سامي الأخرس
بدأت من هذا الزقاق الصغير الترابي الذي يصطف على جانبيه أكواخ طينية متكدسة بجانب
بعضها البعض كطفل يلعب بالمكعبات الصغيرة ، حيث مياه الأمطار تغرق بعضاً من هذه
المنازل وكلا يحاول دحر هذا العدو الذي يتسلل إليه تحت إيقاعات البرق والرعد بليلة موحشة قائمة سوداء ، والمعركة تستمر طوال الليل ونحن لا ندرك ماذا يفعل الكبار ؟ في ساعات الليل كلا يستنجد بجاره الذي أسعفه الحظ أن السيول لم تغزو كوخه المسمى منزلا ، المصنوع من الطين والقش ليستطيع مقاومة عوامل البيئة قدر المستطاع حتى تشقشق بواكير الفجر ، ونبدأ بالبحث عن رشفة مياه تغسل الوجوه النائمة لتهرول وعلى ظهرها حقيبة مصنوعة من القماش بها دفتر وكتاب وقلم وقطعة خبز صغيرة محشوة بالزعتر الفلسطيني الآتي من جبال الضفة ، ونسير صفوفاً ومجموعات نركل حجارة المخيم ونتسابق لنتمكن من الشراء قبل دخول أبواب المدرسة من هذه العجوز التي تقف على باب المدرسة ، ومنا كثيرا من كان لا يقوى على الشراء لأنه لا يمتلك ما يشتري به ، وما بين الذهاب والعودة في رحلة القلم كنت لا أزال أتذكر من يكبروني يرددون " بي آل أو الحكم الذاتي نو " أي حكم ذاتي لا أعي ماذا يقولون ؟ ! ولم أعرف دلالة العبارة حتى كبرت ، ولكن اردد معهم ربما اعتقدت ببداهة الطفولة البسيطة أنها لعبة أو تسلية للهو ، حتى ألقي بالحقيبة القماشية وأسارع الزمن لساحة صغيرة نمارس بها لعبة كرة القدم ، بكرة بلاستيكية صغيرة ادخرنا أشهر لكي نتمكن من شرائها .
لا أدرك ما يدور حولى سوى إني عشقت الزقاق الصغير ، ومنزلي القابع على أطراف المخيم تجمعني بغرفة واحدة مع أخوتي الأربعة والثلاث بنات والأخرى هي غرفة الوالدين مع تعدد وظائفها كمطبخ وحمام ، يبدأ مع صباح يوم الجمعة من كل أسبوع ، حيث تشعل الأم النيران مع ساعات الفجر وتبدأ رحلة الاستحمام الأسبوعية من الأكبر حتى الأصغر ! وهناك تكون عملية ملاحقة أحياناً للأصغر الرافض للاستحمام حيث لا يريد أن تضيع لحظات من اللهو ، اضاقة للعقاب الذي ينتظره إذا عاد متسخ الملابس التي لا بديل عنها سوى ما نزعه في حمامه الأسبوعي .
كنت احسد من يكبرني وهم كلا معه طائرة ورقية يفتخر إنها الأعلى من طائرات الآخرين ، وانتظر أن أنمو بسرعة لامسك بهذه الطائرة العجيبة التي لم اكتشف بعد كيف تضع ، وأمضى من زقاق لآخر مع أقراني الصغار وننتقل من منزل لأخر ، ومن حارة لأخرى ، نسمع حكاية من هذا الشيخ وقصة من هذه العجوز التي تجمعنا وتغني لنا أهازيج قديمة نشتم بها مرارة اللجوء ، وحب الوطن ، لم نسمع سوى الثورة ، وفلسطين ، وفدائي ، لا اعرف ولم نسمع أن هناك أجزاء صغيرة غير هذه الكلمات ولم اعلم أن ليله الذعر الذي اقتحم بها الجيش الإسرائيلي زقاقنا ليعتقل مجموعة شباب ، وكلما سألنا قيل لنا أنهم فدائيون ، لم نعرف إنهم فتح أو جبهة شعبية ، بل فدائيون ، كلمة نمت مع نمو أجسادنا وعقولنا التي كانت تطعم بزيت السمك من الممرض " أبو يوسف " العجوز في مدارس وكالة الغوث الدولية ونمت أصداء جهاز الراديو ( المذياع ) الوحيد الذي كان يصمت المخيم كأنه في عالم أموات لا تسمع منه سوى صوت الثورة الفلسطينية ، صوت منظمة التحرير الفلسطينية من بغداد ، وعبارات أخرى لا زالت تسكن قلوبنا وذكرياتنا ، نداء نداء نداء من صقر الثورة الى فدائيو الوطن توكلوا على الله والله معكم .
لا زال الزقاق يحميني من نفسي ومن شرور زمني ، ولازال والدي رحمة الله يعود مساء ليجمعنا ويحدثنا عن أرضنا ومزارعنا وأشجارنا ، وعن طفولته ، وعن الانجليز ، وعن اليهود قصص أتذكرها يوميا ولا أزال لا اعلم لماذا نحب المخيم ؟ ونحب الزقاق ؟
كبرنا في أحضان المخيم وكبر الوطن معنا ، حتى جاءت تلك الآلة العملاقة لتضرب بكفها بيوت المخيم فتتهاوى فوق بعضها ، ونحيب النساء وبكاء الرجال الشاهد على لجوء آخر ، لجوء ألقى بنا الى حياة أكثر تطورا حيث المنازل المشيدة بالحجارة والمنازل بالكهرباء ، ولكنها لم تحمل الدفء الذي شعرنا به وسط المخيم ، وأخلاق المخيم حيث بدأ الجيران في تقاسم مناطق الحدود السكانية ، وخصوصيات لم تكن قائمة ، وبدا الانقسام الاجتماعي وبدأت رحلة التمايز بين فسطاط الأحزاب ، وفسطاط المصالح الشخصية .
نعم أصبح لدى أكثر من بنطال وقميص ، وأصبح لدى القدرة للاستحمام يوميا ، وأصبح لدينا جهاز تلفاز خاص ، وأصبح لدى كرة قدم خاصة ، ولكن لم يعد لي الحب الذي تعلمته في المخيم ، ولم تعد كلمة فدائي تسرق أفئدتي أصبحنا نخضع لجراحة الحزبية ومبضعها تشرح فينا كيفما شاءت ، فذاك فتحاوي وهذا جبهاوي وذاك حمساوي وتعددت الألوان ، وانعزلنا في رحلة حسم وتجاذب حزبي والكل يتعامل مع الآخر على قاعدة الانتماء الحزبي لا الانتماء الوطني .
مضت الأيام سريعا وتحولنا لدمى شطرنجية تحركها أصابع غليظة ، ووجوه غادرتها حمرة الأخلاق وتم التصنيف والتهديد والوعيد ، فهذا وذاك والكل شركاء في نصب أعواد المشانق ، وأضحى الجميع في حلبة لا تحتمل أكثر من بطل واحد مفتول العضلات يتوجب عليه قتل الأخر ليستأسد ويزأر، حتى تمت عملية التصنيف لثلاث أجزاء ، جزء أخذ عقابه ، وجزء عليه انتظار العقاب ، وجزء ثالث ينعم بالرضا لأنه يطيع السيد ويحنى الرأس ولا يعرف سوى كلمة" أمرك سيدي " ومن رحلة مخيمي الى مطار مدينتي مررت بكل الفرح والحزن ، الألم والابتسام ، الحزن والسعادة حتى أمسكت قلمي واستمعت لخطابات القادة ، وقرأت ما حملته الأخبار وقررت الرحيل .
رحيل أخر لا يعرفه سوى من ينتظر هنا على أبواب الماضي والحاضر ، ولكن يصطدم بأبواب موصدة بالشمع الأحمر مكتوب وسطها " المستقبل "
وأصبحت لدى سيارة وشقة واذهب لأكبر صالونات التجميل ، وأتحدث بأرقام من خانة الألوف ، وعدة أجهزة حاسوب بانترنت في منزل واحد ، وهناك غرفة للأولاد ، وغرفة للإناث ، وحساب بنكي ، ومدارس خمس نجوم ، وكل أجدد طواقم الملابس الفاخرة حتى اشتكي دولاب الملابس من كثرها ، وموكب حراس يغطي عين الشمس ، بعدما كنت أتجول وحيدا والطمأنينة تملئ قلبي ، والحب يستعمره فلا أخشى شيئاً ، ولكن الثمن كان كبير جدا ، فقدت به طمئنيني ، وفقدت اعز ما أملك من معاني الحب ، وفقدت الأصدقاء ، وفقدت وطن سكنني طويلا لاستبدله بحزباً صغيرا .. فأسلمت نفسي حبيسا لقلم وورقة وجهاز حاسوب ومكتب وغرفة بها كل أنواع الملذات والراحة .
ويبقى الأمل غائباً ، ويبقى السؤال من أنا ؟ !
أنا اللاجئ ، أم الفلسطيني ، أم الوطن ، أم الحزبي ؟ !
أم أنا من علم أنبه أن يدوس علم الوطن ورايته تحت أقدامه ، ويموت لأجل راية بلون واحد ، يقاتل ويموت من أجلها ، استعمره الانهزام والحقد وهو يتعلم النطق ، فقبل أن اعلمه فلسطيني علمته اسم الحزب .
أنها رحلة المكننة العقلية ، واستنزاف القدرات الإنسانية ، اختزال سيئ لواقع أسوا .
ويبقى الحال عما هو عليه ، وعلى المتضرر أن يتجنب الشبح والتشهير والجلد ، وومضات الكهرباء ، والعصا . وتستمر رحلة البحث والتنقيب عن وطن تاه في أزقة وصحارى الأحزاب ، وعلى من يجده أن يسلمه لأقرب موقع امني لينال عقابه خروجه بلا استئذان ، ويعاد تربيته لأنه لم يربى ، هذه هي العبارة التي أصبحت لسان الحال في زمن الغراب والبوم ، زمن الانتشار والرباط تحت نوافذ النيام ، زمن الويل لك أن ذهبت للسؤال عن ابنا أو أخاً أو حبيسا في احد المقرات الأمنية .
الرحلة رقم 1948 انتهت وسلمت نفسها لأمن المطار وحكم القاضي العسكري عليها بالإعدام ، وكذلك الرحلة رقم 1967 نالت نفس المصير ، فلم يعد لها مكان ولا زالت رحلة النهاية تخضع للإجراءات القضائية والكل في الانتظار .
رحلة طويلة وشاقة بدأت من زقاق لتنتهي بمصيف فاخر على شاطئ البحر المتوسط في شريط ساحلي مغلق اسمه الزمان والمكان بلا عنوان ........ ولا زلت أعيش في تخلفي وأتذكر مخيمي ....
بعضها البعض كطفل يلعب بالمكعبات الصغيرة ، حيث مياه الأمطار تغرق بعضاً من هذه
المنازل وكلا يحاول دحر هذا العدو الذي يتسلل إليه تحت إيقاعات البرق والرعد بليلة موحشة قائمة سوداء ، والمعركة تستمر طوال الليل ونحن لا ندرك ماذا يفعل الكبار ؟ في ساعات الليل كلا يستنجد بجاره الذي أسعفه الحظ أن السيول لم تغزو كوخه المسمى منزلا ، المصنوع من الطين والقش ليستطيع مقاومة عوامل البيئة قدر المستطاع حتى تشقشق بواكير الفجر ، ونبدأ بالبحث عن رشفة مياه تغسل الوجوه النائمة لتهرول وعلى ظهرها حقيبة مصنوعة من القماش بها دفتر وكتاب وقلم وقطعة خبز صغيرة محشوة بالزعتر الفلسطيني الآتي من جبال الضفة ، ونسير صفوفاً ومجموعات نركل حجارة المخيم ونتسابق لنتمكن من الشراء قبل دخول أبواب المدرسة من هذه العجوز التي تقف على باب المدرسة ، ومنا كثيرا من كان لا يقوى على الشراء لأنه لا يمتلك ما يشتري به ، وما بين الذهاب والعودة في رحلة القلم كنت لا أزال أتذكر من يكبروني يرددون " بي آل أو الحكم الذاتي نو " أي حكم ذاتي لا أعي ماذا يقولون ؟ ! ولم أعرف دلالة العبارة حتى كبرت ، ولكن اردد معهم ربما اعتقدت ببداهة الطفولة البسيطة أنها لعبة أو تسلية للهو ، حتى ألقي بالحقيبة القماشية وأسارع الزمن لساحة صغيرة نمارس بها لعبة كرة القدم ، بكرة بلاستيكية صغيرة ادخرنا أشهر لكي نتمكن من شرائها .
لا أدرك ما يدور حولى سوى إني عشقت الزقاق الصغير ، ومنزلي القابع على أطراف المخيم تجمعني بغرفة واحدة مع أخوتي الأربعة والثلاث بنات والأخرى هي غرفة الوالدين مع تعدد وظائفها كمطبخ وحمام ، يبدأ مع صباح يوم الجمعة من كل أسبوع ، حيث تشعل الأم النيران مع ساعات الفجر وتبدأ رحلة الاستحمام الأسبوعية من الأكبر حتى الأصغر ! وهناك تكون عملية ملاحقة أحياناً للأصغر الرافض للاستحمام حيث لا يريد أن تضيع لحظات من اللهو ، اضاقة للعقاب الذي ينتظره إذا عاد متسخ الملابس التي لا بديل عنها سوى ما نزعه في حمامه الأسبوعي .
كنت احسد من يكبرني وهم كلا معه طائرة ورقية يفتخر إنها الأعلى من طائرات الآخرين ، وانتظر أن أنمو بسرعة لامسك بهذه الطائرة العجيبة التي لم اكتشف بعد كيف تضع ، وأمضى من زقاق لآخر مع أقراني الصغار وننتقل من منزل لأخر ، ومن حارة لأخرى ، نسمع حكاية من هذا الشيخ وقصة من هذه العجوز التي تجمعنا وتغني لنا أهازيج قديمة نشتم بها مرارة اللجوء ، وحب الوطن ، لم نسمع سوى الثورة ، وفلسطين ، وفدائي ، لا اعرف ولم نسمع أن هناك أجزاء صغيرة غير هذه الكلمات ولم اعلم أن ليله الذعر الذي اقتحم بها الجيش الإسرائيلي زقاقنا ليعتقل مجموعة شباب ، وكلما سألنا قيل لنا أنهم فدائيون ، لم نعرف إنهم فتح أو جبهة شعبية ، بل فدائيون ، كلمة نمت مع نمو أجسادنا وعقولنا التي كانت تطعم بزيت السمك من الممرض " أبو يوسف " العجوز في مدارس وكالة الغوث الدولية ونمت أصداء جهاز الراديو ( المذياع ) الوحيد الذي كان يصمت المخيم كأنه في عالم أموات لا تسمع منه سوى صوت الثورة الفلسطينية ، صوت منظمة التحرير الفلسطينية من بغداد ، وعبارات أخرى لا زالت تسكن قلوبنا وذكرياتنا ، نداء نداء نداء من صقر الثورة الى فدائيو الوطن توكلوا على الله والله معكم .
لا زال الزقاق يحميني من نفسي ومن شرور زمني ، ولازال والدي رحمة الله يعود مساء ليجمعنا ويحدثنا عن أرضنا ومزارعنا وأشجارنا ، وعن طفولته ، وعن الانجليز ، وعن اليهود قصص أتذكرها يوميا ولا أزال لا اعلم لماذا نحب المخيم ؟ ونحب الزقاق ؟
كبرنا في أحضان المخيم وكبر الوطن معنا ، حتى جاءت تلك الآلة العملاقة لتضرب بكفها بيوت المخيم فتتهاوى فوق بعضها ، ونحيب النساء وبكاء الرجال الشاهد على لجوء آخر ، لجوء ألقى بنا الى حياة أكثر تطورا حيث المنازل المشيدة بالحجارة والمنازل بالكهرباء ، ولكنها لم تحمل الدفء الذي شعرنا به وسط المخيم ، وأخلاق المخيم حيث بدأ الجيران في تقاسم مناطق الحدود السكانية ، وخصوصيات لم تكن قائمة ، وبدا الانقسام الاجتماعي وبدأت رحلة التمايز بين فسطاط الأحزاب ، وفسطاط المصالح الشخصية .
نعم أصبح لدى أكثر من بنطال وقميص ، وأصبح لدى القدرة للاستحمام يوميا ، وأصبح لدينا جهاز تلفاز خاص ، وأصبح لدى كرة قدم خاصة ، ولكن لم يعد لي الحب الذي تعلمته في المخيم ، ولم تعد كلمة فدائي تسرق أفئدتي أصبحنا نخضع لجراحة الحزبية ومبضعها تشرح فينا كيفما شاءت ، فذاك فتحاوي وهذا جبهاوي وذاك حمساوي وتعددت الألوان ، وانعزلنا في رحلة حسم وتجاذب حزبي والكل يتعامل مع الآخر على قاعدة الانتماء الحزبي لا الانتماء الوطني .
مضت الأيام سريعا وتحولنا لدمى شطرنجية تحركها أصابع غليظة ، ووجوه غادرتها حمرة الأخلاق وتم التصنيف والتهديد والوعيد ، فهذا وذاك والكل شركاء في نصب أعواد المشانق ، وأضحى الجميع في حلبة لا تحتمل أكثر من بطل واحد مفتول العضلات يتوجب عليه قتل الأخر ليستأسد ويزأر، حتى تمت عملية التصنيف لثلاث أجزاء ، جزء أخذ عقابه ، وجزء عليه انتظار العقاب ، وجزء ثالث ينعم بالرضا لأنه يطيع السيد ويحنى الرأس ولا يعرف سوى كلمة" أمرك سيدي " ومن رحلة مخيمي الى مطار مدينتي مررت بكل الفرح والحزن ، الألم والابتسام ، الحزن والسعادة حتى أمسكت قلمي واستمعت لخطابات القادة ، وقرأت ما حملته الأخبار وقررت الرحيل .
رحيل أخر لا يعرفه سوى من ينتظر هنا على أبواب الماضي والحاضر ، ولكن يصطدم بأبواب موصدة بالشمع الأحمر مكتوب وسطها " المستقبل "
وأصبحت لدى سيارة وشقة واذهب لأكبر صالونات التجميل ، وأتحدث بأرقام من خانة الألوف ، وعدة أجهزة حاسوب بانترنت في منزل واحد ، وهناك غرفة للأولاد ، وغرفة للإناث ، وحساب بنكي ، ومدارس خمس نجوم ، وكل أجدد طواقم الملابس الفاخرة حتى اشتكي دولاب الملابس من كثرها ، وموكب حراس يغطي عين الشمس ، بعدما كنت أتجول وحيدا والطمأنينة تملئ قلبي ، والحب يستعمره فلا أخشى شيئاً ، ولكن الثمن كان كبير جدا ، فقدت به طمئنيني ، وفقدت اعز ما أملك من معاني الحب ، وفقدت الأصدقاء ، وفقدت وطن سكنني طويلا لاستبدله بحزباً صغيرا .. فأسلمت نفسي حبيسا لقلم وورقة وجهاز حاسوب ومكتب وغرفة بها كل أنواع الملذات والراحة .
ويبقى الأمل غائباً ، ويبقى السؤال من أنا ؟ !
أنا اللاجئ ، أم الفلسطيني ، أم الوطن ، أم الحزبي ؟ !
أم أنا من علم أنبه أن يدوس علم الوطن ورايته تحت أقدامه ، ويموت لأجل راية بلون واحد ، يقاتل ويموت من أجلها ، استعمره الانهزام والحقد وهو يتعلم النطق ، فقبل أن اعلمه فلسطيني علمته اسم الحزب .
أنها رحلة المكننة العقلية ، واستنزاف القدرات الإنسانية ، اختزال سيئ لواقع أسوا .
ويبقى الحال عما هو عليه ، وعلى المتضرر أن يتجنب الشبح والتشهير والجلد ، وومضات الكهرباء ، والعصا . وتستمر رحلة البحث والتنقيب عن وطن تاه في أزقة وصحارى الأحزاب ، وعلى من يجده أن يسلمه لأقرب موقع امني لينال عقابه خروجه بلا استئذان ، ويعاد تربيته لأنه لم يربى ، هذه هي العبارة التي أصبحت لسان الحال في زمن الغراب والبوم ، زمن الانتشار والرباط تحت نوافذ النيام ، زمن الويل لك أن ذهبت للسؤال عن ابنا أو أخاً أو حبيسا في احد المقرات الأمنية .
الرحلة رقم 1948 انتهت وسلمت نفسها لأمن المطار وحكم القاضي العسكري عليها بالإعدام ، وكذلك الرحلة رقم 1967 نالت نفس المصير ، فلم يعد لها مكان ولا زالت رحلة النهاية تخضع للإجراءات القضائية والكل في الانتظار .
رحلة طويلة وشاقة بدأت من زقاق لتنتهي بمصيف فاخر على شاطئ البحر المتوسط في شريط ساحلي مغلق اسمه الزمان والمكان بلا عنوان ........ ولا زلت أعيش في تخلفي وأتذكر مخيمي ....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق