لؤي صافي
الفاعلية السياسية للأنظمة النيابية التي أصبحت عنصرا أساسيا في الدولة الحديثة تتحدد في قدرتها على تمثيل القوى الاجتماعية والسياسية التي يتكون منها المجتمع السياسي، ومراقبة عمل السلطة التنفيذية للتأكد من قيامها بالمسؤوليات الملقاة على كاهلها. نعم تختلف المجالس النيابية في مهامها وآليات عملها، لكنها تتفق في أنها جمعيا مسؤولة عن محاسبة السلطة التنفيذية وسن القوانين التي تحدد عملها.
الانتخابات النيابية السورية الأخيرة أظهرت أن دولة المؤسسات التي تطمح إليها الأجيال الشابة لاتزال غاية منشودة ولم تتحول بعد إلى واقع معيش. فقد كشفت النسبة المتدنية للمشاركة في الانتخابات التشريعية انعدام الثقة الشعبية في المؤسسة التشريعية. فنسبة المشاركة الفعلية وفقا لتقرير مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية لم تتجاوز 7% من المواطنين الذين يملكون حق الانتخاب. ونقل التقرير معلوماته هذه عن مصادر من وزارة الإدارة المحلية، كما أشار إلى أن قوى المعارضة حددت نسبة المشاركة في 9%. وعلى الرغم من الصورة الباهتة التي رسمها التقرير لقدرة المواطن السوري على المشاركة في أبسط النشاطات السياسية، فإنة لم يخل من بوارق أمل. فقد أشاد التقرير بتوفر "شئ من الموضوعية" في تعليقات الصحف الرسمية على الانتخابات، التي عكست "غياب الحماس الشعبي" وافتقار المرشحين إلى برامج انتخابية، واكتفائهم بشعارات فضفاضة مبهمة. المصادر الرسمية أعلنت أن نسبة المشاركين في الانتخابات بلغت 56% من الحاصلين على بطاقات الانتخابات البالغة نسبتهم 62% ممن يملك حق الانتخابات. وبالتالي لم تتجاوز نسبة المشاركة الفعلية في العملية الانتخابية حسب المصادر الرسمية 35% من الناخبين السوريين.
عجز مجلس الشعب السوري عن اكتساب ثقة الناخبين والقيام بالمهام المنوطة به، والذي انعكس في الموقف الشعبي من العملية الانتخابية، تدعونا إلى التساؤل عن العلاقة بين الشكل والوظيفة، وبين البعدين الإجرائي والمضموني في المؤسسة النيابية. كما يدعونا إلى السؤال عن مدى ارتباط بنية المجلس بالممارسة السياسية، وأثر ذلك على قوة النظام السياسي ومنعته وتطوره. فقوة أي نظام سياسي تتأتى من قدرته على تعبئة الطاقات السكانية وتنمية القدرات الفنية والمالية وتوظيفها في عملية البناء والإصلاح. لذلك فإن النظام السياسي الناجع هو الذي يوفر الفرص ويقدم إلى مواقع القيادة والقرار أصحاب الكفاءة والإخلاص، الحريصين على بناء الدولة والمجتمع والاستفادة من كل الطاقات الوطنية دون تمييز على أساس دين أوطائفة أو محسوبية أو إقليم. وهذا لا يتم إلا من خلال توفر آليات المراقبة الشعبية والإعلامية للمؤسسات الرسمية والمحاسبة القضائية والدستورية لكل من تخول له نفسه ترجيح مصالحه وأغراضه فوق المصلحة العامة والقانون المعتمد. تمكين المواطن من تحدي التجاوزات ومحاربة الفساد شرط ضروري للحيلولة دون استشراء الفساد في أجهزة الدولة وسلب المجتمع من عناصر القوة والنمو. فخطر انتشار الفساد الإداري في أجهزة الدولة كخطر انتشار السوس في جزع الشجرة واغصانها، فكلاهما يستشريان في الجسم المصاب ببطئ بعيدا عن الأنظارخلال سنوات الهدوء والأمان، ولا يتكشف خطرهما إلا في زمن العواصف والاضطراب بعد فوات الأوان.
ضعف المشاركة السياسية في العملية السياسية لا تعنى بأي حال بأن النظام السياسي السوري يواجه معارضة شعبية واسعة. فالنظام السوري استطاع خلال العقود الأربعة الماضية من تحقيق استقرار سياسي داخلي وخارجي. فقد تمكن النظام السياسي في مطلع السبعينيات من القرن الماضي من انهاء الأضطراب السياسي المزمن منذ استقلال سوريا عن الوصاية الفرنسية ووضع نهاية لسلسلة الانقلابات العسكرية. كما استطاع النظام من اعتماد سياسية خارجية جنبت سوريا القلاقل التي واجهت العديد من دول المنطقة مع المحافظة على استقلالية القرار السياسي. فقد استطاعت القيادة السياسية السورية على سبيل المثال تجاوز الضغوط الأمريكية الأخيرة عبر الإنسحاب من لبنان والاستمرار في خيارها الاستراتيجي بالتحالف مع إيران. في حين أخفقت المعارضة السياسية—خاصة المتواجدة منها في الخارج—من تحقيق النتائج التي راهنت عليها من خلال البناء على الخطاب الأمريكي الرسمي الداعم للتحول الديمقراطي في المنظقة. وهذا يفسر تماهي الموقف الشعبي السوري والعربي مع الخيارات الاسترتيجية الخارجية للقيادة السورية المشددة على استقلال المنطقة عن الهيمنة الغربية، ووقوفه موقف المتردد من خطاب المعارضة في الداخل والمتوجس من ائتلافات المعارضة في الخارج.
الأخطار الخارجية من جهة، وغياب منابر سياسية مستقلة وفاعلة من جهة أخرى، جعل الهاجس المعيشي والمالي الهاجس الأول للمواطن السوري، كما جعل التنمية الاقتصادية والتجارية الأولوية العليا في العملية الإصلاحية التي قادها الرئيس بشار الأسد خلال ولايته الأولى. ولقد أدت خطوات الإصلاح الإداري والمالي إلى تعديلات محسوسة في البنية التعليمية بعد ظهور عدد من الجامعات الخاصة تسعى إلى رفع مستوى التعليم الجامعي بعد أن أضعفته سياسات الاستيعاب. كما أتاحت المقاربة الاقتصادية الجديد، القائمة على التحرير الموجه للاقتصاد المحلي ودخول المصارف الأهلية وخصصة التوزيع التجاري والمشاريع الصناعية، فرصا جديدة لمبادرات أهلية بعيدة عن هيمنة النظام الديواني (البيروقراطي) المتضخم والمتراخي. بيد أن الانفتاح الاقتصادي المرتبط بالهم التنموي لا يمكن أن يؤدي إلى تحقيق الانتعاش الاقتصادي و توفير الفرص للأجيال الشابة في غياب الرقابة الشعبية والإعلامية. بل يمكن لهذا الانفتاح أن يتحول إلى مصدر للاضطراب الاجتماعي والسياسي الداخلي إذا اقترن بالفساد الإداري، وسوء استخدام المؤسسات المالية، وإذا تحولت الجامعات الخاصة إلى مؤسسات تجارية بحتة تحركها الرغبة بالربح السريع، ومطية لابناء الطبقة الميسرة للوصول إلى مواقع السلطة والثروة.
يعتقد البعض أن الاستقرار السياسي الذي حققة النظام خلال العقود الماضية ناجم عن إحكام قبضة الأجهزة الأمنية على المجتمع المدني. وهذه في تقديري قراءة مجتزءة لأسباب الاستقرار. نعم، وضع النظام السوري الهاجس الأمني على رأس قائمة أولولياته خلال عهد الرئيس حافظ الأسد، واعتمد على الجهاز الأمني لتحقيق الاستقرار السياسي. لكن النظام استطاع في الوقت ذاته توسيع دائرة الطبقة الوسطى في البلاد وذلك بتقليل الفوارق المعيشية بين أبناء المدن والقرى، وتحسين الأوضاع الاجتماعية والتعليمية، وتوفير فرص التعليم العالي من خلال سياسات الاستيعاب الجامعي. الانفتاح الاقتصادي الحالي يمكن أن يؤدي إلى تفاوت كبير في متوسط الدخل بين النخب السياسية والتجارية من جهة والأغلبية الشعبية، وإلى اختفاء الطبقة المتوسطة وتحول الموطنين السوريين إلى أقلية منعمة وأغلبية حرومة. مثل هذا التحول قمين بإضعاف التماسك الداخلي للمجتمع السوري وإجهاض التنمية الاقتصادي وتهديد الأمن القومي.
يقودنا الطرح السابق إلى الحديث عن هاجس أمن الدولة السورية، وهو هاجس حقيقي في سياق الاضطرابات السياسية التي تحيق بسوريا من كل جانب، والتي أن تزاد حدتها مع اهتزاز أمن إسرائيل ورغبة الدولة العبرية والقوى التي تدعمها في الغرب إلى حماية وجودها بزعزعة أمن الدول المحيطة بها. أمن الدولة السورية يرتبط مباشرة بقوة المواطن وشعوره بالمسؤولية تجاه حرية الوطن وسيادته والتزامه بقوته ومناعته. هذا الشعور بالمسؤولية مرتبط بمشاركة المواطن الحقيقية في الحياة السياسية، واستشعاره أنه شريك في الوطن يتمتع بالحقوق ويتحمل الواجبات. لقد أستطاعت القوى المتربصة بدول المنطقة من زعزعة أركان الدولة العراقية لانعدام التضامن الداخلي، بعد أن حول صدام حسين جزءا كبيرا من الشعب العراقي إلى مجموعة سكانية مضطهدة وجدت في التدخل الخارجي مخرجا من حالة القهر، لتكتوي اليوم في نار الاقتتال الطائفي والحرب الأهلية. كذلك يجد المتربصون في الانقسامات السياسية والصراع الداخلي في لبنان مدخلا لإضعاف لبنان وتأجيج الخلاف بين القوى السياسية. ولولا وعي القوى الأساسية بخطر الاقتتال وشعورها بالمسؤولية لاشتعلت نار الفتنة الطائفية منذ أشهر. إن أمن الدولة لا يتحقق على المدى الطويل إلى من خلال التضامن الداخلي وشعور المواطن بالمسؤولية الأخلاقية الوطنية لحماية الأمن العام من دعاة العنف الداخلي وعدوان أصحاب المطامع في الخارج.
الولاء الحقيقي للقيادة والوطن لا يتحقق بكيل المديح وإخفاء العيوب، بل يتجلى من خلال النصيحة الصادقة والنقد البناء وتحديد الأخطاء وتقديم البدائل والحلول. وأمن الدولة الحقيقي يتطلب مواجهة الفساد، وسوء الإدارة، وتضييع الموارد البشرية والمالية للبلاد. وهو لذلك يتطلب مجلسا نيابيا قادرا على مراقبة المؤسسات التنفيذية والحيلولة دون استشراء الفساد فيها، وقادرا كذلك على سماع أصوات النقادة واستيعاب قوى وطنية معارضة تسعى إلى الإصلاح والتنمية من داخل مؤسسات الدولة والمجتمع. كما يتطلب وجود قضاء نزيه ومستقل يلقى احترام الجميع، ويملك القدر على إعادة الحقوق وردع المسيئين للمصلحة العامة. ومسؤولية تطوير المؤسسة التشريعية ليست فقط مسؤولية النواب، بل هي مسؤولية الجميع بدءا من القيادات السياسية الرسمية والحزبية.
وهذا ما يدعوني إلى التأكيد على أن الاستقرار والتنمية وأمن الدولة ليست هواجس متصارعة، بل هموم متداخلة يرتبط كل منها بالآخر. فلا تنمية اقتصادية بدون استقرار، ولا استقرار بدون أمن، ولا أمن بدون تنمية وعي سياسي يقود إلى المشاركة الحقيقية في الحياة السياسية وفي بناء الدولة والمجتمع.
د. لؤي صافي – أستاذ العلوم السياسية والإدارية، ورئيس مجلس الكونغرس السوري الأمريكي. ألف العديد من الكتب والدراسات باللغتين العربية والانكليزية، في قضايا التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
الفاعلية السياسية للأنظمة النيابية التي أصبحت عنصرا أساسيا في الدولة الحديثة تتحدد في قدرتها على تمثيل القوى الاجتماعية والسياسية التي يتكون منها المجتمع السياسي، ومراقبة عمل السلطة التنفيذية للتأكد من قيامها بالمسؤوليات الملقاة على كاهلها. نعم تختلف المجالس النيابية في مهامها وآليات عملها، لكنها تتفق في أنها جمعيا مسؤولة عن محاسبة السلطة التنفيذية وسن القوانين التي تحدد عملها.
الانتخابات النيابية السورية الأخيرة أظهرت أن دولة المؤسسات التي تطمح إليها الأجيال الشابة لاتزال غاية منشودة ولم تتحول بعد إلى واقع معيش. فقد كشفت النسبة المتدنية للمشاركة في الانتخابات التشريعية انعدام الثقة الشعبية في المؤسسة التشريعية. فنسبة المشاركة الفعلية وفقا لتقرير مركز دمشق للدراسات النظرية والحقوق المدنية لم تتجاوز 7% من المواطنين الذين يملكون حق الانتخاب. ونقل التقرير معلوماته هذه عن مصادر من وزارة الإدارة المحلية، كما أشار إلى أن قوى المعارضة حددت نسبة المشاركة في 9%. وعلى الرغم من الصورة الباهتة التي رسمها التقرير لقدرة المواطن السوري على المشاركة في أبسط النشاطات السياسية، فإنة لم يخل من بوارق أمل. فقد أشاد التقرير بتوفر "شئ من الموضوعية" في تعليقات الصحف الرسمية على الانتخابات، التي عكست "غياب الحماس الشعبي" وافتقار المرشحين إلى برامج انتخابية، واكتفائهم بشعارات فضفاضة مبهمة. المصادر الرسمية أعلنت أن نسبة المشاركين في الانتخابات بلغت 56% من الحاصلين على بطاقات الانتخابات البالغة نسبتهم 62% ممن يملك حق الانتخابات. وبالتالي لم تتجاوز نسبة المشاركة الفعلية في العملية الانتخابية حسب المصادر الرسمية 35% من الناخبين السوريين.
عجز مجلس الشعب السوري عن اكتساب ثقة الناخبين والقيام بالمهام المنوطة به، والذي انعكس في الموقف الشعبي من العملية الانتخابية، تدعونا إلى التساؤل عن العلاقة بين الشكل والوظيفة، وبين البعدين الإجرائي والمضموني في المؤسسة النيابية. كما يدعونا إلى السؤال عن مدى ارتباط بنية المجلس بالممارسة السياسية، وأثر ذلك على قوة النظام السياسي ومنعته وتطوره. فقوة أي نظام سياسي تتأتى من قدرته على تعبئة الطاقات السكانية وتنمية القدرات الفنية والمالية وتوظيفها في عملية البناء والإصلاح. لذلك فإن النظام السياسي الناجع هو الذي يوفر الفرص ويقدم إلى مواقع القيادة والقرار أصحاب الكفاءة والإخلاص، الحريصين على بناء الدولة والمجتمع والاستفادة من كل الطاقات الوطنية دون تمييز على أساس دين أوطائفة أو محسوبية أو إقليم. وهذا لا يتم إلا من خلال توفر آليات المراقبة الشعبية والإعلامية للمؤسسات الرسمية والمحاسبة القضائية والدستورية لكل من تخول له نفسه ترجيح مصالحه وأغراضه فوق المصلحة العامة والقانون المعتمد. تمكين المواطن من تحدي التجاوزات ومحاربة الفساد شرط ضروري للحيلولة دون استشراء الفساد في أجهزة الدولة وسلب المجتمع من عناصر القوة والنمو. فخطر انتشار الفساد الإداري في أجهزة الدولة كخطر انتشار السوس في جزع الشجرة واغصانها، فكلاهما يستشريان في الجسم المصاب ببطئ بعيدا عن الأنظارخلال سنوات الهدوء والأمان، ولا يتكشف خطرهما إلا في زمن العواصف والاضطراب بعد فوات الأوان.
ضعف المشاركة السياسية في العملية السياسية لا تعنى بأي حال بأن النظام السياسي السوري يواجه معارضة شعبية واسعة. فالنظام السوري استطاع خلال العقود الأربعة الماضية من تحقيق استقرار سياسي داخلي وخارجي. فقد تمكن النظام السياسي في مطلع السبعينيات من القرن الماضي من انهاء الأضطراب السياسي المزمن منذ استقلال سوريا عن الوصاية الفرنسية ووضع نهاية لسلسلة الانقلابات العسكرية. كما استطاع النظام من اعتماد سياسية خارجية جنبت سوريا القلاقل التي واجهت العديد من دول المنطقة مع المحافظة على استقلالية القرار السياسي. فقد استطاعت القيادة السياسية السورية على سبيل المثال تجاوز الضغوط الأمريكية الأخيرة عبر الإنسحاب من لبنان والاستمرار في خيارها الاستراتيجي بالتحالف مع إيران. في حين أخفقت المعارضة السياسية—خاصة المتواجدة منها في الخارج—من تحقيق النتائج التي راهنت عليها من خلال البناء على الخطاب الأمريكي الرسمي الداعم للتحول الديمقراطي في المنظقة. وهذا يفسر تماهي الموقف الشعبي السوري والعربي مع الخيارات الاسترتيجية الخارجية للقيادة السورية المشددة على استقلال المنطقة عن الهيمنة الغربية، ووقوفه موقف المتردد من خطاب المعارضة في الداخل والمتوجس من ائتلافات المعارضة في الخارج.
الأخطار الخارجية من جهة، وغياب منابر سياسية مستقلة وفاعلة من جهة أخرى، جعل الهاجس المعيشي والمالي الهاجس الأول للمواطن السوري، كما جعل التنمية الاقتصادية والتجارية الأولوية العليا في العملية الإصلاحية التي قادها الرئيس بشار الأسد خلال ولايته الأولى. ولقد أدت خطوات الإصلاح الإداري والمالي إلى تعديلات محسوسة في البنية التعليمية بعد ظهور عدد من الجامعات الخاصة تسعى إلى رفع مستوى التعليم الجامعي بعد أن أضعفته سياسات الاستيعاب. كما أتاحت المقاربة الاقتصادية الجديد، القائمة على التحرير الموجه للاقتصاد المحلي ودخول المصارف الأهلية وخصصة التوزيع التجاري والمشاريع الصناعية، فرصا جديدة لمبادرات أهلية بعيدة عن هيمنة النظام الديواني (البيروقراطي) المتضخم والمتراخي. بيد أن الانفتاح الاقتصادي المرتبط بالهم التنموي لا يمكن أن يؤدي إلى تحقيق الانتعاش الاقتصادي و توفير الفرص للأجيال الشابة في غياب الرقابة الشعبية والإعلامية. بل يمكن لهذا الانفتاح أن يتحول إلى مصدر للاضطراب الاجتماعي والسياسي الداخلي إذا اقترن بالفساد الإداري، وسوء استخدام المؤسسات المالية، وإذا تحولت الجامعات الخاصة إلى مؤسسات تجارية بحتة تحركها الرغبة بالربح السريع، ومطية لابناء الطبقة الميسرة للوصول إلى مواقع السلطة والثروة.
يعتقد البعض أن الاستقرار السياسي الذي حققة النظام خلال العقود الماضية ناجم عن إحكام قبضة الأجهزة الأمنية على المجتمع المدني. وهذه في تقديري قراءة مجتزءة لأسباب الاستقرار. نعم، وضع النظام السوري الهاجس الأمني على رأس قائمة أولولياته خلال عهد الرئيس حافظ الأسد، واعتمد على الجهاز الأمني لتحقيق الاستقرار السياسي. لكن النظام استطاع في الوقت ذاته توسيع دائرة الطبقة الوسطى في البلاد وذلك بتقليل الفوارق المعيشية بين أبناء المدن والقرى، وتحسين الأوضاع الاجتماعية والتعليمية، وتوفير فرص التعليم العالي من خلال سياسات الاستيعاب الجامعي. الانفتاح الاقتصادي الحالي يمكن أن يؤدي إلى تفاوت كبير في متوسط الدخل بين النخب السياسية والتجارية من جهة والأغلبية الشعبية، وإلى اختفاء الطبقة المتوسطة وتحول الموطنين السوريين إلى أقلية منعمة وأغلبية حرومة. مثل هذا التحول قمين بإضعاف التماسك الداخلي للمجتمع السوري وإجهاض التنمية الاقتصادي وتهديد الأمن القومي.
يقودنا الطرح السابق إلى الحديث عن هاجس أمن الدولة السورية، وهو هاجس حقيقي في سياق الاضطرابات السياسية التي تحيق بسوريا من كل جانب، والتي أن تزاد حدتها مع اهتزاز أمن إسرائيل ورغبة الدولة العبرية والقوى التي تدعمها في الغرب إلى حماية وجودها بزعزعة أمن الدول المحيطة بها. أمن الدولة السورية يرتبط مباشرة بقوة المواطن وشعوره بالمسؤولية تجاه حرية الوطن وسيادته والتزامه بقوته ومناعته. هذا الشعور بالمسؤولية مرتبط بمشاركة المواطن الحقيقية في الحياة السياسية، واستشعاره أنه شريك في الوطن يتمتع بالحقوق ويتحمل الواجبات. لقد أستطاعت القوى المتربصة بدول المنطقة من زعزعة أركان الدولة العراقية لانعدام التضامن الداخلي، بعد أن حول صدام حسين جزءا كبيرا من الشعب العراقي إلى مجموعة سكانية مضطهدة وجدت في التدخل الخارجي مخرجا من حالة القهر، لتكتوي اليوم في نار الاقتتال الطائفي والحرب الأهلية. كذلك يجد المتربصون في الانقسامات السياسية والصراع الداخلي في لبنان مدخلا لإضعاف لبنان وتأجيج الخلاف بين القوى السياسية. ولولا وعي القوى الأساسية بخطر الاقتتال وشعورها بالمسؤولية لاشتعلت نار الفتنة الطائفية منذ أشهر. إن أمن الدولة لا يتحقق على المدى الطويل إلى من خلال التضامن الداخلي وشعور المواطن بالمسؤولية الأخلاقية الوطنية لحماية الأمن العام من دعاة العنف الداخلي وعدوان أصحاب المطامع في الخارج.
الولاء الحقيقي للقيادة والوطن لا يتحقق بكيل المديح وإخفاء العيوب، بل يتجلى من خلال النصيحة الصادقة والنقد البناء وتحديد الأخطاء وتقديم البدائل والحلول. وأمن الدولة الحقيقي يتطلب مواجهة الفساد، وسوء الإدارة، وتضييع الموارد البشرية والمالية للبلاد. وهو لذلك يتطلب مجلسا نيابيا قادرا على مراقبة المؤسسات التنفيذية والحيلولة دون استشراء الفساد فيها، وقادرا كذلك على سماع أصوات النقادة واستيعاب قوى وطنية معارضة تسعى إلى الإصلاح والتنمية من داخل مؤسسات الدولة والمجتمع. كما يتطلب وجود قضاء نزيه ومستقل يلقى احترام الجميع، ويملك القدر على إعادة الحقوق وردع المسيئين للمصلحة العامة. ومسؤولية تطوير المؤسسة التشريعية ليست فقط مسؤولية النواب، بل هي مسؤولية الجميع بدءا من القيادات السياسية الرسمية والحزبية.
وهذا ما يدعوني إلى التأكيد على أن الاستقرار والتنمية وأمن الدولة ليست هواجس متصارعة، بل هموم متداخلة يرتبط كل منها بالآخر. فلا تنمية اقتصادية بدون استقرار، ولا استقرار بدون أمن، ولا أمن بدون تنمية وعي سياسي يقود إلى المشاركة الحقيقية في الحياة السياسية وفي بناء الدولة والمجتمع.
د. لؤي صافي – أستاذ العلوم السياسية والإدارية، ورئيس مجلس الكونغرس السوري الأمريكي. ألف العديد من الكتب والدراسات باللغتين العربية والانكليزية، في قضايا التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق