د. عدنان بكريه
فلسطين الداخل
أرقام لا تقبل الجمع ولا الطرح وتتحدى الضرب والتقسيم...وغير قابلة للاختزال...أرقام كتبت برصاص القلم ودمع العين ودم القلب..كتبت بالأحمر القاني المتدفق من جراح الصامدين في مخيمات اللجوء... أرقام أصبحت جزءا من الحالة الفلسطينية العامة والمؤلمة... جزءا من تاريخ شعب لم يرتكب ذنبا سوى انه أحب رمال الوطن وتراب الوطن وعَشقه كما تعشق الفراشة الطيران ... ويحن إليه كما يحن العصفور إلى عشه...أرقام أصبحت جزءا من شهقة كهل في التسعين وهو يصيح من جحيم غضبه المتفجر... يَتّمتني يا ولدي.. يَتّمتني يا بُني !! هذه هي أرقام شهداء شعبنا ... فوراء كل رقم أم باكية وأب ثاكل وطفل ميّتم وقصة تنزف دموعا ودما وألما... ومن بين هذه الأرقام (دلال) ابنة العشرين، جاءت من مخيم نازف وهتفت باسم زهر اللوز كسفيرة لكل فقراء المخيمات... وممثلة لكل أحلام العجائز ولرجال لفحت وجهوهم شمس بساتين الجليل.. لم ترَ فلسطين إلا لحظة الموت، أطلقت العنان لذاتها بأن تمارس عشقها وتعزف لحن خلودها وترقص رقصة الشهادة في طريقها إلى مسقط رأسها اللد ... تنتهي رحلتها مع الأسر بمقبرة الأرقام !!
عندما يتحول الشهيد إلى رقم سري عنوانه قبر مجهول.. ربما على قمة الكرمل فإنني متيقن من انه يشتم نسيم بحر حيفا ويرى ما نراه نحن .. ربما أكثر .. وعندما يلتقي بابيه عند (سُدرة المنتهى) حتما سيصف له ما رآه .. سيعانقه ويصرخ .. أنا أنا يا أبي.. رأيت أيامي أمامي .. سيسأله أبوه .. وكيف حال رفاقك واهلك وشعبك ؟حتما سيجيب ليسوا بخير يا أبي ! لقد صار دمنا مباحا يا أبي.. صادروا حلمنا وحقنا .. صادروا موتنا وعشقنا ...علقونا أوسمة على صدر الحاكم العربي يا ابي ..... عكا لم تعد عكا ويافا لم تعد يافا... كل شيء تغير يا أبي .. حتى طريقة موتنا تغيرت يا أبي! فللموت صار أيضا قرار !!!
نحن هنا ..نسمع أصوات الشهداء يصرخون... نحن الأرض لا تحرمونا المطر... نحن النشيد نحن الموال نحن الحجر.. نحن العنفوان الذي ما اندحر... حققنا الأمنية ونمنا هنا في ارض الوطن... شممنا رائحة الزعتر الفلسطيني والزيتون .. نمنا بحضن أمنا الأرض التي انتظرتنا طويلا .. يا ليتها كانت نومه أبدية.. لماذا التعدي على موتنا الجميل وعلى حلمنا الجميل ... ألا نستحق النوم على وسادة سريرها حجارة الوطن وحريرها تراب الجليل ... فهل يعقل أن تزعجوا الشهيد مرتين ؟ مرة حين يقتل مكبلا بأصفاد الحديد .. ومرة أخرى حين يرحّل من جديد .
"عندما يذهب الشهداء الى النوم أصحو // وأحرسهم من هواة الرِّثاء //أقول لهم تُصبحون على وطن //من سحابٍ ومن شجرٍ من سراب وماء //اُعلِّق أسماءكم أين شئتم // فناموا قليلاً وناموا على سلم الكرمة الحامضة // لأحرس أحلامكم من خناجر حُراسكم وكونوا نشيد الذي لا نشيد له//عندما تذهبون إلى النوم هذا المساء //أقول لكم تصبحون على وطن"
****
إنها العروس التي تُزف بالبزة العسكرية... أبت إلا أن تتزوج الموج وتركب البحر لتعانق يافا... وأبى الموج إلا أن يضعها على هودج العرس هنا عند الشاطئ... فقد مارست الحب تحت الشمس ولم تخجل من تسطير أحرفها بالأحمر القاني على ذاك التراب المبلل بعطر الندى... قررت أن تمضي فمضت نحو شمسها وبحرها... ما همها بعد اليوم ... فقد كان لها ماتريد وما اشتهى القلب ...عانقت يافا وعانقت التراب عناقا أبديا ... إنها ليست مجرد رقم حسابي .... فهي حبات اللؤلؤ في مسبحة شيخ يدعو الله لبزوغ فجر جديد... يهلل كل صباح ... الله اكبر الله اكبر على كل من تجبر وتكبر...إنها تاريخ امة.. وزغاريد أم تنتظر وليدها الذي خرج إلى صفد وحيفا بلا وداع أو استئذان وعاد بعد أعوام مستشهدا... إنها العودة للعودة القادمة ... إنها أمواج البحر تلاطم أسوار عكا... إنها نسائم الوطن تداعب برتقال يافا...... إنها شموخ مرتفعات صفد أنها عدد ألوان الطيف في قبة الصخرة بأرض الإسراء والمعراج ...إنها الدلال الذي لا يلين والشعلة المتوقدة التي لا تخمد ولا تلين... وراء كل رقم اسم وهوية وتاريخ شعب وأناشيد وطنيه إنها أنت وأنا ... إنها ذرات التراب المشتاقة إلى مطر نيسان إنها الغيوم المتلبد ه في سماء الوطن ... إنها الفتاة التي أزعجهم نومها عند تله في الوطن ...لقد كان لها ما اشتهت لكنهم حرموها النوم الابدي في ربوع يافا
((فنامي قليلا، يا ابنتي، نامي قليلا / كنا نعد على أصابع كفك اليسرى مسيرتنا / وُننقصها رحيلا / نامي قليلا / ، واختبئي بأغنيتي الأخيرة، يا ابنتي / وتوسديني ُكنت فحما أم نخيلا.. / نامي قليلا / وتفقدي أزهار جسمك، هل أصيبت ؟نامي قليلا / ))
***
أرقام عربيه لا تتسع لها كل موسوعات العالم... لا تتسع لامتدادها التاريخي والوجداني ...إنها زغاريد المقاثي وآلام المخاض الذي يبشر بولادة الغد القادم بأذن الله تعالى ... وراء كل رقم قصة عشق ورواية حب وزغاريد عرس وتهاليل الفرح الآتي من بعيد ... وراء كل رقم دموع وحكايا وأناشيد وطريق طويل.. وراء كل رقم... تهاليل الله اكبر الله اكبر على كل من تكبر وتجبر... الله اكبر ... وراء كل رقم من أرقام الشهداء ... دموع تنهمر وطفل يبكي وشيخ يصيح وأم تزغرد... وآمال تنبت كما البرقوق الربيعي ونرجس الجبل لكن عبقها اشد من عبق الأقحوان والزعتر البلدي .. وراء كل رقم أمل وألم وحلم وحب وتباشير تاريخ جديد.. فهل كتب على الفلسطيني أن يبقى مذبوحا من الوريد إلى الوريد ؟
dr.adnanb@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق