نقولا ناصر
("اجتثاث البعث" في العراق شعار صغير هدفه أكبر كثيرا من مجرد اجتثاث حزب بعينه، فهو يستهدف الهوية العربية الإسلامية للعراق، وعلاقات العراق العربية)
في خطابه بمناسبة الذكرى السنوية الحادية والثلاثين للثورة في إيران قال الرئيس محمود أحمدي نجاد إن الثورة الإسلامية قد "امتدت" إلى خارج إيران، ولم يحدد، لكن قوله في المناسبة ذاتها إن الغرب وأميركا لن يكونوا قادرين على فرض حزب البعث على العراقيين، وإعلان النائب العراقي صالح المطلك، أهم الممنوعين من الترشح في انتخابات السابع من آذار / مارس المقبل، أن منعه من ترشيح نفسه كان "هدية" لنجاد في ذكرى الثورة، لم يترك مجالا للتكهن بأن العراق كان المقصود الأول بالمجال الذي "امتدت" إليه الثورة، وهو الشقيق المسلم والجار العربي الذي استضاف روح الثورة وقائدها آية الله الخميني معظم سنوات منفاه وفتح أمامه أبواب العتبات المقدسة في النجف الأشرف المحمية بجنود البعث ليخطط ويقود الثورة منها.
وقد أصاب د. خضير المرشدي، الناطق الرسمي باسم حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، عندما اعتبر إشارة نجاد إلى الحزب "دلالة قاطعة على تدخل النظام الإيراني السافر والفض في شؤون العراق الداخلية"، غير أن تذكيره لنجاد بأن زيارته لبغداد أوائل آذار / مارس عام 2008 تمت بحماية أميركية وبأن" حلفاء أميركا وعملاءها هم أنفسهم حلفاء إيران وعملاؤها" لم يسهب في توضيح المغالطات الفاضحة في تصريحات نجاد، وهي تصريحات لا يمكن تفسيرها إلا بكون إيران تواصل اليوم سياسيا ما فشلت في تحقيقه عسكريا طوال ثماني سنوات من الحرب مع العراق بعد أن حسم الاحتلال الأميركي تلك الحرب لصالح إيران التي عجزت عن حسمها بقواها الذاتية.
والمغالطة الأولى هي أن "الامتداد" الإيراني الذي أشار نجاد إليه سواء في العراق أم في أفغانستان هو امتداد يعود الفضل فيه إلى الاحتلال الأميركي في المقام الأول وليس لجاذبية الثورة الإسلامية الأولى التي شدت جماهير العرب إلى شعاراتها الأولى المعادية للامبريالية الأميركية وحمايتها لدولة المشروع الصهيوني في فلسطين وللرأسمالية والإقطاع والمؤيدة "للمستضعفين" سياسيا وطبقيا. وفي هذا الإطار لفت النظر إشارة نجاد في خطابه إلى التزامن بين "سقوط الجناح الشرقي للدكتاتورية (أي الاتحاد السوفياتي) وبين "الثورة الإسلامية"، قبل أن تتطور هذه الثورة الآن إلى امتدادات طائفية أيقظت فتنة نائمة منذ قرون من الزمن لتزرع الانقسام في كل قطر عربي وتضعف وحدة نضال شعوب الأمة الواحدة من أجل التحرر الوطني والاستقلال والوحدة، ولتمنح قيادة طائفية "مسلحة" للمعارضة الوطنية الديموقراطية بحجة ارتباط هذه الأنظمة بالغرب وأميركا لتكون النتائج عكسية تماما إذ قادت هذه المقاربة الطائفية إلى إضعاف المعارضة، وتقوية الأنظمة ودفعها أكثر إلى أحضان الغرب وأميركا، بحيث لم يعد هناك الكثير من الشك في أن الثورة الإسلامية في إيران إما أن تكون قد اختطفها "قومية فارسية" وجهتها إلى الخارج لصرف الأنظار بعيدا عن عدم الوفاء بوعود الثورة للقوميات الأخرى في الداخل، وهذا شان داخلي إيراني نتركه لأهل الداخل الإيراني، وإما أن تكون الثورة الإسلامية قد انحرفت عن شعاراتها الأولى.
وإذا كان الفضل الأول في "الامتداد" الإيراني في العراق وأفغانستان يعود إلى الاحتلال الأميركي، فإن الفضل في هذا الامتداد في لبنان وفلسطين يعود في المقام الأول إلى الاحتلال الإسرائيلي الذي اضطر المقاومة الوطنية في البلدين للتقاطع مع الدعم الإيراني لهما باعتباره الدعم الوحيد المتوفر إقليميا في ضوء نضوب الدعم العربي، دون أن تغيب عن الحركات المقاومة حقيقة أن إيران تستغلها كأوراق لمساومة الولايات المتحدة على الاعتراف بدور لإقليمي لإيران، في الأقل، أو لشراكة إيرانية ـ أميركية في الإقليم تذكر بشراكة مماثلة في عهد الشاه أسقطتها الثورة. وفي هذا السياق لم تفت المراقب إشارة احمدي نجاد في خطابه إلى "الفرص" التي تضيعها إدارة باراك أوباما الأميركية في الوقت الحاضر، ولا تفوته دلالات المقارنة بين الدعم الإيراني للمقاومة في فلسطين ولبنان وبين محاربة إيران للمقاومة الوطنية في العراق وأفغانستان. وفي السياق نفسه لم تفت المراقب دلالات الدعوة التي وجهها رئيس وزراء الحكومة الفلسطينية المقالة بغزة إسماعيل هنية في منتصف كانون الثاني / يناير الماضي إلى إحياء المثلث السوري – السعودي – المصري كموازن قوى إقليمي في مواجهة دولة الاحتلال الإسرائيلي وحليفها الأميركي، فهذه الدعوة تفسر غياب أي بديل عربي للدعم الإيراني للمقاومة الفلسطينية، وهي دعوة يوجهها أحد قادة حركة المقاومة الإسلامية "حماس" المتهمة ب"خدمة الأجندة الإيرانية".
أما المغالطة الثانية في خطاب نجاد فتكمن في قوله إن الغرب وأميركا لن يكونوا قادرين على فرض حزب البعث على العراقيين، فهؤلاء الذين احتلوا العراق بذرائع تكشفت جميعها اليوم عن أكاذيب يتبين الآن أن الهدف الأول والأخير من الاحتلال كان فرض إخراج حزب البعث من السلطة وإسقاط نظامه بالقوة المسلحة الغاشمة، كما أثبتت مؤخرا لجنة "تشيلكوت" البريطانية للتحقيق في الحرب على العراق. إن إيحاء نجاد بأن الغرب وأميركا يسعيان إلى فرض حزب البعث على العراقيين اليوم ينطوي على تضليل إعلامي سافر بقدر ما ينطوي على تناقض مع الواقع الميداني ومع تصريحات القادة السياسيين والعسكريين للاحتلال الأميركي.
وقد كان لتصريح نجاد هذا صداه المباشر المدوي لدى "الامتدادات" الإيرانية التي تحكم بالوكالة عن أميركا في العراق اليوم. فهذه الامتدادات التي تتحاور بالمتفجرات والتفجيرات والاغتيالات والتي قالت في بعضها ما لم يقله مالك في الخمر، في صراعها الدموي على الحكم ومغانمه وكذلك على الحظوة لدى إيران وأميركا على حد سواء، قد "أجمعت" على ترويج دعاية نجاد المضللة بكل الوسائل المتاحة لها ونظمت المظاهرات الطائفية من أجل ذلك، في مبالغة تذكر بالمثل العربي القائل إن المريب يكاد يقول خذوني، لكنها مبالغة تكشف مدى رعبها ليس من عودة البعث إلى الحكم بل من مجرد فكرة أن يكون شريكا لها في "العملية السياسية". ولأن الحزب لا يفوت أي مناسبة لكي يدين هذه العملية باعتبارها وكل المشاركين فيها جزءا لا يتجزأ من مشروع الاحتلال الأميركي للعراق، فإن ترويج هذه الدعاية المضللة يكشف عن المغالطة الثالثة المتمثلة في أن المقصود بهذه الدعاية ليس حزب البعث بل كل من يحمل أفكارا مماثلة وطنية وعربية ولاطائفية، حتى لو انتموا مذهبيا إلى الطائفة الشيعية التي لم تعد تشتري بضاعتهم الفاسدة التي يسوقونها باسمها، بدليل أن الشيعة الممنوعين من الترشح في الانتخابات المقبلة أكثر من السنة كما قال رئيس الوزراء نوري المالكي لقناة العربية الفضائية يوم الجمعة الماضي.
في مؤتمر صحفي له في الثاني والعشرين من الشهر الماضي عدد رئيس مجلس الرئاسة العراقي المنبثق عن الاحتلال، جلال طالباني، ثلاثة أسباب لمعارضته السياسة الإيرانية التي تنفذها أدوات محلية ل"اجتثاث البعث"، وهذه السياسة هي ماركة أميركية مسجلة باسم الحاكم الأميركي الأول لاحتلال العراق بول بريمر، أولها أن سياسة الاجتثاث غير دستورية حتى طبقا للدستور الذي فرضه الاحتلال، لأن "الدستور صريح لا يشمل حزب البعث، يشمل البعث الصدامي المادة 7 من الدستور" كما قال طالباني، وثانيها أن هذه السياسة غير قانونية: "هل هناك فعلا هيئة للمساءلة والعدالة؟ لأنه كما عرفنا أن البرلمان لم يصادق على هيئة المساءلة والعدالة التي اقترحت على البرلمان"، كما تساءل طالباني، وثالثها، كما أضاف، أن "هنالك أكثر من حزب بعث، حزب البعث العربي الاشتراكي قيادة قطر العراق الذي يشارك القيادة القومية في سوريا هو حزب كان حليف لنا جميعا، لجميع أطراف المعارضة ... حتى في الجبل عندما أعلنا الثورة الديمقراطية العراقية المندلعة في جبال كردستان العراق سنة 1976 كانوا معنا في الجبل". وما لم يضفه طالباني هو أن لجنة القضاة السبعة التي انتخبها البرلمان المنبثق عن الاحتلال بمكوناته الطائفية التي بتت في قرارات "هيئة المساءلة والعدالة" هي بدورها لجنة مشبوهة وغير قانونية وغير دستورية وغير حيادية.
إن "اجتثاث البعث" في العراق شعار صغير هدفه أكبر كثيرا من مجرد اجتثاث حزب بعينه، فهو يستهدف الهوية العربية الإسلامية للعراق، وعلاقات العراق العربية، بقدر ما يستهدف حماية "الامتداد" الإيراني في العراق وفي غير العراق، ولأن هذا الامتداد قد امتد تحت مظلة الاحتلال الأميركي فإن من المشكوك فيه أن يستهدف الامتداد الإيراني إنهاء الاحتلال الأميركي طالما لم يرسخ جذوره في العراق رسوخا يجعله قادرا على الاستغناء عن المظلة الأميركية له، وبالتالي فإن إي علاقات عربية مع عراق يرفع شعار اجتثاث البعث إنما هي علاقات تصب في خدمة "امتداد الثورة" الإيرانية عربيا، والعكس صحيح.
في مقابلة معه نشرتها صحيفة التايمز البريطانية مؤخرا كان الجنرال ديفيد بترايوس قائد الجيش الأميركي في الشرق الوسط وشمال إفريقيا قد اتهم هيئة المساءلة والعدالة بأنها أصبحت أداة بيد فيلق القدس التابع لإيران والعامل في العراق تحت سمع قواته وبصرها، وأعرب عن أمله في أن تكون أزمة اجتثاث المرشحين للانتخابات في طريقها إلى الحل، لكن يبدو أن أمله قد خاب، اللهم إلا إذا كان قد أعرب عن أمل مضلل، كما يبدو أن كلمة إيران هي العليا في العراق اليوم، اللهم إلا إذا كانت كلمة إيران هي العليا بضوء أخضر أميركي.
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
الاثنين، فبراير 15، 2010
الثورة الإسلامية "تمتد" خارج إيران
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق