نقولا ناصر
(منظمة التحرير الفلسطينية في وضعها الراهن جزء من المأزق وسبب رئيسي فيه وتفعيلها كمخرج منه مهمة تتقدم في أهميتها على كل ما عداها)
يتميز الوضع الفلسطيني الراهن بمأزق تاريخي ناجم عن النهج السياسي الذي اختطته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لنفسها منذ "إعلان الاستقلال الفلسطيني" في العاصمة الجزائرية عام 1988، ويكاد يوجد شبه إجماع فلسطيني اليوم على عدم وجود أي مخرج من هذا المأزق إلا بإجراء مراجعة نقدية شاملة لهذا النهج من خلال حوار وطني موسع لا يوجد أي إطار له سوى منظمة التحرير نفسها، باعتبارها الوطن الافتراضي لكل الشعب الفلسطيني المعترف به عربيا ودوليا، لكن هذا الإطار في وضعه الراهن هو جزء من المأزق وسبب رئيسي فيه، مما يستتبع أن تكون مهمة تفعيل منظمة التحرير وإعادة دورها لها كممثل حقيقي وقائدة لشعبها هي المهمة المركزية الملحة التي تتقدم في أهميتها على كل ما عداها من المهمات الوطنية الفلسطينية كمخرج من هذا المأزق. والوضع الفلسطيني الراهن يتميز:
أولا: بانقلاب على الثوابت الوطنية كما أجمع عرب فلسطين عليها في الميثاق القومي ثم في الميثاق الوطني لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية أو بخروج عنها أو بمساومة عليها باعتماد التفاوض شكلا وحيدا لاسترجاع الحقوق الوطنية غير القابلة للتصرف، لا بل جرى التراجع حتى عن "حل الدولتين" كما اعتمدته وثيقة "إعلان الاستقلال" في الجزائر عام 1988 عندما نصت فقط على قرار الأمم المتحدة رقم 181 (قرار التقسيم) كمرجعية لهذا الحل باعتماد حدود وقف إطلاق النار عام 1949 أساسا لحل الدولتين، بينما يجري اليوم التفاوض للمساومة حتى على هذا الأساس تحت شعار "تبادل الأراضي" لتمكين دولة الاحتلال من ضم المكاسب الإقليمية (المستعمرات الاستيطانية) التي حازتها بالعدوان المسلح خلافا لميثاق الأمم المتحدة وللقانون الدولي الذي يحظر نقل السكان سواء من الدولة القائمة بالاحتلال إلى المناطق التي احتلتها أم من هذه المناطق إلى خارجها.
ثانيا: تحت شعار "القرار الفلسطيني المستقل" تم فك الارتباط الفلسطيني بالأمة وجرى فصل تعسفي للوحدة بين النضال الوطني الفلسطيني وبين النضال العربي من أجل التحرر والوحدة، وهذه الوحدة شرط موضوعي مسبق لنجاح حركة التحرر الوطني الفلسطينية، وقد ألزمت الاتفاقيات الموقعة مع دولة الاحتلال الصهيوني القيادة الفلسطينية الموقعة على هذه الاتفاقيات بهذا الفصل التعسفي.
ثالثا: ويتميز الوضع الراهن بتجزئة وحدة النضال الوطني الفلسطيني وتفتيته في تناقض صارخ بين ادعاء كون منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وبين واقع أن هذه المنظمة تتصرف فقط كممثل لذلك الجزء من الشعب الفلسطيني الذي خضع للاحتلال بعد عدوان عام 1967، حيث ألزمتها الاتفاقيات الموقعة بعدم تمثيل ذلك الجزء الذي نجا من عملية اقتلاعه من وطنه التاريخي خلال نكبة عام 1948، بينما يجري التفاوض على "حل متفق عليه" لمصير ذلك الجزء الذي نجح الاجتثاث الصهيوني في اقتلاعه من وطنه وتشريده، وهؤلاء هم أغلبية عرب فلسطين.
رابعا: تجري منذ توقيع "إعلان المبادئ" (اتفاق أوسلو) في واشنطن عام 1993 عملية تحويل الترتيبات المفترض أن تكون مؤقتة وانتقالية بموجبه إلى وضع دائم، تجري في إطاره عملية تدريجية لكنها ثابتة لاستبدال منظمة التحرير الفلسطينية بسلطة الحكم الذاتي التي أوكلت إليها مهمات الإدارة المدنية للحاكم العسكري للاحتلال في مناطق محدودة من مساحة الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، كممثل بديل للشعب الفلسطيني، لا يتم إخفاء حقيقة أن المطلوب منه بموجب هذه الاتفاقية التفاوض والتوقيع على "إنهاء الصراع" باعتباره نزاعا على الحدود في إطار "حل الدولتين".
خامسا: تحولت "انتخابات" سلطة الحكم الذاتي في إطار اتفاق أوسلو إلى إحدى الآليات الأساسية للاحتلال والقوى الدولية الداعمة له لإضفاء شرعية الوضع الدائم على الوضع المفترض انه مؤقت المنبثق عنها، وإضفاء شرعية على سلطة الحكم الذاتي كبديل لشرعية منظمة التحرير التي جرى منذ توقيع ذاك الاتفاق تهميشها، والانقلاب على مرجعياتها وميثاقها، وتحويل مؤسساتها إلى أسماء دون أي مضمون يتم استدعاءها في المناسبات فقط من أجل إضفاء شرعية المنظمة على سلطة للحكم الذاتي يجري تأهيلها بديلا للمنظمة، ويجري استخدام آلية هذه الانتخابات لاستبدال شرعية الانتخابات الجزئية المحدودة في ظل الاحتلال بديلا لشرعية المقاومة كمرجعية وحيدة لإفراز قيادة فلسطينية ملزمة وفق معطيات الوضع الراهن باعتبار المقاومة "إرهابا".
سادسا: نتيجة للعوامل الرئيسية الخمس السابقة كان أمرا محتما ومتوقعا أن يجد عرب فلسطين أنفسهم في المأزق الوطني الراهن، حيث وصل التفاوض إلى طريق مسدود، بينما لو نجح فإنه سوف يتمخض عن نتائج تساوم على الحقوق الوطنية غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، وبينما المقاومة مشلولة ومحاصرة ومطاردة، وحركة التحرر الوطني الفلسطيني منقسمة انقساما لا نهاية له في إطار الوضع الراهن، وحتى لو نجحت ضغوط القوى الدولية والإقليمية في مساعيها الرامية إلى إنهائه كشرط مسبق لاستمرار الوضع الراهن فإن أي "مصالحة" قد تتمخض عن هذه المساعي سوف تكون مؤقتة وشكلية كما أثبتت تجارب السنوات القليلة الماضية.
سابعا: من أجل ضمان استمرارية الوضع الراهن، وضمان تحقيق الأهداف المتوخاة منه، حرصت القوى المعادية على توفير ضمانتين لاستمرار فرض هذا الوضع بالإكراه على الشعب الفلسطيني، الأولى عسكرية من شقين أولهما ضمان استمرار السيطرة الأمنية للاحتلال ومن هنا "التنسيق الأمني" الذي تنص عليه الاتفاقيات الموقعة، والشق الثاني ضمان استمرار تجريد عرب فلسطين من أية وسائل للدفاع المشروع عن النفس، ومن هنا حصار المقاومة ومطاردتها وكذلك تجريد أي دولة فلسطينية قد تنبثق عن "حل الدولتين" من السلاح وتأمين قواعد لدولة الاحتلال فيها لمراقبتها ومراقبة العرب والمحيط الإقليمي انطلاقا منها.
أما الضمانة الثانية لاستمرار الوضع الراهن فاقتصادية، من شقين أيضا، يتمثل أولهما بارتهان بقاء سلطة الحكم الذاتي وقيادتها لكرم المانحين الدوليين، الذين يتكفلون بإعفاء ميزانية الاحتلال من التزاماته بموجب القانون الدولي تجاه الخاضعين له، ناهيك عن تحكم الاحتلال بموجب الاتفاقيات الموقعة بالموارد المالية للسلطة، ويتمثل الشق الثاني بتحويل الأغلبية الساحقة من عرب فلسطين تحت الاحتلال إلى عالة على "المساعدات الإنسانية"، بينما يطلق العنان لكل الطفيليات الاقتصادية الطامعة في الإثراء السريع من المعاناة الاقتصادية الجماعية لشعبهم تحت الاحتلال إما بالتنسيق مع الاحتلال أو بالشراكة المباشرة معه كوكلاء أو موزعين لمنتجاته، ليتحول الأداء الاقتصادي الفلسطيني تحت الاحتلال إلى أحد العوامل الرئيسية لإطالة أمد الاحتلال والارتباط الاقتصادي معه بدل إنهاء التبعية الاقتصادية له ولزيادة المعاناة الاقتصادية للشعب الفلسطيني، بكل ما يعنيه ذلك من مضاعفات سياسية على وحدة نضاله ضد الاحتلال.
ويبقى للمساهمة العربية في إيصال الحال الفلسطيني إلى مأزقه الراهن دور حاسم غني عن البيان !
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق