د. فايز أبو شمالة
للعطاء لذة تفوق لذة الأخذ لمن أدرك الدلالة، ولا يفقه ذلك إلا من أعطى بلا حساب، وسما بالعطاء إلى مراقي التضحية، أما من تعود على الأخذ، وقعد ملوماً كسيراً، فإنه يستهجن ذلك، ويتشكك بصدق العطاء، ويرتاب، لأنه لا يؤمن بالحياة على الأرض إلا من خلال بعدها المادي، وفي إطارها التبادلي، دون أن يستشرف حقل الروح، ويتنسم هواءه، لذا يستغرب بعض عبيد الفكر المادي وجود التضحية، ولا يصدق ما قاله إسماعيل لأبية إبراهيم، عليهما السلام، عندما همَّ ليذبحه. ويفغر بعضهم فاه، وهو يسمع عن الذي ضحى بدمه، وحياته، وسنوات عمره، وماله في سبيل الله، ودفاعاً عن الوطن، دون أن ينتظر عوضاً من بشرٍ.
والعطاء عادة، يكتسبها الإنسان بالممارسة العملية، والتجربة التي تستحثه على مزيد من العطاء، بل وتطوير هذه المقدرة على نكران الذات، وسلخها عن شهواتها المادية، إلى أن يصير العطاء سلوكاً، يملي على صاحبه مزيداً من التضحية دون تفكير، أو مراجعة لحساب الربح والخسارة، ليصير أسير العادة، لا يدقق كثيراً في نهاية المطاف، فقد وصل إليه بالروح، وحسم أمره من قبل، وألقى بحمله على من هو أكبر من صغائر الدنيا.
ولا أفضح سراً لو قلت: إن خلايا روحي تتجدد مع شباب المقاومة الفلسطينيين، الذين يعملون سراً في قطاع غزة، ويحضّرون لغدٍ آتٍ لا محالة مع عدوهم الإسرائيلي، يمارسون نشاطاً جسدياً مضنياً، وهم يشدّون عصب الروح إلى أقصى مدى، بحيث لا يصدق من له حسابات مادية على الأرض، أن بشراً يقوم بهذا العمل دون مقابل، وأن بشراً يُقْدِمٌ على كل هذه المخاطرة دون أن ينتظر كلمة شكر. فالذي آمن بالعطاء يتصرف ضمن عادة الاقتناع، بأن ما يقوم فيه من عمل يرتقي إلى مصاف القداسة، ولاسيما أنه يؤسس، ويبني، ويحضر لما سوف يحمي ما هو مقدس لديه، فإذا بالقداسة تنتقل من عمقها الروحي لتتجسد بالفعل المادي الذي يمثله العطاء، وما يتبع ذلك من كظم المعلومة، وتطوير الحس الأمني، وعشق الواجب، والمبادرة، والالتزام، والغرق في ساعات العمل دون الإحساس بالوقت، أو الانتباه إلى الزمن الذي صار مضمونه إنجاز المهمة بنجاح، دون انتظار موعد الإجازة، أو حتى الإحساس بالمرض الذي يقعد عن العمل، أو يعيق عن ممارسة لذة العطاء.
قد يسأل غبي، أو خبيث: أين هم، إن غزة تمنع إطلاق الصواريخ، وتحرس الحدود؟!
في رسالة لها؛ ذكرتني الكاتبة الفلسطينية "سوسن البرغوثي" بالجملة التي قالتها أم الشهيد "محمد فرحات"؛ المرأة التي قدمت ابنها الغالي شهيداً، قدمته، وهي تعي ما تفعل، وتدرك معاني العطاء، لتقول: قدمت الغالي للذي هو أغلى!
fshamala@yahoo.com
الاثنين، فبراير 01، 2010
لذةُ العطاءِ
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق