نقولا ناصر
عشية الذكرى السنوية الخامسة لغزو العراق حولت قوات الاحتلال العاصمة العراقية الى ثكنة عسكرية مغلقة لاستقبال رمزين للقوتين الاجنبيتين الاميركية والايرانية اللتين تتقاسمان السلطة والسيطرة فيها منذ عام 2003 وفي الوقت نفسه تتنافسان بضراوة عليهما لكن دون ان يقود هذا التنافس ولو مرة واحدة الى أي صدام عسكري او اشتباك سياسي بينهما ، مباشرة او بالوكالة ، داخل العراق او على حدوده ، بالرغم من الحملات الاعلامية العدائية المتبادلة التي تخلق اجواء خادعة تكاد توحي بان الحرب بين الطرفين باتت قاب قوسين او ادنى .
وكان لافتا للنظر ان لا يحدث ولو احتكاك بسيط بين حوالي خمسين الف جندي احتلال اميركي في بغداد وبين القوة العسكرية الضخمة التي وفرت الحماية للرئيس الايراني محمود احمدي نجاد عندما زارها في الثاني والثالث من الشهر الجاري وان لا يقع ولو حادث "مزعج" واحد يعكر صفو زيارة نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني لها في السابع عشر من الشهر نفسه ، بالرغم من تواجد عشرات الالاف من المليشيات الطائفية المتواجدة في العاصمة العراقية التي تمولها وتسلحها طهران والتي لا يكاد يخلو أي تصريح لاي مسؤول اميركي من الشكوى منها والتي بدورها لا تفوت فرصة للهجوم اللفظي على "الشيطان الاكبر" الاميركي .
ومع ذلك فان دلالات هذا التنسيق الدقيق الذي سهل اختراق الرئيس الايراني لمنطقة سيطرة عسكرية اميركية كاملة وسهل اختراق نائب الرئيس الاميركي لمنطقة سيطرة سياسية ايرانية كاملة ليصول كل منهما ويجول في عاصمة الرشيد المنكوبة بكليهما لا ينبغي ان يخدع أي مراقب للتسرع في الاستنتاج بان تقاطع مصالح الطرفين في العراق قد تحول الى تحالف او ان المواجهة بين الدولتين هي "تمثيلية" فقد كان هذا هو بالذات الخطا الفادح الذي اوقع فيه التضليل الاعلامي الايراني الكثيرين من العرب وغيرهم عندما صور المواجهة العراقية الاميركية بانها كانت ايضا "تمثيلية" بسبب تقاطع المصالح الاميركية العراقية خلال حرب الثماني سنوات بين العراق وايران حتى جاء الغزو فالاحتلال ليثبت بان النظام العراقي البعثي السابق كان حقا السد الاكبر في وجه الاجتياح الاميركي للمنطقة وبان استهدافه قد وضع ايران نفسها وجها لوجه امام الخطر الاميركي المباشر وبالتالي لا احد بحاجة الى احتلال اميركي لايران لكي يقتنع اهل المنطقة بان المواجهة الاميركية الايرانية الراهنة بدورها ليست تمثيلية وبان سقوط طهران سيكون ايضا سقوطا لسد كبير آخر في وجه الهيمنة الاميركية المطلقة على المنطقة برمتها .
غير ان هذا الاطار الاستراتيجي العام لا ينفي واقع ان هناك صفقة اميركية – ايرانية في العراق "تسعى فيها طهران الى تفاهم مع واشنطن حول برنامجها النووي مقابل مساعدة ايران للولايات المتحدة في الحفاظ على الوضع الراهن في العراق" كما قال تحليل لموقع "ديبكافايل" الاستخباري الاسرائيلي في التاسع عشر من الشهر الجاري . وقد لاحظ الموقع ان واشنطن لكي تشتري المساعدة الايرانية فانها "مررت" الاتفاق الذي وقعه رئيس وزراء حكومة المنطقة الخضراء ببغداد نوري المالكي اثناء زيارته لطهران اواخر العام المنصرم لمد انبوب نفط ينقل النفط العراقي في الجنوب الى مصافي النفط الايرانية في عبدان ، موضحا ان ربط نفط الجنوب العراقي بايران هو "القضية الرئيسية الثالثة التي تسيطر على الحوار الاميركي الايراني" كما انها قضية "محورية بالنسبة لعلاقات ايران الثنائية مع العراق" .
والمفارقة هنا ان الكرم الاميركي في التبرع بالنفط العراقي في الجنوب لايران لم يقابله أي كرم اميركي مع بقية العالم ، فقد نقلت شبكة ايه بي سي نيوز الاميركية في 19 الجاري ان احد الاهداف الرئيسية لتشيني خلال زيارته للعراق كان الضغط للاسراع في تمرير قانون النفط العراقي من اجل "انهاء احتكار الحكومة المركزية لتطوير حقول النفط والغاء العقود النافذة حاليا مع الشركات الصينية والروسية والاوروبية لتمهيد الطريق امام نظيراتها الاميركية والحليفة" ، واقتبست الشبكة من تشيني قوله: "هذه قضية بحثتها فعلا مع كل العراقيين الذين تحدثت معهم".
وقد "نجح" تشيني خلال زيارته في دفع "مجلس الرئاسة" العراقي الى "سحب اعتراضاته" على مشروع قانون انتخابات الاقاليم الذي له علاقة وثيقة بقانون النفط لانه في راي واشنطن يمثل "حجر زاوية" في تعزيز صلاحيات محافظات العراق الثمانية عشر في اطلاق مشاريع اقتصادية خاصة بها ، ومن المعروف ان محافظات كردستان العراق لم تنتظر اقرار هذا القانون لكي تمارس صلاحياته بتوقيع عقود نفطية مع شركات اجنبية منها اميركية رغم انف الحكومة المركزية المعترضة التي حولت زيارة تشيني "التاريخية" لاربيل تهديداتها بالغائها الى تهديدات جوفاء .
وفي قضايا النفط والمحافظات وعدم وجود حكومة مركزية عراقية قوية تتقاطع المصالح الاميركية والايرانية تقاطعا يكاد يكون متطابقا حد ان تغض طهران النظر عن هدف رئيس آخر لزيارة تشيني وهو صياغة "اتفاق طويل الامد بين الولايات المتحدة والعراق" يحدد "الاساس القانوني لاستمرار وجود القوات الاميركية" ، على ذمة الاسوشيتدبرس ، وتوقع المخطط العسكري الاميركي المتقاعد الذي يراس حاليا "مركز تقويم الاستراتيجيات والميزانيات" ، اندرو كريبينيفتش ، وجود ما بين 30 – 40 الف جندي اميركي في العراق لفترة تمتد بين 25 – 50 سنة مقبلة ، كما نقلت عنه الكريستيان ساينس مونيتور في 18 الجاري ، مذكرة بانه مضى على وجود القوات الاميركية في المانيا واليابان 63 سنة وفي كوريا 57 سنة .
وهنا لا يمكن تبسيط الموقف الايراني ب"غض النظر" ، فهنا يكمن تناقض لا يمكن المرور عليه مرور الكرام ، خصوصا في ضوء الضخ الاعلامي المتدفق ليل نهار من طهران ضد الوجود الاميركي في الخليج العربي الذي يتجاهل "التعايش" الايراني بالتقاطع مع الوجود الاميركي في العراق ، وقبله سابقة التعايش المماثل في افغانستان ، كما لا يمكن التغاضي عن حقيقة ان رجال ايران الحاكمين في المنطقة الخضراء هم الذين يطالبون علنا ببقاء قوات الاحتلال وباضفاء صفة تعاقدية تعاهدية على بقائها ، في تعارض مع مطالبة طهران اللفظية برحيل الاحتلال الاميركي عن العراق ، دون ان يصدر عن طهران أي نقد لهم ، في الاقل لتعزيز مصداقية المطالبة الايرانية ، ناهيك عما يقتضيه "التعارض" بين الطرفين من اعادة النظر في التحالفات الايرانية في العراق ، لكي تنتقل طهران الى التحالف مع المقاومة العراقية للاحتلال ان كانت صادقة حقا في مطالبتها برحيله . غير ان زيارتي نجاد وتشيني قد اكدتا ان موقفهما من المقاومة الوطنية العراقية هي نقطة تقاطع اخرى في المصالح .
والمتتبع لجولة تشيني في المنطقة سوف يلاحظ المفارقة بين تركيز نائب الرئيس الاميركي في سلطنة عمان والعربية السعودية على الحض على مقاومة النفوذ الايراني في لبنان وسوريا وفلسطين مع تجاهله لمقاومة هذا النفوذ حيث هو اقوى واخطر في العراق . ان اللهجة التي تحدث بها تشيني عما اسماه "القلق" العربي من "النفوذ الايراني في العراق" تشي بمحاولة مكشوفة لاستخدام هذا النفوذ اداة ضغط عليهم للاعتراف عمليا بالامر الواقع الذي اقامه الاحتلال الاميركي عن طريق ارسال سفرائهم الى بغداد . ولم يكن قوله: "اذا كانت الدول العربية قلقة من النفوذ الايراني في العراق فان احدى الطرق لمجابهتهم ذلك هي ان يلتزموا بان يكون لهم وجود هناك ايضا" ، الا لغة واضحة لا لبس فيها لم تستنكر الوجود الايراني بل تطالب بوجود عربي يضاف اليه دون ان يلمح حتى مجرد تلميح الى ان هذا النفوذ يمثل أي مصدر لقلق واشنطن ، في تحريض واضح للعرب على ايران في محاولة مكشوفة لتحويل العراق الى ميدان مواجهة عربية ايرانية ستكون بلاده بالتاكيد هي المستفيد الرئيسي منها .
ان الامر المالوف هو ان يكون لكل نفوذ اجنبي في دول العالم رجاله لكن ما نراه في العراق اليوم هو حالة شاذة فريدة من نوعها حيث نفس الرجال يمثلون مصالح اجنبية متناقضة حد التهديد بالحرب فيما بينها وهذه الحالة لا تنطبق الا على عملاء المخابرات المزدوجين ، اذ باستثناء اللقاءات مع قادة قوات الاحتلال اجتمع نجاد وتشيني تقريبا مع نفس الرجال الذين لم يعد المراقب يفرق بين كونهم رجال ايران وبين كونهم رجال اميركا اذ انهم جمعوا "المجد الاجنبي" من طرفيه وربما يكون عبد العزيز الحكيم خير رمز لهذا النمط الايراني - الاميركي الهجين من السياسيين العراقيين الذين يمتلكون قدرة فذة حقا على التزاوج سياسيا مع نقيضي "محور الشر" و"الشيطان الاكبر" او المزاوجة السياسية بينهما ، فالحكيم لم يجد أي حرج او تناقض عندما لم يتردد لحظة واحدة في اطلاق الوصف نفسه على محادثاته المنفصلة مع نجاد وتشيني بقوله ان وجهات النظر مع كل منهما كانت "متطابقة" مع كليهما .
وهذا "التطابق" ان صح يصبح هجينا بدوره بسبب التناقض ، الظاهري في الاقل ، الذي ينطوي عليه ، والا كيف يمكن تفسير "التطابق" بين تصريحات تشيني عن معارضته لتخفيض عديد قوات الاحتلال باعتبار ذلك "خطا" وعن المفاوضات التي جاء ليجريها حول "اتفاق وضع القوات" الاميركية التي ستبقى في العراق في الامد الطويل وبين تصريحات نجاد التي دعا فيها الى رحيل القوات الاجنبية التي لم يصفها مرة واحدة ب"المحتلة" ؟
او كيف يمكن تفسير حديث تشيني في اربيل بعد لقائه مسعود برزاني عن "العلاقة الاستراتيجية" بين الولايات المتحدة وبين العراق التي ذهب الى بغداد لصياغتها في اتفاق وحديث نجاد عن العلاقة الاستراتيجية بين بلاده وبين العراق التي اعتبر زيارته تتويجا لها ، وما هو المنطق الهجين الذي يمكنه ان يفسر "استراتيجية" العلاقات العراقية مع عدوين استراتيجيين في آن معا بينما يتمتع كل منهما بموقع استرايجي في عراق لم يعد له بفضلهما أي دولة او استراتيجية !
لقد كانت الزيارة التي قام بها الرئيس نجاد للعراق "تاريخية" حقا ، لكن ليس لانها فتحت صفحة جديدة في العلاقات العراقية الايرانية ، بل لانها كانت بمثابة اعلان مدو عن اعتراف ايراني – اميركي متبادل بدور الامر الواقع لكل من الطرفين في البلد العربي الذي ما كان للاحتلال الاميركي ان يستمر فيه بعد خمس سنوات من غزوه لولا الدور الايراني . ان الرمزية الكامنة في "قدرة" بغداد على استضافة نجاد وقبله رئيس دولة الاحتلال الاميركي جورج دبليو. بوش و"عجزها" عن استضافة الاتحاد البرلماني العربي ، المفترض فيه تمثيل شعوب الامة العربية ، الذي استضافته اربيل مؤخرا ، هي رمزية مليئة بالمعاني والعبر السياسية .
ولا يمكن عدم الربط بين زيارة نجاد وبين مجموعة من العوامل التي تساعد في فهم اهدافها مثل قرب انتهاء العمل بقرار مجلس الامن الدولي بنهاية العام الحالي حول دور القوات متعددة الجنسيات التي يتخذها الاحتلال الاميركي غطاء لاضفاء شرعية دولية عليه ، مما استدعى البدء في مفاوضات اميركية – "عراقية" حول دور قوات الاحتلال الاميركي في العراق بعد ذلك لاستبدال الغطاء الاممي بغطاء من "السيادة" العراقية ، ومثل انتهاء ولاية الرئيس الاميركي جورج دبليو. بوش في كانون الثاني / يناير المقبل ومجيء ادارة جديدة من المحتمل جدا ان تسحب قوات الاحتلال من العراق او تخفض عديدها تخفيضا يترك النظام السياسي الذي جاءت به هذه القوات مكشوفا دون حماية في مواجهة مباشرة مع المقاومة الوطنية .
ان هذين العاملين وغيرهما قد استنفرا القوتين الرئيسيتين اللتين ما كان لهما ان تظهرا داخل العراق لولا الاحتلال الاميركي وهما النظام السياسي الذي رعاه هذا الاحتلال والنفوذ الايراني الذي استظل به فهاتان القوتان اللتان تعجزان حتى الان عن حكم الشعب العراقي في وجود المظلة الاميركية سوف تعجزان عن ذلك بالتاكيد عندما تنسحب تلك المظلة عنهما ولذلك بادرتا الى التحرك في ثلاث اتجاهات لمواجهة احتمال واقعي جدا كهذا .
وتمثل الاتجاه الاول في التوجه نحو تعزيز العلاقة الثنائية بين الطرفين لتحويلها مما يمكن وصفه تجاوزا ب"التحالف" بين ايران وبين المجاميع الطائفية ومليشياتها وقادتها في العراق الى تحالف رسمي بين طهران وبين هذه المجاميع الحاكمة في المنطقة الخضراء ببغداد وكانت زيارة نجاد تتويجا لهذا التوجه استهدفت تطمين تلك المجاميع بان ايران سوف توفر لها الحماية التي ستفقدها في حال انسحبت قوات الاحتلال الاميركي مقابل منحها المكانة نفسها التي تحتلها تلك القوات حاليا .
وتمثل الاتجاه الثاني في توجه الطرفين نحو قوة الاحتلال الاميركي نفسها لاستبقاء ما يمكن لواشنطن الابقاء عليه من النفوذ الاميركي في العراق بعد انسحاب قواتها ، ولو في الاقل لحين تستطيع ما يمكن ان نطلق عليها اسم "جبهة القوى الايرانية في العراق" ترسيخ اقدامها للاستمرار في الحكم بدعم ايراني ليس من المستبعد ابدا على هذه الجبهة ان تحوله من دعم مسلح مستتر في الوقت الحاضر الى دعم عسكري مباشر ومكشوف ، في ضوء استقواء هذه الجبهة بالغزو ثم الاحتلال الاجنبي الاميركي واستقوائها بالدعم الايراني وفي ضوء دور كاسحة الالغام ونازعة فتيل المقاومة لهذا الاحتلال التي قامت وتقوم به ايران ، وفي هذا السياق تندرج المفاوضات الاميركية – "العراقية" التي بدات ثم تاجلت في الاسبوع الماضي حول الدور المستقبلي للقوات الاميركية في العراق وفي هذا السياق ايضا تاتي جولات "الحوار" الاميركي – الايراني حول التعاون الامني في العراق .
وتمثل الاتجاه الثالث في توجه الطرفين نحو تركيا بحثا عن علاقات معها تحيد أي دور سلبي لها في العراق ، من وجهة نظرهما ، وفي هذا السياق كانت زيارة الرئيس جلال طالباني الى انقرة الاسبوع قبل الماضي مباشرة بعد زيارة نجاد الى بغداد مما يشي بتفاهم بين طالباني وبين نجاد على اهداف هذه الزيارة ، وهذا التوجه محفوف بمفارقات متفجرة تظهر براغماتية متطرفة تبلغ حد الميكافيلية التي تضرب بكل المبادئ والاخلاق عرض الحائط من اجل الوصول الى اهدافها . فايران التي ترفض باسم "الاخوة" الاسلامية حتى منح الحكم الذاتي للاقلية الكردية فيها ، او للاقلية العربية في الاحواز وعربستان التي تسميها خوزستان وتسمي حاضرتها المحمرة خرمشهر ، تمنح الشرعية للاقلية الكردية التي تقود نظام حكم في بغداد يدعو الى "الفدرالية" ويمارسها حد الانفصال العملي لكردستان العراق ، بينما تتنكر هذه الاقلية بدورها لامتداداتها الكردية القومية في ايران وتركيا لتسعى الى علاقات تحالفية مع البلدين تضرب طموحات تلك الامتدادات في الصميم .
وهذه التوجهات الثلاث تثير اسئلة تفرض نفسها عن غياب البعد العربي في هذه الصورة السريالية للوضع العراقي الماساوي . واذا كانت اسباب غياب هذا البعد لدى المخططين الاستراتيجيين الايرانيين ولدى المجاميع العرقية والطائفية المستفيدة من هذا الغياب لاستثمار الفترة التاريخية الراهنة الشاذة في تاريخ العراق العربي لكي تتصدر سدة الحكم فيه هي اسباب غنية عن البيان ، فان الاسباب العربية لهذا الغياب جديرة بوقفة منفصلة لفهمها .
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق