الكولونيل شربل بركات
يقول البعض أن التاريخ يعيد نفسه وبأنه يسير دوما في مسارات دائرية. ومن يتطلع اليوم إلى الماضي القريب، أي إلى السبعينات من القرن الماضي، يشهد أن مشاكل هذه المرحلة من تاريخ لبنان كانت قد بدأت في المخيمات ومحاولة جعلها دولا مستقلة عن سلطة الدولة، تتسلح وتتحضر بدون رقيب أو حسيب، وتحاكم وتنفذ بدون ضوابط أو قوانين، وهي تسيّر من قبل مخابرات الدول المجاورة خاصة الشقيقة سوريا. لبنان يومها لم يحزم أمره، فانتشرت شريعة الغاب وسيطرت على الكل، وكانت نتائجها ثلاثون وأكثر من العجاف تقدمت المنطقة فيها ولبنان واقف ينتظر، مرة قرار الأبوات، وأخرى رأي الأسياد والأشقاء، ورابعة فتاوى الجماعات العائدة من غياهب التاريخ وأغواره، ولكنه كان يخسر بسبب ذلك كل يوم، خيرة شبابه وطليعة طاقاته وجل الخبرات التي جمّعها من خلال تاريخه الطويل في تعاون الجماعات وتداخل الثقافات وتفاعل الحضارات.
لبنان اليوم يخوض معركة جديدة قديمة في فرض الأمن على جماعة تتلطى بأحد المخيمات، فهل يعيد التاريخ نفسه أم أن دائرة التاريخ تلك يجب أن تنغلق في نفس المكان الذي بدأت فيه وبنفس الظروف والعوامل؟
صحيح أن من ينظر إلى أحداث اليوم مقارنة مع ما كان يجري في السبعينات يجدها متشابهة في الشكل، ولكن العمق يختلف. فاللبنانيون لم ينسوا ثلاثين سنة ونيّف من العنف، لا بل إن هذه السنوات بالذات، والخبرة التي أخذوها منها، هي التي ستشكل الحصانة من الوقوع في نفس الخطأ وتكرار التجربة الصعبة. والفلسطينيون أيضا، سكان المخيمات في لبنان، الذين كانوا حلموا فيما مضى بالثورة لتعيد لهم الوطن السليب، فأمضوا العمر في القتل والتهجير، وقضوا تحت نيران الفوضى وأسلحة الأشقاء أكثر بكثير مما قضوا في مواجهات مع من يسمونه العدو، ووجدوا أن عرفات نفسه لم يصبح رئيس دولة فلسطين إلا يوم وضع البندقية جانبا وبدأ بالتفاوض، ويا ليته تركها إلى الأبد واندفع بكليته للبناء بدل الحلم من جديد بثورة، ولو كانت من الحجارة، لكانت فلسطين اليوم وعلى صغرها إحدى دول المنطقة التي يتمنى المرء أن يعيش فيها ويخطط للمساهمة في مشاريعها العمرانية.
اللبنانيون والفلسطينيون اليوم ليسوا لبنانيو السبعينات ولا فلسطينيوها، لقد تعلم الجميع الدرس، ولكن ذلك المتعجرف الذي يعتبر وجماعته بأن اللعب على العواطف الوطنية أحيانا والقومية أخرى هي لعبتهم وحدهم، واستغلال الإرهاب وسيلة لابتزاز الدول سلاحهم القاطع، يبدو بأنه لن يعرف كيف يلتحق بالركب وسوف يدفع ثمن أفعاله دون شك.
اللبنانيون اليوم يجمعون على موقف داعم للجيش لفرض الأمن، ليتهم اعتمدوه في السبعينات، لوفروا كل المآسي وثلاثين سنة من الحقد الغير مبرر. والفلسطينيون يبدون أكثر تفهما، بعد كل الحروب التي نفذت بهم وعليهم، بأن على الضيف واجب تجاه صاحب البيت ربما أكبر مما على صاحب البيت تجاهه. من هنا يبدو بأن الاصطياد بالماء العكر من قبل النظام الذي يعتقد أن القوة والعنف أسلحة يعرف وحده كيف يديرها، سينقلب عليه وعلى كل أدواته فلن يحصد من يزرع الريح، ولو بعد زمن، إلا العاصفة.
يعتقد السوريون بأن العالم الواقف خلف لبنان هو مجرد وهم ومجرد سراب لا بد أن يسقط تحت ضربات "المجاهدين" الذين ينتجونهم ويستعملونهم ويدربونهم ويدفعون بهم لقتل الناس تنفيذا لمآربهم، ولكنهم لا يعلمون بأن لبنان هذا الذي استعملوه واستغلوه وقتلوا أبناءه قد استفاق من الغيبوبة وبدأ يستعيد وعيه وإدراكه. لبنان هذا الذي جرحوه في الصميم لن يغفر لهم زلاتهم ولن تنطلي عليه ألاعيبهم ولن يهاب تهديداتهم بعد اليوم فلا يلسع العاقل من الجحر أكثر من مرة.
لقد اعتقدوا أن ضرب الرأس سيشتت القطيع كما اعتادوا، ولكنهم بقتلهم بطل "جبال الصوان" هذه المرة لم يخضعوها، فتحت كل صخرة قد ولد بالفعل ولد "لمدلج" وما أكثر الذين يشبهون "مدلج" وأولاد "مدلج" في هذا الزمن وفي هذا الوطن.
لقد جربوا القضاء على كل زعيم محبوب، وقتل كل صحافي حر، ثم هددوا بالفتنة وحركوا الأزلام وأرسلوا الرسائل المفخخة وقطعوا الأرزاق وأغلقوا المعابر، لكن الطائر المجروح لم ينثن ولم يستسلم بل انطلق يفتش عن دعم في الكون الواسع وإذا بالعالم يهب لنصرته وتتتالى القرارات الدولية وتنغلق الدوائر على ذلك المتغطرس وأعوانه.
ما يجري اليوم في مخيم نهر البارد هو بحق قيامة لبنان الدولة القادرة على قمع الفتن وأصحابها، وعلى نشر الأمن في الربوع، وعلى دعم الاستقرار. ولن تكون فوضى بعد اليوم لأن لبنان ليس وحيدا في مواجهته للديكتاتوريين المتغطرسين ولعملائهم القتلة المتخفين تحت كل ثوب وجبة والمتنقلين بين كل المناطق والفئات.
لبنان القادر والحكيم، لبنان القائم للمرة الألف من رماده، سيعجل دون شك في سقوط آخر الأقنعة وآخر الأنظمة الديكتاتورية، أشاء ذلك أم أبى، لأن هؤلاء قد أعطوا من الأسباب ليتعظوا فما فعلوا، ومن الوقت ليرتدعوا فما شاؤوا، وإن الله بحق يمهل ولا يهمل وهو على كل شيء قدير.
يبقى أن وحدة اللبنانيين في دعم الجيش يجب أن يتبعها وعي للحفاظ على النظام الديمقراطي الذي يفاخرون به ومن هذا المنطلق عليهم أن يسهموا في استتباب الأمن بتسليم الكل بأن الدولة وحدها من يتعاطى بالشأن العسكري وبالسلاح وكل عمليات الدفاع عن الوطن فلا تفرض المساهمة بذلك فرضا ولا يزج بالوطن في معارك يخترعها من يشاء وساعة يشاء ومن أجل مصالح الغير، لأن الأوطان ليست سلعا للبيع ولا أرضا للإيجار ولا مادة للمغامرة. ومن جهة أخرى فالمؤسسات هي من يحفظ الاستمرارية للتناوب على السلطة بالشكل وبالفعل وهي ليست موضوع تجاذب وتناحر نستعملها ساعة نشاء ونمنع الغير من استعمالها. يجب أن يفهم اللبنانيون العائدون إلى الوطن من سلطة الوصاية وأجواء الديكتاتورية بأن العالم يعرف القواعد والأصول ولا يمكننا أن نستغشم أحدا ونفصل الأثواب على قياسنا وأن الفاجر لن يأكل مال التاجر في كل مرة ويزمط بريشه.
أخيرا يصان الوطن عندما تصان حدوده ويفرض فيه القانون وينتشر الأمن في ربوعه ويتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات فيستقر ويبدأ بالعمران وتدب الحياة فيه، ولن يقوم وطن حدوده سائبة ومشرعة لا يعترف به جيرانه ويتبادلون معه التمثيل الديبلوماسي وأمنه قائم بالتراضي وتكثر فيه العصابات والجماعات المسلحة والمليشيات الحزبية والجزر والمربعات الأمنية الممنوعة على الدولة وأجهزتها والتي تشكل أفضل مرتع للمجرمين وآمن مكان لرجال المخابرات. من هنا نأمل أن تكون عملية البارد الحاسمة والتي نتمنى أن تنتهي سريعا وتنهي آلام الناس بأقل خسائر في الأرواح وتقطع دابر الجريمة، مدخلا لنظام جديد وإرادة قوية ووضوح رؤية وعزم ثابت على متابعة مشروع بناء الدولة القادرة الدولة التي تتعامل بالند مع الكل وتحافظ على كرامة الناس والتي تمتلك رؤية لا عواطف وعندها حلول لكل المشاكل لا تمنيات وهي لا تخجل من الإقدام عند الحاجة ولا تساير على حساب مواطنيها مهما كان السبب.
كندا/تورونتو
يقول البعض أن التاريخ يعيد نفسه وبأنه يسير دوما في مسارات دائرية. ومن يتطلع اليوم إلى الماضي القريب، أي إلى السبعينات من القرن الماضي، يشهد أن مشاكل هذه المرحلة من تاريخ لبنان كانت قد بدأت في المخيمات ومحاولة جعلها دولا مستقلة عن سلطة الدولة، تتسلح وتتحضر بدون رقيب أو حسيب، وتحاكم وتنفذ بدون ضوابط أو قوانين، وهي تسيّر من قبل مخابرات الدول المجاورة خاصة الشقيقة سوريا. لبنان يومها لم يحزم أمره، فانتشرت شريعة الغاب وسيطرت على الكل، وكانت نتائجها ثلاثون وأكثر من العجاف تقدمت المنطقة فيها ولبنان واقف ينتظر، مرة قرار الأبوات، وأخرى رأي الأسياد والأشقاء، ورابعة فتاوى الجماعات العائدة من غياهب التاريخ وأغواره، ولكنه كان يخسر بسبب ذلك كل يوم، خيرة شبابه وطليعة طاقاته وجل الخبرات التي جمّعها من خلال تاريخه الطويل في تعاون الجماعات وتداخل الثقافات وتفاعل الحضارات.
لبنان اليوم يخوض معركة جديدة قديمة في فرض الأمن على جماعة تتلطى بأحد المخيمات، فهل يعيد التاريخ نفسه أم أن دائرة التاريخ تلك يجب أن تنغلق في نفس المكان الذي بدأت فيه وبنفس الظروف والعوامل؟
صحيح أن من ينظر إلى أحداث اليوم مقارنة مع ما كان يجري في السبعينات يجدها متشابهة في الشكل، ولكن العمق يختلف. فاللبنانيون لم ينسوا ثلاثين سنة ونيّف من العنف، لا بل إن هذه السنوات بالذات، والخبرة التي أخذوها منها، هي التي ستشكل الحصانة من الوقوع في نفس الخطأ وتكرار التجربة الصعبة. والفلسطينيون أيضا، سكان المخيمات في لبنان، الذين كانوا حلموا فيما مضى بالثورة لتعيد لهم الوطن السليب، فأمضوا العمر في القتل والتهجير، وقضوا تحت نيران الفوضى وأسلحة الأشقاء أكثر بكثير مما قضوا في مواجهات مع من يسمونه العدو، ووجدوا أن عرفات نفسه لم يصبح رئيس دولة فلسطين إلا يوم وضع البندقية جانبا وبدأ بالتفاوض، ويا ليته تركها إلى الأبد واندفع بكليته للبناء بدل الحلم من جديد بثورة، ولو كانت من الحجارة، لكانت فلسطين اليوم وعلى صغرها إحدى دول المنطقة التي يتمنى المرء أن يعيش فيها ويخطط للمساهمة في مشاريعها العمرانية.
اللبنانيون والفلسطينيون اليوم ليسوا لبنانيو السبعينات ولا فلسطينيوها، لقد تعلم الجميع الدرس، ولكن ذلك المتعجرف الذي يعتبر وجماعته بأن اللعب على العواطف الوطنية أحيانا والقومية أخرى هي لعبتهم وحدهم، واستغلال الإرهاب وسيلة لابتزاز الدول سلاحهم القاطع، يبدو بأنه لن يعرف كيف يلتحق بالركب وسوف يدفع ثمن أفعاله دون شك.
اللبنانيون اليوم يجمعون على موقف داعم للجيش لفرض الأمن، ليتهم اعتمدوه في السبعينات، لوفروا كل المآسي وثلاثين سنة من الحقد الغير مبرر. والفلسطينيون يبدون أكثر تفهما، بعد كل الحروب التي نفذت بهم وعليهم، بأن على الضيف واجب تجاه صاحب البيت ربما أكبر مما على صاحب البيت تجاهه. من هنا يبدو بأن الاصطياد بالماء العكر من قبل النظام الذي يعتقد أن القوة والعنف أسلحة يعرف وحده كيف يديرها، سينقلب عليه وعلى كل أدواته فلن يحصد من يزرع الريح، ولو بعد زمن، إلا العاصفة.
يعتقد السوريون بأن العالم الواقف خلف لبنان هو مجرد وهم ومجرد سراب لا بد أن يسقط تحت ضربات "المجاهدين" الذين ينتجونهم ويستعملونهم ويدربونهم ويدفعون بهم لقتل الناس تنفيذا لمآربهم، ولكنهم لا يعلمون بأن لبنان هذا الذي استعملوه واستغلوه وقتلوا أبناءه قد استفاق من الغيبوبة وبدأ يستعيد وعيه وإدراكه. لبنان هذا الذي جرحوه في الصميم لن يغفر لهم زلاتهم ولن تنطلي عليه ألاعيبهم ولن يهاب تهديداتهم بعد اليوم فلا يلسع العاقل من الجحر أكثر من مرة.
لقد اعتقدوا أن ضرب الرأس سيشتت القطيع كما اعتادوا، ولكنهم بقتلهم بطل "جبال الصوان" هذه المرة لم يخضعوها، فتحت كل صخرة قد ولد بالفعل ولد "لمدلج" وما أكثر الذين يشبهون "مدلج" وأولاد "مدلج" في هذا الزمن وفي هذا الوطن.
لقد جربوا القضاء على كل زعيم محبوب، وقتل كل صحافي حر، ثم هددوا بالفتنة وحركوا الأزلام وأرسلوا الرسائل المفخخة وقطعوا الأرزاق وأغلقوا المعابر، لكن الطائر المجروح لم ينثن ولم يستسلم بل انطلق يفتش عن دعم في الكون الواسع وإذا بالعالم يهب لنصرته وتتتالى القرارات الدولية وتنغلق الدوائر على ذلك المتغطرس وأعوانه.
ما يجري اليوم في مخيم نهر البارد هو بحق قيامة لبنان الدولة القادرة على قمع الفتن وأصحابها، وعلى نشر الأمن في الربوع، وعلى دعم الاستقرار. ولن تكون فوضى بعد اليوم لأن لبنان ليس وحيدا في مواجهته للديكتاتوريين المتغطرسين ولعملائهم القتلة المتخفين تحت كل ثوب وجبة والمتنقلين بين كل المناطق والفئات.
لبنان القادر والحكيم، لبنان القائم للمرة الألف من رماده، سيعجل دون شك في سقوط آخر الأقنعة وآخر الأنظمة الديكتاتورية، أشاء ذلك أم أبى، لأن هؤلاء قد أعطوا من الأسباب ليتعظوا فما فعلوا، ومن الوقت ليرتدعوا فما شاؤوا، وإن الله بحق يمهل ولا يهمل وهو على كل شيء قدير.
يبقى أن وحدة اللبنانيين في دعم الجيش يجب أن يتبعها وعي للحفاظ على النظام الديمقراطي الذي يفاخرون به ومن هذا المنطلق عليهم أن يسهموا في استتباب الأمن بتسليم الكل بأن الدولة وحدها من يتعاطى بالشأن العسكري وبالسلاح وكل عمليات الدفاع عن الوطن فلا تفرض المساهمة بذلك فرضا ولا يزج بالوطن في معارك يخترعها من يشاء وساعة يشاء ومن أجل مصالح الغير، لأن الأوطان ليست سلعا للبيع ولا أرضا للإيجار ولا مادة للمغامرة. ومن جهة أخرى فالمؤسسات هي من يحفظ الاستمرارية للتناوب على السلطة بالشكل وبالفعل وهي ليست موضوع تجاذب وتناحر نستعملها ساعة نشاء ونمنع الغير من استعمالها. يجب أن يفهم اللبنانيون العائدون إلى الوطن من سلطة الوصاية وأجواء الديكتاتورية بأن العالم يعرف القواعد والأصول ولا يمكننا أن نستغشم أحدا ونفصل الأثواب على قياسنا وأن الفاجر لن يأكل مال التاجر في كل مرة ويزمط بريشه.
أخيرا يصان الوطن عندما تصان حدوده ويفرض فيه القانون وينتشر الأمن في ربوعه ويتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات فيستقر ويبدأ بالعمران وتدب الحياة فيه، ولن يقوم وطن حدوده سائبة ومشرعة لا يعترف به جيرانه ويتبادلون معه التمثيل الديبلوماسي وأمنه قائم بالتراضي وتكثر فيه العصابات والجماعات المسلحة والمليشيات الحزبية والجزر والمربعات الأمنية الممنوعة على الدولة وأجهزتها والتي تشكل أفضل مرتع للمجرمين وآمن مكان لرجال المخابرات. من هنا نأمل أن تكون عملية البارد الحاسمة والتي نتمنى أن تنتهي سريعا وتنهي آلام الناس بأقل خسائر في الأرواح وتقطع دابر الجريمة، مدخلا لنظام جديد وإرادة قوية ووضوح رؤية وعزم ثابت على متابعة مشروع بناء الدولة القادرة الدولة التي تتعامل بالند مع الكل وتحافظ على كرامة الناس والتي تمتلك رؤية لا عواطف وعندها حلول لكل المشاكل لا تمنيات وهي لا تخجل من الإقدام عند الحاجة ولا تساير على حساب مواطنيها مهما كان السبب.
كندا/تورونتو
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق