل التطورات.
يقول المثل: "كما تكونون يولّى عليكم"، صحيح، وقد يكون مفهوم الذمية المتأصل في المجتمع اللبناني منذ قرون طويلة والذي لا يشمل فئة واحدة من اللبنانيين، هو السبب الرئيسي لكل هذا التردد وعدم الرؤية عند المسؤولين. فمثلا يخاف اللبنانيون من التوطين ولكن لكل منهم مخاوفه الخاصة؛ فالمسيحيون يخافون التوطين لأنه سيغيّر التوازن الديموغرافي ويزيد عدد المسلمين في البلد فتُسقط الديمقراطية العددية حقوقهم الأساسية حتى في حرية المعتقد والرأي والزي والانفتاح... والشيعة يخافون أن يزيد عدد السنة فيخسرون بعض حقوقهم وتميّزهم في المجتمع المتعدد الوحيد الذي أعطاهم بشكل واضح حقوقا في التمثيل والخدمات والشأن العام. والسنة يخافون أن تنسى قضية فلسطين وكأنهم يشعرون دوما بعقدة الذنب لقبولهم، ربما، بالمشاركة في الوطن التعددي، ولذا فهم يدافعون عن أنفسهم بقيادتهم مهمة المحافظة على حقوق المسلمين في المنطقة. أما الدروز، الذين يخدم اخوتهم مثل البدو والشركس في جيش الدفاع الإسرائيلي بدون عقد ومركبات نقص، فإنهم يخافون من أن يقال بأنهم يخدمون مصلحة إسرائيل، ولذا فهم يزايدون حتى على السنة أحيانا.
إذاً يجمع اللبنانيون في الشكل على موضوع التوطين ولكن كل من منظاره الخاص، ونحن لا نرى ضررا في ذلك فالمصلحة العامة إنما هي القاسم المشترك للمصالح الخاصة، ولكن عندما يصبح الموضوع الفلسطيني مشكلة لبنانية هل يمكن أن يجمع اللبنانيون على الحل؟ وبشكل أكثر تبسيطا ووضوحا نحن نعلم أن السلاح الفلسطيني مشكلة لبنانية، فهل يجرؤ اللبنانيون أن يجمعوا على قرار بحلها؟
الجواب لا. ولو أن المسيحيين قد خاضوا حروبا من أجل التخلص من السلاح الفلسطيني، وعاد الشيعة وعلى رأسهم أمل وحزب الله ليخوضوا هم أيضا حربا على هذا السلاح، ثم خاض السنة والدروز مؤخرا الحرب على هذا السلاح، في "نهر البارد"، وهم يخافون من أن يصبح كل مخيم ومعسكر نهر بارد جديد، ولكنهم لنفس العقدة الذمية المتحكمة بهم لا يجرؤون على الإجماع حتى على هذا الموضوع.
لقد تحكّم السوريون بلبنان مدة ثلاثين سنة وأذاقوا الكل مرّ تصرفاتهم الوحشية، وهم يمنعونه، بالرغم من مساندة العالم وحتى بعد أن تحرر منهم وجاهر قادته بعداوتهم لهم، من أن ينهض وذلك لأن الزعماء اللبنانيين لا يزالون يعيشون الذمية ويلتجئون لها ويختبئون خلفها.
الكل يعلم أن سوريا قتلت الرئيس الحريري والكل يعلم أن السوريين خرجوا من لبنان بسبب القرار الدولي 1559، والكل يعرف بأن بند تسليم السلاح اللبناني وغير اللبناني للدولة هو مفتاح الحل وهو جزء أساسي من القرار الدولي الذي أخرج سوريا، والكل يعرف أن حزب الله تنظيم إيراني يأتمر بإمرة الحرس الثوري ولا شأن لبناني له إلا بمقدار ما يجهّز ويقدّم من عناصر لخدمة النظام الإيراني مقابل ملايين الدولارات التي يغدقها هذا النظام بدون حساب كونه يحاول تحقيق حلم قديم كان دفن مع داريوس العظيم ولم يقدر على إعادة تحقيقه كسرى الأول ولا الثاني بالرغم من محاولتيهما. ولكن أن ينبري زعماء 14 آذار منذ اليوم الأول لخروج السوريين بالتبرع بحماية ما أسموه "سلاح المقاومة" والذهاب إلى بلاد العالم لمحاولة إقناعها بترك هذا الموضوع ليحل داخليا، فذلك تكاذب وخوف وهما خصائص الذمية.
اليوم وبعد أن صادر الرئيس نبيه بري مجلس النواب رمز الديمقراطية، ومنع انتخاب رئيس للجمهورية وهو رمز الدولة، لا يزال كبار زعماء 14 آذار يغدقون عليه المديح ويعللون النفس كلما ضحك عليهم بما يسميه "مبادرة جديدة". ولكن آخر الصرعات في مجال الذمية هو تبرّع هؤلاء، وبعد أن هددهم نصر الله بعظائم الأمور وفتح الحرب العالمية، وقد كانوا رأوا مفاعيل حروب نصر الله على لبنان وما تجلبه له من ويلات منذ "عناقيد الغضب" و"يوم الحساب" إلى "الوعد الصادق" (الذي اعتبره نصراً من الله لأن لبنان دفع ما عليه من "خوّة" لهذا الحزب وأسياده في إيران وسوريا أكثر من ألف قتيل وثلاثة آلاف جريح عدى الدمار الذي فاق الثلاثين بليون من الدولارات)، نعم تبرّع البعض بالإعلان عن دعم نصر الله في حال قدر أن يستجلب الغضب الإسرائيلي، بدل تهديده بعدم الغفران لكل من تسوّله نفسه تعريض أمن اللبنانيين للخطر. ونحن نعلم بأن إيران وسوريا هما من دفع زعماء حماس لإطلاق الصواريخ في غزة، وهي التي لا تقدم ولا تؤخر إلا في إفشال عملية السلام ومنع نجاح الفلسطينيين في بناء دولة قادرة على العيش. تصرف حماس هذا استجلب ضربة إسرائيلية يحضر حزب الله بالتأكيد مثلها ليستجلب نفس الرد، ألم يقل السيد نصر الله في خطابه الأخير بأنه سيقضي على أسطورة إسرائيل بضرب دباباتها في لبنان؟
الغريب أنه عندما يسأل الزعماء اللبنانيون لماذا لا تقومون بواجباتكم يأتي الجواب لعدم القدرة فنحن مهددون وها قد قتل منا رموز وشخصيات. وعندما يقال لهم أن العالم يقف معكم، يقولون "أين يصرف هذا الكلام". وإذا ما قام أحد كبار العالم باستعراض القوة ردا على الاستعراضات الجارية لإخافة اللبنانيين، يسارع الزعماء الذميين إلى التبرؤ من هذه الإشارات بدل استغلالها لتقوية مواقفهم في صراعهم للبقاء.
بالحقيقة عجيب أمر هؤلاء اللبنانيين. يجاهرون بمعاداة سوريا لهم وقيامها بقتلهم وبتسليحها حزب الله ودفعه للقيام بإسقاط النظام وهم بدورهم يدعون لإسقاط النظام في دمشق ويطالبون العرب بمقاطعة القمة التي ستعقد في دمشق ولكن كل واحد منهم مستعد لحضورها إذا ما دعي. فهل يستطيع أحد أن يفسر ماذا يريد اللبنانيون هؤلاء؟
نحن نرى للأسف بأن العالم قد ييأس من قدرة هذه الواجهة اللبنانية على الحكم، وهذا ما يريده أعداء لبنان بالتأكيد علهم يعودون إلى ربوعه والتحكم بأبنائه، ولكن العالم لن يقدر أن يسلّم الإرهاب بلدا آخر بهذه السهولة وبعد كل ما كان، ولذا فنحن نأمل أن يتدخل ليفرض القانون، رحمة بالناس الذين نزلوا إلى الساحات وقالوا كلمتهم، وبنفس الوقت منعا لتطاول معسكر الإرهاب على كل المنطقة.
فهل يقدّر المسؤولون في لبنان لمرة بأن العالم الذي يحمي كوسوفو وتيمور الشرقية وغيرها قادر على حماية لبنان؟ والمطلوب منهم واحد أن يحزموا أمرهم ويكفوا عن التذبذب والإدعاء بالذكاء الذي لم يعد يرى منه غير مظهر الجبن وقصر النظر والذمية القاتلة.
الكولونيل شربل بركات
تورونتو- كندا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق