الثلاثاء، مارس 25، 2008

في يوم الأرض .. تعانَق الشهداء وتوّحد الدم


د. عدنان بكريه
فلسطين الداخل

في الثلاثين من آذار تحل الذكرى السنوية لتفجر الغضب الشعبي احتجاجا على قيام الحكومة الإسرائيلية بمصادرة عشرات آلاف الدونمات من أراضي المواطنين العرب ضمن خطة منهجية ومبرمجة للاستيلاء على ما تبقى من الأراضي وتهويد الجليل والمثلث والنقب .
لقد انطلقت الفكرة قبل يوم الأرض عام ستة وسبعين وكانت وما زالت على أجندة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة والتي ما فتئت تبرمج الخطط والمشاريع لتجريد المواطنين العرب مما تبقى لهم من أراضي .. تارة تحت يافطة تطوير الجليل وتارة أخرى تحت يافطة إنعاش المناطق العربية !! لكن الهدف يبقى سلب ما تبقى من أراضي لبناء المناطر الاستيطانية لمقاومة الخطر الديموغرافي الذي يهدد يهودية الدولة !! ولتضييق الخناق على الأقلية الفلسطينية هنا بهدف تطويعها وتدجينها وعزلها عن قضايا الأمة العربية وشعبنا الفلسطيني .
لقد شكلت قضية الأرض والوجود محور صراع دائم بين الصهيونية والشعب الفلسطيني..وكان طبيعيا أن يدافع الفلسطيني هنا عن أرضه التي تعتبر عنوان وجوده ومركب بقائه في الوطن.. كان من الطبيعي أن تنتفض الجماهير دفاعا عن الأرض والوجود.... دفاعا عن حقها في البقاء .. فلو استطاعت إسرائيل بمصادرة الأراضي التابعة للأقلية الفلسطينية هنا لأقدمت لاحقا على تهجير جزء كبير من أبناء شعبنا حفاظا على نقاء الدولة ويهوديتها ...لكن إصرار الفلسطيني على الدفاع عن أرضه ووجوده فاجأ قادة إسرائيل .
كان من الطبيعي أن يتوحد الدم الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب دفاعا عن الأرض.. كان من الطبيعي أن يمتزج الدم الفلسطيني معلنا بأن لا مساومة على حقنا في الحياة والبقاء... كان من الطبيعي أن ينتفض شعبنا وأحرار العالم العربي تضامنا مع أخوانهم في الداخل ..فتحول هذا اليوم إلى يوم لكل الشعب الفلسطيني وأحرار العالم العربي وفُتحت صفحة جديدة في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي .
في الثلاثين من آذار سجل الأحرار عبارتهم بدم ستة شهداء، لم ينتظروا مؤتمر قمة عربية أو لجنة رباعية، أو مبادرة أمريكية، أو خطة أوروبية... لقد دونوا بدمائهم قرار الشعب .. لن تمروا...أرضنا حياة وبداية ليس لها نهاية... أرضنا حرية وكرامة .
(خير محمّد ياسين ، رجا حسين أبو ريا، خضر عبد خلايلة ،خديجة شواهنة ، محمّد يوسف طه ورأفت الزهيري) ستة شهداء سقطوا كنوار اللوز في الخريف.. وبسقوطهم سقطت كل الأوهام وتبددت كوابيس الخوف إذ سطروا بدمائهم أنشودة البقاء. .. وعبدوا طريق الحرية .
أنا الأرض...يا أيّها الذاهبون إلى حبّة القمح في مهدها..احرثوا جسدي!أيّها الذاهبون إلى صخرة القدس مرّوا على جسدي //أيّها العابرون على جسدي لن تمرّوا //أنا الأرضُ في جسدٍ لن تمرّوا //أنا الأرض في صحوها لن تمرّوا
*******
شكل يوم الأرض منعطفا حادا في المسيرة السياسية للأقلية الفلسطينية هنا في الداخل..إذ وجدت نفسها مضطرة
للانتقال من خانة الصمت والعزلة والخوف ... والتخندق في خانة المواجهة والتصدي والسطوع الوطني .. وجدت الجماهير نفسها مضطرة لمقاومة الدبابة بالحجارة .. فلم تعد هذه الجماهير أقلية معزولة منسية مهملة... بل صارت برنامجا ومسيرة وتاريخا وحاضرا ومستقبلا .. صارت رقما صعبا في معادلة الصراع القائم وعنصرا هاما في موازين التسوية.. لم تستطع كل المحاولات على انتزاع شرعية الوجود من فلسطينيي الداخل بل إن انتفاضة يوم الأرض جعلتنا نزداد التصاقا بأرضنا... نزداد حبا لها .. ومع انقشاع غيوم التعتيم عن واقعنا والتي بددتها دماء الشهداء ... صار الفلسطيني المنزرع في وطنه أسطورة في الصمود والارتباط بالأرض ... صار الفلسطيني المنزرع في وطنه أملا لشعب بأكمله .
لقد تجلت عظمة قرار الصمود الفلسطيني في إفشال الهجمات المتلاحقة للاستيلاء على الأرض والتخلص من هاجس الخوف الذي سيطر ، لتعلو قضيتنا كجزء لا يتجزأ من القضية الفلسطينية.... فإذا كان شعبنا الفلسطيني في المنفى ألقسري يطالب بالعودة إلى أرضه واستعادة حقه وفوق ترابه الوطني، فإننا هنا داخل الوطن نعمل من أجل ألا يصبح مصيرنا كمصير أخوتنا في اللجوء.. وفي سياق ذلك نناضل لإحباط الإجراءات الرامية إلى جعلنا غرباء في وطننا، نناضل حتى ننال حقوقنا في العيش الكريم على ارض آبائنا وأجدادنا ولن تستطيع كل البرامج والمشاريع والمخططات بدءا (بوثيقة كينغ) الرامية إلى تهويد المناطق العربية وجعل المواطنين العرب أقلية .. وانتهاءا بالمطالبة الرسمية والعلنية الداعية الى الاعتراف بيهودية الدولة .. هذه المطالبة التي تعني بالنسبة لنا مشروعا تصفويا تهجيريا خطيرا لما يحمل من أبعاد تهدد وجود الأقلية العربية هنا !!
كان ليوم الأرض الأثر الأكبر على بلورة الهوية السياسية الوطنية للفلسطينيين هنا.. فبعد أن كان الفلسطيني هنا رهينة في قفص الخوف والعزلة.. تحول إلى نموذج في الانتماء والارتباط بمصير شعب بأكمله .. تحول إلى نموذج في التحدي والتصدي ... لا يهمه أن يضحي في سبيل البقاء حرا أبيا في وطنه مهما عظمت التضحيات ! أصبح يعلنها جلية واضحة مدوية ... (هذا وطننا وإحنا هون)... دخلت إلى قواميسنا عبارات ومصطلحات وشعارات غيّبتها عقدة الخوف والتردد ! ودخلنا معها مرحلة جديدة من تاريخنا مرحلة عنوانها...
" هنا على صدوركم باقون كالجدار ..وفي حلوقكم كشوكة الصبار ...// كأننا عشرون مستحيل في اللد والرملة والجليل "
لا ننكر أن حكومة إسرائيل نجحت في الاستيلاء على جزء كبير من أراضي العرب .. لكنها فشلت في تدجين وتطويع المواطنين العرب.. لا بل ساهمت في تعريف العالم بنا من خلال هجمتها الشرسة وقتلها ستة شهداء لم يرتكبوا ذنبا سوى أنهم خرجوا إلى الشوارع في تظاهرات منددة بمصادرة الأراضي...حيث أن العالم العربي لم يكن يعلم حتى بوجودنا هنا..ساهمت في إثارة النزعة الوطنية لنحطم قيود العزلة ونهدم جدران الصمت محلقين عاليا في فضاء القضية معانقين الجرح الفلسطيني منسجمين مع الهم العربي الشامل.

لقد تجلت الوحدة الوطنية بأروع صورها في الثلاثين من آذار عام 76 وخرجت الجماهير إلى الشوارع دونما تخطيط، لقد قادت الجماهير نفسها إلى الصدام مع المؤسسة الرسمية احتجاجا على مصادرة الأراضي، حيث بلغ وعي الخطر الداهم على الأرض أوجه في يوم الأرض، وقد اقتربت الجماهير العربية في الثلاثين من آذار إلى إطار العصيان المدني الجماعي، فتصرفت جماهيرنا لأول مرة كشعب منظم، استوعبت فيه أبعاد قضيتها الأساسية، ألا وهي قضية الأرض والوجود .. هذه القضية ما زالت مرسومة في وجدان الانسان الفلسطيني هنا ... الجماهير أرادته يوما احتجاجيا أبيضا فحولته السلطة إلى يوم أسود فنزف الدم في القرى والمدن العربية:

"أنا شاهدُ المذبحة وشهيد الخريطة //أنا ولد الكلماتُ البسيطة //رأيتُ الحصى أجنحة..رأيت الندى أسلحة ...عندما أغلقوا باب قلبي عليّاً... وأقاموا الحواجز فيّا وُمنع التجوّل// صار قلبي حارةْ وضلوعي حجارةْ // وأطلّ القرنفل وأطلّ القرنفل"

ليست هناك تعليقات: