الاثنين، مارس 10، 2008

طريق الخروج من غزة

نقولا ناصر

(ما زال "اعلان الحرب" على قطاع غزة قائما وما زال الرهان على الحل العسكري كطريق للخروج من مازق غزة ينذر بالمزيد من التصعيد العسكري وسفك الدماء على جانبي الصراع)


بقدر ما كان الهجوم المسلح على مدرسة حركة غوش ايمونيم اليهودية الاستيطانية العنصرية في القدس يوم الخميس الماضي وقبله عملية ديمونا والاجتياح الشعبي لمعبر رفح عناوين لمحاولات حركة المقاومة الاسلامية "حماس" للخروج من الحصار الخانق المفروض عليها وعلى قطاع غزة بقدر ما كانت "عملية الشتاء الساخن" التي شنتها قوات الاحتلال الاسرائيلي على شمال القطاع عنوانا لمحاولات الخروج من "مازق غزة" التي حاصرت فيه سيطرة حماس على القطاع المشروع السياسي الذي يتبناه شركاء "عملية السلام" التي انعقد مؤتمر انابوليس قبل اربعة اشهر لاستئناف مفاوضاتها .

وبالرغم من الشكل "العسكري" الذي اتخذته سيطرة حماس على القطاع في حزيران / يونيو الماضي فان الازمة كانت وما تزال "سياسية" وقد بدات قبل ذلك عندما حققت الحركة الاسلامية فوزها الساحق في انتخابات كانون الثاني / يناير التشريعية عام 2006 ، لكن العنوان الرئيسي لمحاولات الخروج من المازق السياسي الناجم عنها ما زال عنوانا لمحاولات "حل عسكري" اجهضت المراهنة الاسرائيلية – الاميركية عليه كل المبادرات العربية والفلسطينية لحله سياسيا وكانت المراهنة عليه قادت الى "الحسم العسكري" في القطاع .

واعقب ذلك اعلان دولة الاحتلال الاسرائيلي ان قطاع غزة "كيانا معاديا" واعلان سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية ان القطاع سيطر عليه "انقلاب عسكري على الشرعية" تقوده "قوة خارجة على القانون" وهي القوة نفسها التي تصنفها دولة الاحتلال وراعيها الاميركي"منظمة ارهابية" وهي المنظمة التي ولدت من رحم ارهاب دولة الاحتلال ولم تكن موجودة قبله وولدت ومن رحم الفشل الاميركي في انهاء الاحتلال بالمفاوضات السلمية وما كان من المتوقع لها ان تصل "ديموقراطيا" الى قيادة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال لو كان الراعي الاميركي يستهدف حقا احلال سلام "عادل وشامل" في المنطقة قبل ان يتبدد تماما أي احتمال كهذا بعد ان تحولت الولايات المتحدة نفسها الى قوة احتلال في المنطقة .

وما زالت هذه "الاعلانات" من شركاء انابوليس تمثل "اعلان حرب" على القطاع وتمثل رهانا على "الحل العسكري" الذي ما زال يطغى على الحلول السياسية لمن يريدون الخروج من مازق غزة ويدفعون حماس دفعا للبحث عن حلول عسكرية للخروج من الحصار المفروض عليها ، وهذا طريق مسدود للحل وللخروج من المازق المزدوج الذي يحاصر طرفيه في غزة وهو طريق ينذر بالمزيد من التصعيد العسكري والعنف ضد المدنيين وسفك المزيد من دمائهم ولا يبشر باي انفراج لا في الازمة الفلسطينية – الفلسطينية ولا في مفاوضات السلام .

ويحرص تحالف الاحتلالين الاميركي – الاسرائيلي الذي اجهض الحل السياسي الذي تمخض عن اتفاق مكة على وأد اي توجه نحو أي حل سياسي في مهده كما اتضح من نتائج زيارة وزيرة الخارجية الاميركية لرام الله الاسبوع الماضي التي وأدت خلال ساعات توجها واعدا كهذا ابداه الرئيس الفلسطيني محمود عباس لنزع فتيل الحلول العسكرية .

فعندما صرح عباس بعد اجتماعه مع رايس في رام الله يوم الثلاثاء الماضي بانه "يصر على ضرورة" تحقيق "هدنة متبادلة وشاملة" في الضفة الغربية وقطاع غزة على حد سواء وطالب ، من اجل "خلق البيئة اللازمة" لاستئناف المحادثات مع حكومة الاحتلال ، بوقف العدوان على القطاع ورفع الحصر عنه لانه "خرب المفاوضات" ، بالرغم من حث رايس له على استئناف المفاوضات "باسرع وقت ممكن" ، خلق عباس املا خادعا لانه اولا اوحى باستعداد لمقاومة الضغوط الاميركية ولانه ثانيا تبنى مطلب اجماع فلسطيني يعتبر قاسما مشتركا يمكن البناء عليه لاستئناف الحوار الوطني ولانه ثالثا ابتعد عن جوقة من كبار مساعديه كانت تحمل المسؤولية عن "المحرقة" المستمرة في القطاع وعن الطريق المسدود الذي وصلت اليه "عملية انابوليس" للمقاومة الوطنية ولحماس تحديدا ، مما خلق ارتياحا وطنيا سرعان ما احبطه تراجعه خلال اقل من اربعة وعشرين ساعة ليعود الى نهج طريقه مسدود كما اثبتت النتائج العكسية لهذا النهج .

ان العملية المسلحة غربي القدس الخميس الماضي وسابقاتها ولاحقاتها المتوقعة كانت احدث مظاهر فشل هذا النهج لا سببا في فشله ، لانها اثبتت استحالة استمرار الوضع الراهن الذي يمنح دولة الاحتلال حرية كاملة في العدوان على الشعب الفلسطيني وقتله وحصاره وتجويعه بينما تحلم في ان تظل هي محصنه ضد أي أي رد فعل مقاوم ، واثبتت استحالة ان تستهدف بعدوانها جزءا من الوطن والشعب الفلسطيني وتامل في الوقت نفسه في قدرتها على منع وحدة النضال الوطني من التعبير عن نفسها في كل اجزاء الوطن المحتل ، لتثبت هذه العملية في خلاصتها استحالة التعايش بين المفاوضات وبين العدوان واستحالة الفصل بين التفاوض وبين المقاومة واستحالة القسمة الضيزى بين جزء من الشعب الفلسطيني مطلوب تصفيته وبين جزء آخر مطلوب اقحامه طوعا او كرها في هذه التصفية .

كما ان الضغوط الهائلة التي مارستها رايس على الرئيس الفلسطيني من اجل "ابقاء عينه على ما هو هام (المفاوضات)" واغماض عينيه عما يجري في قطاع غزة لكي يتراجع عن اشتراطه المعلن للتهدئة المتبادلة والشاملة ورفع الحصار لمواصلة المفاوضات تذكر بالضغوط التي قرنتها وادارتها بالوعود الزائفة التي جعلت الرئاسة الفلسطينية تتراجع عن شروطها المعلنة للذهاب الى مؤتمر انابوليس قبل اقل من اربعة شهور .

ان تجاوب الرئاسة الفلسطينية مع الضغوط الاميركية المرة تلو المرة لا تفسير له سوى ان روح المقاومة قد انعدمت لدى الفريق المفاوض حتى في عملية التفاوض ، او في احسن الحالات ان هذه الفريق يجد ان خياراته معدومة ولم يعد امامه أي خيار سوى التقاطع مع "الحلول العسكرية" المفروضة عليه ، مما يفرض على المواطن الفلسطيني مقارنة خطط شركاء عملية انابوليس لكي يعقدها هذا المواطن بين نموذج رام الله وبين نموذج غزة لكنهم الان يكتشفون من النتائج العكسية لخططهم بانهم يقعون في الفخ الذي نصبوه لغيرهم ، ويكتشفون انهم بمواصلة هذه الضغوط انما يضعفون شريكهم الفلسطيني ويهزون صورته ويضعضعون مصداقيته بينما تتعزز مصداقية برنامج القطب الاخر في الانقسام الفلسطيني الذين خططوا لتصفيته .

وقد ظهرت مؤخرا اربع مؤشرات تعزز مصداقية نموذج غزة اضعفها اعتراف ركن رئيس في نموذج رام الله ، هو امين عام اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه ، بعدم قدرته على "ان اجادل ضد" ما "يقوله الناس حتى في الضفة الغربية" عن ان المقاومين في القطاع "ارغموا الاسرائيليين على الانسحاب" ، ويسبق ذلك في الاهمية المؤشر الثاني وهو ما نشرته مجلة "فانيتي فير" الاميركية الاسبوع الماضي عن توريط واشنطن لاطراف قيادية في السلطة الفلسطينية في انقلاب على الشراكة الوطنية التي انبثقت عن انتخابات كانون الثاني / يناير 2006 كما تجلت في اتفاق القاهرة ووثيقة الاسرى واتفاق مكة وحكومة الوحدة الوطنية المنبثقة عنه عن طريق انشاء قوة مسلحة تفتعل مواجهات مع حماس بهدف تصفيتها مما قاد الى الاقتتال الوطني في حزيران / يونيو الماضي الذي اسس للانقسام الراهن ، وهو ما لم يضف جديدا في الواقع الى ما كانت تدركه الفطرة الشعبية السليمة بغض النظر عن صحة او عدم صحة ما نشر ، غير ان زيارة رايس الاخيرة لرام الله كشفت بما لا يدع مجالا لاي شك ان هذه هي فعلا السياسة الرسمية لشركاء انابوليس .

لقد كان كان الاطار الاستراتيجي الذي اعتمدته عملية انابوليس لاستئناف مفاوضات فلسطينية مع دولة الاحتلال وصفة سياسية محكوما عليها بالفشل مسبقا لانها اعتمدت تابيد الانقسام الفلسطيني اساسا لها اثبتت نتائجه العكسية انه طريق من المستحيل ان يقود الى تحقيق السلام ولا الى تحقيق السلم الوطني وهو الشرط المسبق الذي لا غنى عنه سواء للسلام ام للمقاومة .

وتتحمل ادارة الرئيس الاميركي جورج دبليو. بوش وخصوصا وزيرة خارجيتها المسؤولية الاولى الى جانب دولة الاحتلال عن كل الدماء التي تسيل على جانبي الصراع لانهم يصرون على ان وقف الهولوكوست اليهودي ضد عرب فلسطين ليس شرطا لاستمرار المفاوضات ولانهم يصرون على ادامة الانقسام الفلسطيني وتعميقه .

اما المؤشر الثالث فكان شهادات ضباط النخبة في جيش الاحتلال من الوية جفعاتي وباراك عن "القتال الضاري" الذي واجه به ما بين 100-150 مقاوم ، حسب تقديراتهم ، ما قدرته هآرتس يوم الاربعاء الماضي بكتيبتين من جفعاتي مدعومة بسرايا من باراك الى جانب قوات خاصة وكتيبة مصفحات من لواء شاعار ناهيك عن الدعم الجوي عندما توغلوا حوالي ثلاث كيلومترات في منطقتي الشجاعية وجباليا لكي يتبجح اولئك الضباط بان جنودهم "قاتلوا (الضواري الفلسطينية) كالاسود" . وبالرغم من فداحة الخسائر في الارواح فان الصورة المشرفة الي قدمها النموذج "الغزاوي" للمقاومة الفلسطينية ستدخل التاريخ الوطني منارة للاجيال المقبلة التي ستتذكرها دون ان يعلق في ذاكرتها أي اثر لالوان العلم الذي قاتلت تحته .

ان ما رواه تحقيق "فانيتي فير" ، بالرغم من نفي واشنطن ومحمد دحلان ، قد ايده المؤشر الرابع وهو الدراسة الاكاديمية التحليلية المعنونة "طريق الخروج من غزة" للخبير في الشان الفلسطيني ناثان جيه. براون ، مدير برنامج الشرق الاوسط بجامعة جورج تاون التي نشرها معهد كارنيجي في شباط / فبراير الماضي ، غير ان ما يميز الدراسة عن التحقيق هو التوصيات التي خلصت اليها والتي تتفق مع شبه اجماع فلسطيني وعربي على المخرج من الازمة الداخلية ومن الطريق المسدود الذي وصل اليه "برنامج السلام" الفلسطيني وفريقه وهو المخرج الذي بدا يجد طريقه للنشر في وسائل الاعلام الاميركية والاسرائيلية على نطاق واسع .

فالدراسة ، بعد ان شخصت وضع الضفة الغربية بانها "تحت الوصاية الدولية بحكم الامر الواقع" (وهي الوصاية التي لم يصدر أي احتجاج عليها من رام الله لكن صائب عريقات ، رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير ، سارع غاضبا يوم الخميس الماضي الى الرد على تقرير اعلامي عن احتمال وصاية اردنية ومصرية على الضفة والقطاع قائلا ان الشعب الفلسطيني قد شب على أي وصاية) ، وبعد ان استنتجت بانه "لا توجد أي قيادة فلسطينية قابلة للحياة" في وقت تتطلب فيه الدبلوماسية وجود قيادة كهذه ، وبعد ان خلصت الى ان الدعم الدولي لحكومة رام الله "لن يجعلها شرعية" بالرغم من انه يبقيها "عائمة" ، وبعد ان لاحظت بان ادارة بوش في دعمها للرئيس الفلسطيني كانت "في تناقض مباشر مع النصوص الدستورية التي كانت سابقا قد ساعدت في فرض قبولها على سلفه" ، اوصت الدراسة بالوحدة الوطنية الفلسطينية على اساس الشراكة "كامل وحيد في الخروج من المازق الراهن" .

وحث براون على "وجوب" اتفاق حماس وفتح ، والعودة الى اتفاق مكة "او مثله" ، و"عودة الى حكومة وحدة وطنية" ، والسماح لحماس بالعودة الى الحكومة ، و"وجوب" العودة الى عقد المجلس التشريعي والى "حكومة دستورية" ، باعتبار كل ذلك شرطا لوجود "سلطة فلسطينية" ذات مؤسسات فاعلة كطريق نحو الخروج ايضا من "المازق الدولي" اقليميا وك"شرط مسبق" للمفاوضات . وبعد ان اشار براون الى "ان حماس قد اوضحت بان لها مصلحة قوية جدا في وقف اطلاق نار ثنائي" حث على ضرورة اقناع "اسرائيل بوقف اطلاق النار" ، لافتا النظر الى ان اشتراط اعتراف حماس باسرائيل والاتفاقيات الموقعة مع منظمة التحرير ونبذ العنف يمكن ان ينتظر الى ما بعد اقامة دولة فلسطينية .

ان ثنائية الاستقطاب التي تمزق الصف الفلسطيني بين برنامجين نقيضين كانت نبتا شيطانيا لا يستطيع الضمير الوطني استيعاب فكرة نموه في أي تربة من ارض الوطن . وقد اثبتت التطورات منذ حزيران الماضي بعض المسلمات التي لم يعد من الممكن تجاهلها ، اولها ان احتمالات النجاح للنضال الوطني الفلسطيني سواء في شكله المقاوم ام في شكله السياسي لا يمكن ان تتحقق الا على قاعدة وحدة النضال وهذه الوحدة امكن للحوار الوطني ان يتوصل الى صيغة حد ادنى لها في اتفاق القاهرة ووثيقة الاسرى واتفاق مكة للتوفيق بين البرنامجين المتعارضين .

وثانيها ان احتمالات النجاح للنضال الوطني في شكليه لا يمكن ان تتحقق الا على اساس الشراكة الوطنية التي اسست لها اتفاقات الحد الادنى المذكورة .

وثالثها ان احتمالات النجاح للنضال الوطني معدومة اذا ارتهن هذا النضال نفسه لشكل واحد يفرضه عليه العدو نفسه مقابل وعود زائفة وخادعة وكاذبة لم يتمخض عنها حتى الان سوى اسشراء الاستيطان وتهويد القدس والانقسام الوطني ، واذا استمر الانقسام الوطني ونهج اقصاء الاخر ، واذا استمر الرهان على الخارج على حساب الوحدة الوطنية.

*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات: