السبت، مارس 08، 2008

المرأة بين مطرقة التقاليد و سندان الحداثة

د. صالحة رحوتي

يوم عالمي آخر للمرأة يُهلل له و يُحتفل به كما أيام أُخَر جُعلت لها تواترت على مدار السنين...يوم آخر تتعالى فيه الأصوات بالحديث عن تلك المعنية بالأمر و حولها...ثم و الحال لتلك المرأة كما هو، و لا تبدو عليه آثار البرء، بل هي عوارض المرض ما تزال تتفاقم و حتى تصرخ و تطالب بالاستقراء و بالتمحيص، و ذلك من أجل إيجاد الترياق ضروري لكي يُتمكن من بدء العلاج.

و لا شك أن تفعيل كل الحقوق الواجبة للمرأة المسلمة ـ و توجد في ثنايا شرائع دين لها اعتنقته منذ 15 قرنا ـ كافية لتخليصها من وهدة الرق الآسنة، لكنها تلك الحقوق و للأسف الشديد ما زالت لم تظفر منها هي لحد الآن إلا بالشذرات يتفضل الرجل بإعطائها لها معتقدا أن المزيد من الحقوق قد تطغيها، وقد تفسد من طبيعتها المنقادة، تلك التي استمرأ هو التعامل معها، و كذا الاستفادة من وراءها منذ الجاهلية وإلى حد الآن...
و لعل حال المرأة في البلدان الإسلامية هو ما يجسد ـ و بوضوح ـ ذلك التيه المستحكم فينا و ينخر كياناتنا في هذا الواقع المرير، إذ هو ذاك النموذج بامتياز الذي يدلل على عمق الشرخ بين ما يقرره الدين المعتنق من قبلنا ،و بين ما هو سائد في عمق عقولنا و نعيشه على أرض الواقع الآن...
هو النكوص عن الحق فيما يخص الشقيقة في الأحكام، و هو نبذ الدين الصواب
و اتباع السبل متفرقة شتى ،و هو ذلك الاتهام المتواتر بالنقص و بالعوج جورا ما انغرز عنفه في المرأة فأنتج نقصا و اعوجاجا، و حتى انحطاطا و ترديا ما كانوا فيها في الأصل أبدا...
إنه النص الديني أو بنود الحداثة ما يُبرَّر به انتحاء ذلك المسار المدمر للمرأة أو ذاك،و هو الاتكاء على الفهم المعوج لنصوص قيلت في ظروف معينة ما هو وراء ذلك الظلم الذي طالت آثاره و تداعياته المرأة فأضحت إما هي:

* ـ تلك التي استكانت و تراخت، ثم و استسلمت للتقاليد مخدرة ـ و ما فيها إلا الشذرات من الدين ـ فانمحت شخصيتها، و أضحت الجسد ينساق و لا عقل ولا فكر..

* ـ أو تلك التي عاندت، و من ثم نبذت كل موروث حتى المقدس منه، و انبرت تنقب عند الغير عن كل ما يمكن أن يرفع ربق الحيف الجاثم الكاتم للأنفاس منها...

و هكذا ضاعت في السيلين جارفين لهذين السبيلين، و كذا أصبحت اللعبة يتقاذفها الرجال الذين ما انعتقت من الأغلال يمسكون بطرفها، ثم و يسوسونها بها سواء أكانت تسبح في خضم هذا التيار أو ذاك...
و لعلني أتمكن فيما سيأتي من عرض بعض مظاهر هذا التيه ضمن ما سأورده و من خلال التمثيل بمجالين يتعلقان بها هي المرأة:
ـ مجال اللباس.
ـ و مجال الحق الجسدي.

1 ـ اللباس:
انحرف المسار الذي سير بالمرأة فيه في هذا المجال، إذ هذا المحور بالذات هو أكثر ما سقطت المرأة ضحية للمزايدة فيه بين الرجال عبر الحقب و العصور.
إذ انبرى للتخطيط لها و لتفكير عوضا عنها في هذا الباب الرجل، ذلك الذي فعل بعد أن اقتنع و أقنع بأنه ما فعل إلا لأنها الجاهلة تلك المرأة، و كذا المحتاجة لمن يمسك بالنبراس نيابة عنها مبينا لها العثرات في منعرجات الطريق.
و لجهل فيها مؤكد وجوده،و ذلك لتواتر الجور طالتها كلاليبه و أمسكت بتلابيبها عصورا ممتدة بفعل الحبس في البيوت، و بسبب المنع من ارتياد فضاءات التعليم و التعلم، انقادت و استسلمت في الأغلب الساحق، وحتى استمرأت ما هي عليه من تبعية بفعل تردي أدوات الإدراك، و كذا تلاشي آليات استشعار عوارض الارتكاس و الاندحار.
و هكذا انحسرت أمواج و تلاطمات التدافع الفكري في الواقع الحالي ـ ذلك المترتب عن صيرورة التاريخ ـ عن تيارين متطرفين في هذا الباب أُلقي بالمرأة في أتونهما، و سير بها حسب نوعية القناعات الراسخة لدى ذلك الرجل السائس لها الممسك بزمام الفكر منها:

أ ـ التيار التقاليدي:
في إطار هذا التيار تجووزت النصوص الدينية الصحيحة المحررة للمرأة في هذا المجال، و قُضي على الحرية التي تمتعت بها في العصر الزاهر عصر النبوة، و ذلك حين شاركت بلباسها الإسلامي الشرعي المعقول في كل مجال وفي كل نشاط حتى التجاري و العسكري منها.
فالدين الإسلامي ليس دين عسر و لا تناقض، و إنما هو دين اليسر و المنطق، فهمه الأمي و الأعرابي الموغل في البداوة والجهل على عهد سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أنه الصدق و أنه الرحمة وأنه العدل ومكارم الأخلاق و الرفق في الأمر كله...
هو دين واحد و منهج واحد، ما فيه مصلحة العباد والبلاد.
فليس هنالك إسلام للمشرق و آخر للمغرب، و إسلام لطالبان و إسلام للصوفية،إنه إسلام واحد وليس الاختلاف إلا في فهوم جمدنا عليها للدين، كل جمد على ما استساغه أجداده، ومن ثم لم نعط لعقولنا الحق في أن نرجع للنصوص نستقرئها من أجل التوصل إلى الحقيقة وإلى سعادة الدارين.
ثم هي عصور انحطاط للعقل "المتأسلم" كانت،و جعلت لهذا الدين كهنوتا و أحبارا قدسهم الناس و أقوالهم، و لم يسمحوا لأنفسهم أن يعودوا إلى النصوص الأصلية من أجل استقرائها و إتباع ما فيها...
فَهِمَ أولائك الفقهاء الدين في عصورهم التي مضت، و جمدنا نحن على ما فهموا
و أغلقنا باب الاجتهاد، ثم و لُكنا نتاج ذلك الماضي و اجتررناه ردحا طويلا من الزمن، حتى أعطينا الفرصة لمن هم منا ليتنادوا أن "ها هو الدين لم ينفعنا في شيء... تأخرنا و تقدم الناس من حولنا" فنبذوه، و احتموا بأولائك الناس من الغير يمتحون من فتات سمحوا لهم بالتقاط البعض منها...
إنه الخلل فينا، نحن الذين بحثنا و نبحث في كل شيء، إلا فيما ينصلح به حالنا من إعادة قراءة ثوابت ديننا لكي نخلصها من الشوائب و الدرن.
إذ الاكتفاء بما فعله القدماء من تفكير حول الدين لا يجزي، و علينا نحن أيضا أن نعطي هذا الميدان ما يكفي من الوقت من أجل استيعاب ثنياته و مساحاته، و لا نكتفي بتكرار الموروث و باجترار الحيرة و استمراء الضياع...
فبحجة "سد الذرائع" ابتدع الفقهاء" الذكوريون" حججا شتى من أجل سجن المرأة و مصادرة حقها في التواجد الحر في كل الفضاءات النظيفة المتاحة للرجل، و كذا في المشاركة الفعالة البناءة في كل الميادين المؤدية إلى تنمية المجتمع، هذا الحق الذي كان لها أن تمارسه دونما رقابة سوى تلك الكامنة في القلب منها منبعها استحضار وجود الله.
و هكذا كانت المبالغة في عزلها وإخفاءها، و نصب الرجل نصب نفسه حارسا لعفتها، مبررا فعله بجهلها لما يمكن أن يقف بينها وبين الانحراف من العلم الشرعي، وذلك بعد أن عمل هو بنفسه على تجهيلها بدينها و بدنياها عن طريق حبسها في البيوت مخافة أن تنالها جسدها الأعين الجائعة لغيره من بني جنسه من الرجال، كما دأب أن يفعل هو بأجساد نساء الغير إن أتيحت له فرصة المشاهدة والإطلاع...
و كان ما نراه في بعض الدول ـ لحد الآن ـ من إلزام للمرأة بمعايير معينة للباس الذي يستر منها كل شيء حتى الوجه المحدد لهوية الإنسان.
و بالرغم من أن اللباس الإسلامي يتحدد في ما أجمع عليه العلماء من ستر كل الجسد ما عدا الوجه والكفين مع مراعاة عدم الضيق والشفافية في الثوب، ألزمت المرأة باللون الأسود مع إسدال الثوب حتى على الوجه، و من ثم رفعت الكلفة والمشقة عن الرجل، ذلك الذي طالبه الشرع بغض البصر...
و لعله من المنطقي أن يطرح سؤال حول هذا المضمار و في هذا الخضم بالذات:
إذا كانت المرأة محبوسة في البيت، و لا تخرج إلا نادرا بحجة "الاختلاط" في أماكن العمل والتعلم، وحين تخرج تبدو وكأنها الخيمة سوداء، فلماذا الخطاب بغض البصر؟
أعن ظاهر الثوب الأسود الفضفاض؟
إذ هو بصراحة لا أثر للجمالية فيه ـ و تغري بارتكاب الفاحشة ـ تدفع الله الحكيم العليم أن يأمر بغض البصر خوفا من تأثيرها!!!
فالأدلة الشرعية متوفرة في القرآن و السنة بخصوص هذا الأمر الشرعي للرجل:

* ـ من القرآن الكريم:

ـ "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ" (1)

ففي هذه الآية الكريمة يبدو أمر الله واضحا و صريحا للمؤمنين بغض البصر، و ما ذلك إلا عن شيء ما يشاهد و ينظر إليه و هو غير المستور و لا المغطى.


* ـ من الحديث الشريف:

+ ـ " حدثنا ‏ ‏معاذ بن فضالة ‏ ‏حدثنا ‏ ‏أبو عمر حفص بن ميسرة ‏ ‏عن ‏ ‏زيد بن أسلم ‏ ‏عن ‏ ‏عطاء بن يسار ‏ ‏عن ‏ ‏أبي سعيد الخدري ‏ ‏رضي الله عنه ‏ عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال: ‏ ‏إياكم والجلوس على الطرقات، فقالوا: ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها، ‏ ‏قالوا: ‏ ‏وما حق الطريق؟ قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر".(2)

فهل يعقل أن يأمر خير البرية بغض البصر حين الجلوس في الطرقات عن أشكال سوداء متحركة لا تكاد تبين شيئا مما تخفيه؟؟؟

+ ـ " حدثني ‏ ‏قتيبة بن سعيد ‏ ‏حدثنا ‏ ‏يزيد بن زريع ‏و حدثنا ‏ ‏أبو بكر بن أبي شيبة ‏ ‏حدثنا ‏ ‏إسماعيل ابن علية ‏ ‏كلاهما ‏ ‏عن ‏ ‏يونس ‏ ‏و حدثني ‏ ‏زهير بن حرب ‏ ‏حدثنا ‏ ‏هشيم ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏يونس ‏ ‏عن ‏ ‏عمرو بن سعيد ‏ ‏عن ‏ ‏أبي زرعة ‏ ‏عن ‏ ‏جرير بن عبد الله ‏ ‏قال:سألت رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏عن نظر الفجاءة ‏ ‏فأمرني أن أصرف بصري،‏ و حدثنا ‏ ‏إسحق بن إبراهيم ‏ ‏أخبرنا ‏عبد الأعلى ‏وقال ‏ ‏إسحق: أخبرنا ‏ ‏وكيع ‏ ‏حدثنا ‏ ‏سفيان ‏ ‏كلاهما ‏ ‏عن ‏ ‏يونس ‏ ‏بهذا الإسناد ‏ ‏مثله ".(3)

ثم هل نظر الفجاءة للمرأة الملفوفة بالسواد الساتر من الرأس إلى أخمص القدمين مما يقتضي صرف البصر كما أمر سيد الخلق؟ إذ لا داعي و الحالة هذه لصرف البصر أصلا ما دام الثوب يستر كل شيء!!
+ ـ" حدثنا ‏ ‏إسماعيل بن موسى الفزاري ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏شريك ‏ ‏عن ‏ ‏أبي ربيعة الإيادي ‏ ‏عن ‏ ‏ابن بريدة ‏ ‏عن ‏ ‏أبيه ‏ ‏قال:قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏لعلي ‏ ‏يا ‏ ‏ علي ‏ ‏لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة ".(4)
و كذلك أو يمكن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر عليا رضي الله عنه بغض البصر قد أمر بعدم تكرار النظر إلى ظاهر ثوب أسود فضفاض؟؟

و يبقى بلا شك أن ارتداء اللباس بالشكل المشار إليه أعلاه ـ ثوب أسود يلف كل الجسد حتى الوجه و الكفين ـ مسألة تتعلق بالحرية الشخصية لكل امرأة، فمن رأت نفسها راغبة في ذلك فلها أن تفعل، على أن لا تعتقد أن من لا تلبس على شاكلتها و تكشف وجهها آثمة...فتلك خصوصية لأمهات المؤمنين والله خاطبهن في كتابه العزيز بقوله:

"... يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا "(5).

فالنقد متعلق هنا بالإكراه من الرجل للمرأة على لبس ذلك النوع من اللباس، ثم حصر الزي الإسلامي عليه و كذا نبد ما سواه،بل و بالقول بأن ما عداه من ألسبة للنساء و تظهر الوجه والكفين هي من قبيل التبرج ليس إلا...
و المشكلة تكمن في إجبار من لا ترغب في ذلك على الإتباع القسري، فيكثر من ثَمَّ التحايل و الخداع.
ولعل من زار تلكم البلدان التي يسود فيها ذلك النمط من اللباس قد رآى بوضوح بعضا من مظاهر ذلك التحايل...الأعين كحيلة مبرزة من فتحات في اللثام المسدل على الوجه و مزينة حتى النخاع،و روائح البخور والعطور المنتثر أريجها، ،ثم والعباءات سوداء لكن هي الضيقة المبرزة لتضاريس الجسد و المنممة المطرزة الموشاة...
إنه الإبداء لرغبات دفينة في التحدي من طرف المرغمات و غير المقتنعات، و حتى دليل على قلة علم بالمطلوب في مجال اللباس شرعا...
ثم هو تجل لإجبار من طرف الرجال لهن على أمر لو ترك لأكثرهن الخيار فيه لما اخترنه، و لما حبذن رؤية العالم من وراء السواد...
فالرجل قرر بخصوص هذا الأمر أن يعفي نفسه من تكليف شرعي أمر به :غض البصر، فستر جسد المرأة كله بالسواد، و كذا جلل وجهها بطبقات من الثوب حتى لا تكاد تنظر للعالم بوضوح، وأطلق هو بصره ينظر كيف يشاء...
ثم و لعل زوار البقاع المقدسة من أجل الحج و العمرة قد شدهم حتما منظر السيدات الخليجيات وهن المنقبات و يمشي وراءهن طابور من الخادمات الآسيويات بوجوههن السافرة في الأغلب الساحق.
و هنا يطرح سؤال نفسه بإلحاح حول عدم تسويتهن مع مشغلاتهن في تغطية الوجه، و هم أهل البلاد يؤمنون بضرورة التنقب،و حتى بكون المرأة كلها "عورة" حتى صوتها!!!
يرون في وجه المرأة فتنة!!! ثم و لا يؤمرون خادماتهم بتغطية وجوههن، وقد تكون الخادمة أحسن وجها و أكثر جمالا من سيدتها في بعض الأحيان، و يتأكد من ذلك مرات حين نزع النساء أغطية وجوههن في مصليات النساء.
فلماذا هو كائن هذا التمييز؟؟
أ لأنهم يرونهن كملك اليمين، و يُعاملوهن بناء على ذلك كما الجواري و الإماء زمن الرقيق؟؟؟
أم أن الفتنة لا يمكن أن تأتي من قبلهن لأنهن أدنى من نساءهم؟
ثم كيف يأمر الشيوخ هنالك أحيانا كثيرة القادمات من بلدان أخرى هنالك في الحرمين الشريفين بتغطية وجوههن، ثم و هم يتملون بوجوه الخادمات الكثيرات الموجودات في بيوتهم؟؟؟
من اليقين أنه لا يمكن القول بأن أولائك الخادمات الآسيويات لسن بمسلمات ـ مسيحيات أو بوذيات ـ لأن المدينتين المقدستين ـ مكة و المدينة ـ لا يدخلهما غير المسلمين حتى اليد العاملة المستجلبة للعمل فيهما
فالمسألة إذا ليست متعلقة بتطبيق أوامر الدين، بل بالانقياد لعادات وتقاليد ألبست لباس الدين انطلاقا من عقلية ذكورية متحجرة و ترى في جسد المرأة ملكية خاصة للرجل يتصرف بشأنها كما تريد الأهواء لديه و تشاء...

ب ـ التيار الحداثي:
هو التيار المتطرف في الاتجاه المعاكس، ذلك التيار الذي جرف أيضا الكثير الكثير من النساء، نساء اعتقدن ـ لثقافة مزيفة مرقت أمامهن ـ أنهن بانتهاج سبيله سيحضين بالانعتاق من قيد ألزمن به عصورا و كان يربطهن قسرا بذلك الخصم الغريم الرجل.
و هو ذاك التوجه الذي حدا بهن نحو انتحاء العري و التعري، و كذا الاكتفاء منه ذلك اللباس بالنزر اليسير الذي لا يستر عورة و لا يحافظ على عفة مجتمع و لا على صيرورة أخلاق...
سارت المرأة في هذه المحجة دون وعي بسبب تطبيع هذا المنحى المهين، إذ تبلد منها الحس، و حتى فقدت القدرة على استشعار خطورة ما يراد منها من طرف الرجل من انبطاح، و كذا من استسلام لمسيرة التشييء التي تشل منها الفكر و الروح، و لا تنمي منها إلا ذاك الجسد الذي عمل على تعريته لديها،و من ثم تسويقه بشتى الطرق بغية اكتساب أرباح مادية حسية جنسية، أو حتى نقدية عن طريق بيعها في أسواق نخاسة العصر الراهن.
ثم و هي قد أُقنعت بحرية التصرف في الجسد منها كما تشاء، قنعت بالفرحة فاحتفت جذلى بارتداء ما يصممه لها في الأغلب الأعم رجال مصممو أزياء، أولائك الساقطون المنحلون الماجنون، الذين استسلمت لنزواتهم و لرغباتهم في أن يروها كل يوم أكثر عريا و أسهل انقيادا لشطحاتهم التصميمية، تلك التي ما تؤطرها إلا تلك الرغبة منهم في كشف المزيد من المساحات و التضاريس من الجسد النسائي، و إلا ذلك النهم المتفاقم لديهم في الاستهلاك البصري الممهد للاستهلاك الفعلي الحقيقي على أرض الواقع...
و انتشى الرجل طبعا ـ ذاك الذي ظنت أنها تحدته ـ بفعل تراكم الكم الوافر من اللحم الأنثوي العاري يَستعرض نفسه أمامه ثم و يدعوه إلى التخير منه، فتدلل، و حتى أملى شروطه في الكثير من الأحيان، و ذلك لأن كثرة العرض مكنته من التخمة و في الشوارع حتى، و دونما أية تبعات مادية من قبيل توفير بيت زوجية مثلا...
ثم وهي المرأة تتعرى و تقبل بتقزيم مساحة الثوب الذي يستعمل من أجل كسوتها يوما بعد يوم، لم تحاول حتى و لو للحظة أن تتسائل عن هدف ذلك العري يُسر لها...
تتبجح بالقول بأنها تمارس الحرية و تستمتع بمباهج الحياة، لكنها في الحقيقة ما تُمتع إلا الرجل يجد في المتناول السهل صورا حية متصاعدة الشحنة من الإغراء الكامنة فيها في كل لحظة و كل حين، و في كل فضاء، و كذا عند كل منعطف حتى في أروقة الجامعات و قاعات دور العلم...
تفعل هذا وهي المتحضرة المتحررة المؤمنة بالمساواة، ثم و هي لا تطالب ذلك الرجل بالمثل! أن يمتعها بالتملي بجسده العاري، أو على الأقل بمساحة تساوي تلك التي سمحت له بمعاينتها من جسدها المنمق المكشوف...
ففي إطار "تكافؤ" الفرص بين الجنسين، و بالنظر إلى مبادئ الحداثة المساوية بينهما تلح أسئلة و تنطرح بعنف،أسئلة من قبيل:

* ـ أو ليس لامرأة حق التمتع الحسي الجسدي بالنظر لمفاتن الرجل ؟؟؟
أم أنه ليس لها نفس السلوك الجنسي و المتطلبات الجنسية كما هو، و لا يستثيرها الجسد الرجالي العاري...ثم و هي الزاهدة فيه؟؟؟
و إن كان الأمر كما الطرح الأخير...فأين القول بالمساواة المجعجع حولها إذا؟؟؟

* ـ ثم لماذا لم يتعرض الرجل لتقزيم مساحات لبسه كما المرأة من طرف مصممات الأزياء من النساء اللواتي امتهن صناعة الموضة في مجال اللباس؟
إذ مجمل ما فعلن أن عملن حتى هن على المساهمة في تعرية بنات جنسهن،وذلك خدمة للرجال اللواتي ما سلمن من تأثيرهم عليهن حتى و هن أولائك "المتحررات".

فهي شوارع و أماكن سهرات و حتى فضاءات عمل،ثم و الرجل محتشم و لا يظهر إلا "الرأس و الكفين"! و المرأة عارية أو تكاد،و مزق الثوب لا تكاد تستر منها إلا القليل... القليل...

كل هذا أصبح الشائع و المقبول و حتى المتعارف عليه،لدرجة أن غير المدرك للبواطن علمية اللأمور قد يخيل إليه أن المرأة أكثر استشعارا للحر فيزيولوجيا من الرجل ،و أكثر معاناة من قسوة الظروف المناخية منه، و لذا فهي تستعين بكشف الجسد من أجل التخفيف منها تلك المعاناة...

هذا مع العلم أن الجسد الرجالي المذكر يتطلب كمية أوكسجين أكبر من تلك يحتاجها جسد الأنثى من أجل إتمام عملية الاحتراق الداخلي (6) Métabolisme de base، ثم و درجة حرارة جسد المرأة تكون أقل من 37 درجة مئوية في الفترة الأولى من الدورة الشهرية أي ما قبل الإباضة بعكس الرجل الذي يحتفظ بدرجة حرارة موحدة طوال الوقت.
فمن المرشح من الجنسين أن يشعر بالحر و أن يعمد إلى التعري و التخفف من اللباس؟؟؟
إذ في فصل الصيف ـ حتى دون ممارسات رياضية ـ تُرى المرأة و هي الحاسرة عن معظم الجسد عكس الرجال، و كأنها تتعرض لدرجة حرارة مناخية أكبر من تلك التي يتعرض لها الرجل الذي يعايشها في نفس الفضاء...
و هكذا يبدو و كأن استغناءها عن ستر الجسد ـ كما الرجال على الأقل ـ نابع من إرادة معينة، و هدفها تيسير متعة المشاهدة بالمجان لأجساد أَُنفقت من أجل تنسيقها و تجميلها أموالا،و كلفت صاحباتها في بعض الأحيان الكثير من المشاق في ميادين العمل!!!
مساواة غريبة...و تجد من يصفق لها حتى من النساء دون نكير...

ثم و قد انثالت تلكم الصيحات من قبل الحداثة متعاقبة تدعو إلى تحرير الجسد من عقال اللباس الساتر مُقيد، ومن قيود الدين مُكبِّلة، و ذلك ليُحسن التعبير ذلك الجسد عن نفسه،انبثقت من بين النتائج انفلاتات وانحرافات جعلت من بلدان معينة ـ و الإسلام دين غالب أهلها ـ قبلة للسياحة الجنسية بجميع الأشكال والأنواع والأصناف...و هنا أسئلة تلح:*ـ أ لهذا الحد إذا انساقت المرأة وراء ما يريده منها الرجل في مجال اللباس في خضم هذا التيار دونما الإحساس بالدونية و بالتهميش طالاها بعد أن استحسن لها هو العهر دون نفسه، ثم و انبرى يراقب أسواق النخاسة ينادَى عليها فيها؟؟*ـ أ حُررت الأجساد من أغلال اللباس، ليرمى بها أمام طلاب المتعة محليين و آتين من وراء البحار ليجعلوها مراحيض لنزوات بغيضة مقيتة ضاقت بها حتى حرياتهم المكفولة لهم هناك...*ـ أ أصبحت الأجساد العارية سلعا بخسة إلى الحد الذي لا يخشى عليها من تلكم الأمراض و فتاكة حد النخاع، المهم أن تعمل على جلب العملة الصعبة و استجلاب أفواج السياح؟؟
ثم هي أيضا تلك اللوحات إشهارية ضخمة، و تنشر كذلك عري المرأة طعما و تصطاد به الزبائن مفترضين سيستهلكون ما تقوم تلك اللوحات بالدعاية له،أجساد استرِقَّت من طرف أصحاب السلعة، و كذا اندفع ثمن الاستمتاع بعريها، والنسوانيات الحداثيات منشغلات بتحرير المرأة من ربق الزوجية و من "أغلال" الأبناء...

كل هذا الفرق أضحى الواضح البين بين المرأة و الرجل في ميدان اللباس، و النسوانيات لا زلن غير العابئات، و هن اللواتي "يناضلن" من أجل تفعيل مبدأ المساواة بين الجنسين!!
عري منهن متفاقم مهين مشين هن النساء الحداثيات، ثم و اهتماماتهن هن "المثقفات" لا تعدو ـ إلا بقليل ـ دائرة تنميق الجسد و تزيينه و تعطيره للمستهلكين عن قرب و عن بعد...ثم و الحديث عنه و عن نزواته و صرعاته و معاركه....
مجلات و جرائد موجهة للنساء، تستهلكها النساء ،و تصدرها في الأغلب الساحق أولائك "المثقفات" من النساء...موضات ماكياج...قصات شعر...و ألبسة تبرز كل المفاتن و تعين على إعادة زمن الجواري و الغانيات....
ثم قنوات تلفزية حداثية أيضا، و فيها من النسوانيات الكثير الكثير...و إشهارات للسلع ـ مكعبات بهارات مثلا ـ و يبدو فيها الرجل يقرأ جريدة، و الابن الذكر يلعب بلعب إلكترونية...ثم و الزوجة تطبخ ما لذ و طاب و هي مصبوغة الوجه شبه عارية الجسد!!
أ هذه هي الحداثة و التحرر؟؟؟
تغيير في الشكل فقط و لا تغيير في الوظائف!!!
إذ أو لم يُفكر حتى في تخليص المرأة من تلك الصورة النمطية التي تحصرها في "أنشطة جسدية معينة" حتى في زمن النسوانيات؟؟
ثم لماذا لا تثور هؤلاء المتحررات على مثل هذه الإشهارات المكرسة لاستعباد النساء للرجال؟؟؟
أو اكتفين بما سمحن لهن به من حرية كشف الأجساد، و من خروج إلى سوق الشغل و هو الأمر ـ في الحقيقة ـ الذي لا يخدم إلا مصالح الرجال؟؟؟
تعين على النفقة...إذ تجلب المال!!!ثم و تقوم بالتبضع...ثم و تطبخ و تقدم الطعام مبتسمة عارية متزينة،أ ليس هذا هو " السيد" المبجل المطاع بحق، ذاك المتمتع بما لم يتمتع به أجداده من الرجال؟؟؟
تطرف مقيت بغيض هو الآخر إذا هذا المنحى في مجال ما يلبس من طرف المرأة ، ذاك الذي استغلت فيه أيضا كيفما أراد الرجل و شاء...
2 ـ الحق الجسدي:
لا شك أن الدين منبثق عن الله العزيز الحكيم لا يمكن أن يكون إلا منطقيا، و بالتالي لا يمكنه أن يعمل على حرمان المرأة من الاستمتاع بأعضاء خلقت فيها و لها...
لكن ذلك الجسد المحتوي على تلك الأعضاء لا يمكن الانتصار له و لرغباته دائما
و دونما ممنوع، إذ في ذلك إساءة بالغة له انطلاقا من أنه يجب أن يكون تابعا للعقل الواعي بالتبعات، لا متبوعا في كل ما يشتهي ويريد!فالعقل هو المعين على حسن استخدام تلك الأعضاء و الأحاسيس و المشاعر مستعينا بما ورد في الشريعة من مبادئ منظمة له داخل مؤسسة الزواج.
يأخذ كل شريك من الآخر حقه من الاستمتاع به ما دام ذلك الآخر مشبعا له، فإن كان هنالك تقصير من طرف ما، و يؤدي إلى حرمان الطرف الآخر، فلا يمكن للدين الحق أن يرغم المحروم مهما كان جنسه على المعاناة،فهو الفصل اختياري و دون نكير.
لكنه الرجل مدججا بالتقاليد مرة و بالحداثة مرة أخرى من جعل المسار ينحرف، و الحق الجسدي للمرأة يُتلاعب به، ثم و تُغمط لها في هذا الباب أيضا جل الحقوق.
ففي هذا المجال أيضا عصف التطرف بحقوق المرأة كما جاء بها دين الحق، فانشطر مجموع الرجال في التعامل مع هذا الأمر إلى فريقين:

أ ـ التيار التقاليدي:
ذاك الذي حكَّم التقاليد و الأحكام الذكورية، وجعلها هي التي تغلف الدين و تُبهت كنهه ثم و تُحتسب عليه،إذ أضحى ذلك الدين يُصور على أنه الأغلال و الكبت، و كذا كبح جماح الاستمتاع بالجسد حد الإحساس بفقدان التوازن و بالضياع.
فبهذا التصور قُمعت المرأة و حُرمت مما وفره الشرع لها،و أصبحت تلك المستباحة الكرامة منساقة إلى ما يراد لها ،فما كان لها إلا أن تكون تلك :

ـ المستكينة و تعاني الإقصاء و مرارة الضغوط النفسية
ـ أو تلك المتمردة و ترتمي في غور الرذيلة الآسن المأفون...

إذ تُعُوِّد على النظر إلى المرأة على أنها التابعة المستعملة في هذا الباب إن كانت الصالحة المستقيمة، فإن هي طالبت أو أظهرت الرغبة ـ في إطار الشرعية طبعا ـ فهي الطالحة المنحرفة الفاسقة التي تستحق التأديب و لم لا حتى العقاب!!!
غَيَّر الرجل تلك العلاقة الفطرية الطبيعية بينه و المرأة انطلاقا من موروث تقاليدي جاهلي، صحح الدين آثاره ذلك الموروث في عصر النبوة وقضى عليه، لكنه ما لبث أن برز بقوة وبعنف مباشرة بعد انقضاء ذلك العصر الزاهر،ثم كُرِّس من طرف الرجل و حوفِظ عليه و عُضَّ عليه بالنواجد، و ما زال الموجود و حتى السائد عندنا لحد الآن.

و للتدليل على جور هذا التصور للحق الجسدي للمرأة لا بد من إيراد هذا النص الديني مهم في هذا الباب:

‏* ـ "أخبرنا ‏ ‏سعيد بن عامر ‏ ‏عن ‏ ‏هشام ‏ ‏عن ‏ ‏جلد ‏ ‏عن ‏ ‏معاوية بن قرة أن امرأة ‏ ‏لعائذ بن عمرو ‏ ‏نفست، فجاءت بعدما مضت عشرون ليلة فدخلت في لحافه، فقال من هذه؟ قالت أنا فلانة إني قد تطهرت.‏ ‏فركضها ‏ ‏برجله، فقال ‏ ‏لا تغرني عن ديني حتى تمضي أربعون ليلة"(7).

فهذا النص يبرز انحسار الفهم الصواب للتدين، و يظهر كيف أن الرجل رآى في المرأة كائنا جنسيا يريد غوايته ويدفعه إلى التفريط في دينه فقومه بالعنف: "فركضها"، وفي رواية سنن الدارقطني" فضربها "، و فعل برجله نكاية في التحقير والإهانة...

هذا وتجب هنا الإشارة إلى أن هنالك نصوص صحيحة تتحدث عن إمكانية معاشرة الزوج لزوجته جنسيا متى انقطع دم النفاس دون احتساب المدة، و لعل المرأة المذكورة في النص كانت على علم بها، و ذلك من قبيل:

"حدثنا ‏ ‏نصر بن علي الجهضمي ‏ ‏حدثنا ‏ ‏شجاع بن الوليد أبو بدر ‏ ‏عن ‏ ‏علي بن عبد الأعلى ‏ ‏عن ‏ ‏أبي سهل ‏ ‏عن ‏ ‏مسة الأزدية ‏ ‏عن ‏ ‏أم سلمة ‏ ‏قالت: ‏ كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أربعين يوما فكنا ‏ ‏نطلي وجوهنا ‏ ‏بالورس ‏ ‏من ‏ ‏الكلف. ‏ ‏وقد أجمع أهل العلم من ‏ ‏أصحاب النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏والتابعين ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ‏ ‏ترى الطهر قبل ذلك فإنها تغتسل وتصلي فإذا رأت الدم بعد الأربعين فإن أكثر أهل العلم قالوا لا تدع الصلاة بعد الأربعين وهو قول أكثر الفقهاء ‏ ‏وبه يقول ‏ ‏سفيان الثوري ‏ ‏وابن المبارك ‏ ‏والشافعي ‏ ‏وأحمد ‏ ‏وإسحق ‏ ‏ويروى ‏ ‏عن ‏ ‏الحسن البصري ‏ ‏أنه قال إنها تدع الصلاة خمسين يوما إذا لم تر الطهر ‏ ‏ويروى ‏ ‏عن ‏ ‏عطاء بن أبي رباح ‏ ‏والشعبي ‏ ‏ستين يوما"(8).

و هكذا و من القراءة المتأنية لذلك النص ـ الذي يظهر حدة تصرف الرجل مع زوجته حين بدر له أنها قد تكون تلك المطالبة بالقرب الجسدي ـ يمكن الاستخلاص أيضا أن أمورا أخرى تغيرت عما كانت عليه زمن النبوة، فحين كان نبي الرحمة ينتقل هو إلى حجرات زوجاته حين اليوم المخصص لكل واحدة منهن حفظا لكرامتهن و تشريفا لهن، فإن الرجل المعني بالأمر هنا يبقى مقيما في فراشه، و هن النساء من ينتقلن إليه !!!
و لعل هذا ما سبب الالتباس في التعرف على هوية تلك المرأة، زيادة على عامل كثر الزوجات والجواري ـ أو لربما لضعف أو لانعدام الإنارة في الليل.
ثم و أنا لا أريد الإساءة إلى النصوص الدينية، ولا إلى التابعين الذي ينتمي من فعل هذا إلى فئتهم، أروم فقط أن أنتقد هذا الفكر وهذا التصرف البشري، ذلك الذي من المؤكد أن مرتكبه فعله وهو راغب في استكمال مقومات دينه، طالب لرضا الله عز وجل، و حتى مفعل لخشيته منه سبحانه.
ثم و لا يبدو في هذا النص الانتقاص من قدر المرأة واضحا، و كذلك غمطها حقها في المطالبة بحقها الطبيعي في إطار الشرع في هذا النص بينا، إلا بمقارنة ما ورد فيه من مفاهيم بما جاء في الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم بخصوص تعامله مع المرأة ككل، و بخاصة في هذا المجال المعين، ذلك الجنسي...
فحتى حين تكون حائضا تروي السيدة عائشة رضي الله عنها كيف كان يعاملها صلى الله عليه بخصوص هذا الأمر لكي تقر عينها،ثم لكي يزيل من الأفهام ما كان قد رسخ في عقول الناس آنذاك من أفكار حول نجاسة الحائض، و كذا حول وجوب عدم مجالستها وعدم مؤاكلتها تأثرا باليهود الذين كانوا يعايشونهم في المدينة المنورة:

حدثنا ‏ ‏قبيصة ‏ ‏قال حدثنا ‏ ‏سفيان ‏ ‏عن ‏ ‏منصور ‏ ‏عن ‏ ‏إبراهيم ‏ ‏عن ‏ ‏الأسود ‏ ‏عن ‏ ‏ عائشة ‏ ‏قالت: ‏ كنت أغتسل أنا والنبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏من إناء واحد كلانا جنب، وكان يأمرني ‏ ‏فأتزر ‏ ‏فيباشرني وأنا حائض، وكان يخرج رأسه إلي وهو معتكف فأغسله وأنا حائض"(9).

ثم و ها هو نص آخر ينبني عليه حكم فقهي، و يتحكم في صيرورة الحصول على الحق الجسدي من طرف المرأة في ظروف معينة:

‏"حدثني ‏ ‏يحيى ‏ ‏عن ‏ ‏مالك ‏ ‏عن ‏ ‏ابن شهاب ‏ ‏عن ‏ ‏سعيد بن المسيب ‏ ‏أنه كان يقول ‏ :من تزوج امرأة فلم يستطع أن ‏ ‏يمسها ‏ ‏فإنه يضرب له أجل سنة فإن مسها و إلا فرق بينهما"(10).

نص يحتوي على رأي أحد التابعين وفهمه للدين بخصوص هذا المحور، و يبقى هذا التابعي على صلاحه و جلال قدره يحتمل رأيه الصواب و الخطأ حتى في عصره!
أما الآن وقد اغتنى واقعنا بالعلم وبالدراسات الاجتماعية الميدانية، فيجب علينا أن نعرض هذا الرأي منه على ما توصلت الإنسانية إليه من معلومات نوظفها من أجل إيجاد رأي فقهي أكثر ملاءمة لجوهر الدين و لمقاصد الشريعة.
فهذا الرأي الفقهي القائل بتأجيل النظر في حال زوجة العاجز جنسيا مدة سنة ـ حتى ولو طلبت الطلاق ـ هو المطبق حاليا في كثير من البلدان الإسلامية، و كأن الإسلام جاء من أجل عقاب المرأة بحبسها سنة مع:

* ـ من قد يثبت الطب الحديث قطعيا الآن أن له عجزا جنسيا أبديا،
* ـ و من لم تعد لها الرغبة في معايشته لحاجة جسدية طبيعية غريزية كامنة فيها.

و هذا هو ما قد يدفعها إلى الانحراف سرا أو حتى جهرا، و إلى السقوط في مهاوي الرذيلة و الفساد الأخلاقي!!!
ثم و هو رأي بشري ذاك المعتد به المعتمد عليه، و لا دليل من نص قرآني أو حديثي نبوي يؤيده،و لا يمكن أن يعمم على كل النساء،كان اجتهادا من سعيد ابن المسيب في ذلك العصر الذي كان من غير الممكن فيه التأكد من الأبعاد المُؤسِّسة للعجز الجنسي لدى الرجل عن طريق الفحوصات و التحاليل الطبية.
و يبقى على كل حال أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم و الذي لا ينطق عن الهوى يقول بعكس ذلك الرأي:

‏"حدثنا ‏ ‏أزهر بن جميل ‏ ‏حدثنا ‏ ‏عبد الوهاب الثقفي ‏ ‏حدثنا ‏ ‏خالد ‏ ‏عن ‏ ‏عكرمة ‏ ‏عن ‏ ‏ابن عباس ‏ ‏أن ‏ ‏امرأة ‏ ‏ثابت بن قيس ‏ ‏أتت النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فقالت يا رسول الله ‏ ‏ثابت بن قيس ‏ ‏ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أتردين عليه حديقته قالت نعم قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ‏"(11).

فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهم ـ ثابت ابن قيس ـ أن يقبل من زوجته ما سبق و قدمه لها كمهر و يطلقها دون أن تُعيِّن عيبا فيه!!!فقط لأنها لم تعد ترتاح إليه، و تخاف أن تؤذيه فلا تكون الزوجة المشبعة له عاطفيا و جسديا، و هو ما كنَّت عنه بالكفر في الإسلام.
ثم إن الدين ـ البعيد كل البعد عن الموروث والسائد ـ سمح للمرأة بما يكفل لها نيل الحق الجسدي في إطار الزواج الشرعي حتى مباشرة بعد ولادتها إن كانت الأرملة، و لو بُعَيْد وفاة الزوج:

"حدثنا ‏ ‏سليمان بن داود المهري ‏ ‏أخبرنا ‏ ‏ابن وهب ‏ ‏أخبرني ‏ ‏يونس ‏ ‏عن ‏ ‏ابن شهاب ‏ ‏حدثني ‏ ‏عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ‏ ‏أن ‏ ‏أباه ‏ ‏كتب إلى ‏ ‏عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري ‏ يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية ‏ ‏فيسألها عن حديثها وعما قال لها رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏حين استفتته، فكتب ‏ ‏عمر بن عبد الله ‏ ‏إلى ‏ ‏عبد الله بن عتبة ‏ ‏يخبره أن سبيعة ‏ ‏أخبرته أنها كانت تحت ‏ ‏سعد بن خولة،وهو من ‏ ‏بني عامر بن لؤي، ‏وهو ممن شهد ‏ ‏بدرا ‏ ‏فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم ‏ ‏تنشب ‏ ‏أن وضعت حملها بعد وفاته.
فلما ‏ ‏تعلت ‏ ‏من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها ‏ ‏أبو السنابل بن بعكك ‏رجل من ‏ ‏بني عبد الدار، ‏ ‏فقال لها: ما لي أراك متجملة لعلك ترتجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر.قالت سبيعة ‏: ‏فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني ‏ ‏قد ‏ ‏حللت ‏حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي "(12).‏
و في تفسير لهذا الحديث قيل أن الولادة تمت بعد 15 يوما،والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعب على هذه المرأة أن تجملت للخطاب و عبرت عن رغبتها في الاقتران بزوج آخر، ثم و لم يطالبها باستدامة الحزن "وفاء" للزوج السابق، بل علُّمنا أن العدة الواجبة على الأرملة إنما هي للتأكد من خلو الرحم من حمل خوفا من اختلاط الأنساب، و الولادة من طرف هذه السيدة كانت كافية للتدليل على خلو الرحم منها، فكان حق الزواج من جديد مضمونا لها و مصرحا به من طرف رسول الله صلى الله عليه و سلم.
و من هنا وجب شجب عدوان المجتمع العربي التقاليدي، ذلك الذي يغمط المرأة حق إعادة بناء عش زوجي جديد حين انهيار الأول أو حتى الثاني لم لا حتى الثالث كما الرجل ،سواء بموت الزوج أو بالانفصال عنه،و ذلك عن طريق إرغامها على التضحية من أجل الأبناء.الأمر الذي لا يطالب به الرجل، و كأن المرأة ليست لها حاجات جسدية تحتاج إلى إشباعها حتى تحصل على التوازن النفسي، ذلك الذي إن لم يكن الضروري من أجل نفسها، فحتى لحسن رعاية أولئك الأبناء...

ب ـ التيار الحداثي:
هو ذلك التيار الذي حرفت فيه أيضا معايير الحق الجسدي المستحق شرعا من طرف المرأة، و هو ذلك السبيل الذي تُدعى المرأة السائرة فيه المختارة له إلى تجاهل كل نداء إلا ذاك الصادر من الكيان العضوي منها....ذاك الجسد.
إذ أوحي إليها من طرف القائمين على رأس هذه المحجة أن الجسد ملك لها خالص، و لها أن تستعمله كيفما تشاء و وقت ما تريد...
فهي الحرة المنطلقة...و لها أن تَعُبَّ من المباهج الجنسية ما يشبعها و ذلك دون أي اعتبار آخر، إذ الجسد هو الكيان المعتد به و هو رسم الذات و عنوان الهوية!
ثم إنه ذلك الانعتاق من قيد الزوجية ما هو الفعل الأكثر بطولية في هذا المنحى الفكري، إذ يصور على أنه الاستغناء بالذات الأنثوية "القديرة" "الرشيدة "من تلكم التبعية المساوية للرق في إطار الرابط المُكرَّس من قبل الغيبيات و الخرافة ليس إلا، و ذلك بهدف توفير الخدمات للسيد الرجل،ذاك الذي يمنع عنها ب"قوامته" عليها ما يُجوِّز لنفسه من تعدد الزوجات و من تعدد الخليلات...
و مما لا شك فيه أن من وراء هذا التيار هو الرجل أيضا،و مدفوع بالرغبة جارفة في تأثيث الفضاءات حوله بالأجساد مزينة منمقة، و كذا حرة طليقة إلا من براثنه يصيدها بها ليفرغ فيها نزواته متى شاء و أراد...
إذ هو الإعفاء له من تبعات كانت الضرورية من أجل إشباع حاجات الجسد، ثم لم تعد كذلك، إذ توفرت المتعة بانتحاء هذا المنحى في كل مكان، و حتى هي المرأة أضحت المطالبة الباذلة للجهد من أجل الغواية و الإغراء، إذ بفعل اليقين رسخ في حناياها بأنها المساوية للرجل لم تعد ترضى بأن تنتظر و تكون المرغوب فيها فقط، بل اندلقت مُنافِسة تتسول اللذة و تطلبها على كل الموائد و في كل الأماكن و المنعطفات.

و أخيرا...
و بعد هذا العرض للانحراف طال مسيرة المرأة في هذين المجالين على سبيل التمثيل لا غير، و بعد هذا الإظهار للاستغلال بشع للقوة من الرجل من أجل استعباد المرأة ـ و كذا تكريس ميلها الفطري نحو الثقة فيه و الاحتماء به بهدف قضاء مآرب له نفسية و جسدية ـ يبرز سؤال و يجاهر بنفسه بحدة:
أو لم يحن الوقت بعد لكي تُمكن المرأة من التوعية بحقوقها الممتوحة من الدين في كل المجالات، و بإعادة تشكيل عقل الرجل حتى يسمح لها بأن تنال تلك الحقوق التي هي لها منذ أن أرسل الله الرسل مبشرين و منذرين؟؟؟

سؤال لو أجيب عنه بصدق، ثم فُعِّل الواجب الذي يجب القيام به، لربما استغني عن هذا اليوم اليتيم جُعل للمرأة في السنة،و كذا عن هذا الكم الكثير من الجعجعة حولها....

************

الهوامش:

1 ـ الآية: 30 ـ سورة النور.
2 ـ صحيح البخاري ـ
المظالم و الغصب ـ ـ أفنية الدور والجلوس فيها والجلوس على الصعدات ـ الحديث رقم 2285.
3 ـ صحيح مسلم ـ
الآداب ـ نظر الفجاءة ـ الحديث رقم: 4018
4 ـ سنن أبو داود ـ
النكاح ـ ما يؤمر به من غض البصر ـ الحديث رقم: 1837 .
5 ـ الآية:32 ـ سورة الأحزاب.
6 ـ
http://www.sciencedirect.com/science?_

7 ـ سنن الدارمي ـ باب الطهارة ـ وقت النفساء وما قيل فيه ـ حديث رقم 941.
8 ـ سنن الترمذي ـ
الطهارة عن رسول الله ـ ما جاء في كم تمكث النفساء ـ الحديث رقم: 129.
9 ـ
صحيح البخاري ـ الحيض ـ مباشرة الحائض ـ الحديث رقم: 290.
10 ـ
موطأ مالك ـ باب الطلاق ـ أجل الذي لا يمس امرأته ـ الحديث رقم:1069
11 ـ
صحيح البخاري ـ باب الطلاق ـ الخلع وكيف الطلاق فيه ـ الحديث رقم: 4867
12 ـ
سنن أبي داود ـ عدة الحامل ـ رقم الحديث: 1962.

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

و لكم أسعدني احتفاءكم و نشركم لبسيط ما كتبت
فلكم الشكر حتى ما لانهاية
و لكم أيضا عظيم امتناني
تحياتي و وافر تقديري
د.صالحة رحوتي ـ المغرب

Charbel Baini يقول...

اهلا بك وبكل ما تكتبين يا دكتورة صالحة..
والف شكر لك على اطلاعنا على هذه الدراسة الرائعة.
شربل بعيني