صبحي غندور
جميل أن يتذكّر العرب مناسبات عزيزة في تاريخهم المعاصر، وفي مقدمة تلك المناسبات "ثورة 23 يوليو" في مصر التي قادها جمال عبد الناصر في العام 1952، بل هو حقّ لهذه الثورة المجيدة وواجب على الأمّة أن تكرّم ذكراها في كل عام. لكن ألا يكون من الأفضل تكريم هذه المناسبة بالتعامل معها كتجربة فكرية وسياسية هامة حدثت في قلب الأمّة العربية، وتحتاج إلى النظرة الموضوعية لها من الجيل المعاصر والاستفادة مما أنجزته فكرياً على المستوى العربي عموماً!.
فميزة "ثورة 23 يوليو" أنّ ساحة حركتها وأهدافها كانت أكبر من حدود موقعها الجغرافي المصري، كما أن قضاياها كانت تمتدّ لكلّ الساحة العربية، ولمناطق أخرى أيضاً في إفريقيا وآسيا.
إنّ "23 يوليو" بدأت ثورة مصرية، ونضجت كثورة عربية، ثمّ ارتدّت للأسف إلى حدودها المصرية بعد وفاة ناصر، وتعرّضت إلى محاولات تقليص إنجازاتها وآثارها حتى داخل مصر نفسها.
إنّ "23 يوليو" أحدثت تغييراتٍ جذريةً في المجتمع المصري ونظامه السياسي والاقتصادي والعلاقات الاجتماعية بين أبنائه، وكانت أيضاً ثورة استقلالٍ وطني ضدّ احتلالٍ أجنبيٍّ مهيمن لعقودٍ طويلة (الاحتلال البريطاني لمصر)، ثمّ كانت أيضاً قاعدة دعمٍ لحركات تحرّرٍ وطني في عموم الدول النامية، كما كانت كذلك مركز الدعوة والعمل لتحرّر وتوحّد البلاد العربية ولبناء سياسة عدم الانحياز ورفض الأحلاف الدولية في زمن صراعات الدول الكبرى وقمّة الحرب الباردة بين الشرق والغرب. لكن انجازات التجربة الثورية الناصرية كانت أكبر بكثير من حجم أداة التغيير العسكرية التي بدأت بها التجربة، وهي مجموعة "الضباط الأحرار" في الجيش المصري. كذلك، فإنّ الأهداف التي عملت من أجلها طوال عقدين من الزمن تقريباً، إي إلى حين وفاة جمال عبد الناصر عام 1970، كانت أيضاً أوسع وأشمل بكثير من "المبادئ الستّة" التي أعلنها "الضباط الأحرار" عام 1952، فهذه "المبادئ" جميعها كانت "مصرية".
وقد كان لضيق أفق أداة الثورة (الضباط الأحرار) ولمحدودية (المبادئ الستّة) مقابل سعة شعبية القيادة الناصرية وشمولية حركتها وأهدافها لعموم المنطقة العربية ودول العالم الثالث، تأثيراً كبيراً يفسّر حجم الانتكاسات التي حدثت رغم عظمة الإنجازات.
لذلك، تتأكّد الحاجة الآن لقراءة جديدة لهذه التجربة الهامة في التاريخ العربي المعاصر، لا التعامل معها وكأنها مجرد ماضٍ انتهى بالنسبة للبعض، أو أنها ما زالت بكل تفاصيلها صالحة للنسخ من جديد، كما هو حال رؤيتها لدى البعض الآخر.
إنّ جمال عبد الناصر كان يقف على أرضٍ فكرية محسوم فيها جانب الإيمان الديني والجانب القومي، وما فيه من تأكيدٍ للهوية العربية. وكانت قضايا الحرية والعدالة والاستقلال والتحرر الوطني والقومي هي أبرز الأهداف والغايات التي عمل جاهداً من أجلها. وقد ارتبطت هذه الغايات لدى عبد الناصر بنبذ العنف كوسيلة للتغيير الإجتماعي أو السياسي أو للعمل الوحدوي القومي، وبالاستناد إلى مفهوم عبد الناصر لهوية مصر وللدوائر الثلاث التي تنتمي اليها: العربية والإفريقية والإسلامية، وبحالٍ من التفاعل والتكامل بين الوطنية والعروبة والانتماء الحضاري الإسلامي.
لكن الخلاصات الفكرية والسياسية لهذه التجربة، خاصّةً في العقد الثاني من عمرها، هي التي بحاجةٍ الآن إلى التأكيد عليها.
وقد ظهرت هذه الأمور الفكرية والاستراتيجية في أكثر من فترة خلال مراحل تطوّر التجربة الناصرية، لكن نضوجها وتكاملها ظهر واضحاً في السنوات الثلاث الأخيرة من حياة عبد الناصر، أي ما بين عامي 1967 و1970.
ويمكن تلخيص هذه الأسس الفكرية والاستراتيجية للتجربة الناصرية بأنها كانت تقوم على الدعوة إلى الحرّية، بمفهومها الشامل لحرّية الوطن ولحرّية المواطن، وبأنّ المواطنة الحرّة لا تتحقّق في بلدٍ مستعبَد أو محتَل أو مسيطَر عليه من الخارج. كذلك، فإنّ التحرّر من الاحتلال لا يكفي دون ضمانات الحرية للمواطن، وهي تكون على وجهين: "الوجه السياسي" الذي يتطلّب بناء مجتمعٍ ديمقراطي سليم تتحقّق فيه المشاركة الشعبية في الحكم، وتتوفّر فيه حرية الفكر والمعتقد والتعبير، وتسود فيه الرقابة الشعبية وسلطة القضاء، ثم "الوجه الاجتماعي" الذي يتطلّب بناء عدالةٍ اجتماعيةٍ تقوم على تعزيز الإنتاج الوطني وتوفير فرص العمل وكسر احتكار التعليم والاقتصاد والتجارة، كما يتطلّب أيضاً تحقيق المساواة بين جميع المواطنين بغضّ النظر عن خصوصياتهم الدينية أو العرقية، والعمل لتعزيز الوحدة الوطنية الشعبية التي بدونها ينهار المجتمع ولا تتحقّق الحرية السياسية أو العدالة الاجتماعية أو التحرّر من الهيمنة الخارجية.
كل ذلك في إطار اعتماد مفهوم الانتماء المتعدّد للوطن ضمن الهويّة الواحدة له. فمصر تنتمي إلى دوائرَ أفريقية وإسلامية ومتوسطيّة، لكن مصر - مثلها مثل أيّّ بلدٍ عربيٍّ آخر- ذات هويّة عربية وتشترك في الانتماء مع سائر البلاد العربية الأخرى إلى أمّةٍ عربيةٍ ذات ثقافةٍ واحدة ومضمونٍ حضاريٍّ تاريخي مشترك.
لكن تبعاً لخلاصات التجربة الناصرية فإن الطريق إلى التكامل العربي أو الاتحاد بين البلدان العربية لا يتحقّق من خلال الفرض أو القوّة بل (كما قال ناصر) "إنّ اشتراط الدعوة السلمية واشتراط الإجماع الشعبي ليس مجرّد تمسّك بأسلوبٍ مثالي في العمل الوطني، وإنّما هو فوق ذلك، ومعه، ضرورة لازمة للحفاظ على الوحدة الوطنية للشعوب العربية".
كذلك، وضع جمال عبد الناصر منهاجاً واضحاً على صعيد مواجهة التحدّي الصهيوني، خاصّةً بعد حرب عام 1967، يقوم على بناء جبهةٍ داخليةٍ متينة لا تستنزفها صراعات طائفية أو عرقية ولا تلهيها معارك فئوية ثانوية، ويقوم أيضاً على وقف الصراعات العربية/العربية، وبناء تضامنٍ عربي فعّال يضع الخطوط الحمراء لمنع انزلاق أيّ طرفٍ عربي في تسويةٍ ناقصة ومنفردة، كما يؤمّن هذا التضامن العربي الدعم السياسي والمالي والعسكري اللازم في معارك المواجهة مع العدوّ الإسرائيلي.
هذه الخلاصات الفكرية والسياسية هي ما تحتاجه الأمّة العربية في مواجهة تحدياتها الراهنة، ومن أجل مستقبل أفضل لأوطانها وشعوبها. وهي أفكار وسياسات سارت عليها تجربة "ثورة يوليو" ونجحت في تأصيلها، لكن المسيرة توقفت، وانحرفت أحياناً، بعدما غاب قائدها.
جميل أن يتذكّر العرب مناسبات عزيزة في تاريخهم المعاصر، وفي مقدمة تلك المناسبات "ثورة 23 يوليو" في مصر التي قادها جمال عبد الناصر في العام 1952، بل هو حقّ لهذه الثورة المجيدة وواجب على الأمّة أن تكرّم ذكراها في كل عام. لكن ألا يكون من الأفضل تكريم هذه المناسبة بالتعامل معها كتجربة فكرية وسياسية هامة حدثت في قلب الأمّة العربية، وتحتاج إلى النظرة الموضوعية لها من الجيل المعاصر والاستفادة مما أنجزته فكرياً على المستوى العربي عموماً!.
فميزة "ثورة 23 يوليو" أنّ ساحة حركتها وأهدافها كانت أكبر من حدود موقعها الجغرافي المصري، كما أن قضاياها كانت تمتدّ لكلّ الساحة العربية، ولمناطق أخرى أيضاً في إفريقيا وآسيا.
إنّ "23 يوليو" بدأت ثورة مصرية، ونضجت كثورة عربية، ثمّ ارتدّت للأسف إلى حدودها المصرية بعد وفاة ناصر، وتعرّضت إلى محاولات تقليص إنجازاتها وآثارها حتى داخل مصر نفسها.
إنّ "23 يوليو" أحدثت تغييراتٍ جذريةً في المجتمع المصري ونظامه السياسي والاقتصادي والعلاقات الاجتماعية بين أبنائه، وكانت أيضاً ثورة استقلالٍ وطني ضدّ احتلالٍ أجنبيٍّ مهيمن لعقودٍ طويلة (الاحتلال البريطاني لمصر)، ثمّ كانت أيضاً قاعدة دعمٍ لحركات تحرّرٍ وطني في عموم الدول النامية، كما كانت كذلك مركز الدعوة والعمل لتحرّر وتوحّد البلاد العربية ولبناء سياسة عدم الانحياز ورفض الأحلاف الدولية في زمن صراعات الدول الكبرى وقمّة الحرب الباردة بين الشرق والغرب. لكن انجازات التجربة الثورية الناصرية كانت أكبر بكثير من حجم أداة التغيير العسكرية التي بدأت بها التجربة، وهي مجموعة "الضباط الأحرار" في الجيش المصري. كذلك، فإنّ الأهداف التي عملت من أجلها طوال عقدين من الزمن تقريباً، إي إلى حين وفاة جمال عبد الناصر عام 1970، كانت أيضاً أوسع وأشمل بكثير من "المبادئ الستّة" التي أعلنها "الضباط الأحرار" عام 1952، فهذه "المبادئ" جميعها كانت "مصرية".
وقد كان لضيق أفق أداة الثورة (الضباط الأحرار) ولمحدودية (المبادئ الستّة) مقابل سعة شعبية القيادة الناصرية وشمولية حركتها وأهدافها لعموم المنطقة العربية ودول العالم الثالث، تأثيراً كبيراً يفسّر حجم الانتكاسات التي حدثت رغم عظمة الإنجازات.
لذلك، تتأكّد الحاجة الآن لقراءة جديدة لهذه التجربة الهامة في التاريخ العربي المعاصر، لا التعامل معها وكأنها مجرد ماضٍ انتهى بالنسبة للبعض، أو أنها ما زالت بكل تفاصيلها صالحة للنسخ من جديد، كما هو حال رؤيتها لدى البعض الآخر.
إنّ جمال عبد الناصر كان يقف على أرضٍ فكرية محسوم فيها جانب الإيمان الديني والجانب القومي، وما فيه من تأكيدٍ للهوية العربية. وكانت قضايا الحرية والعدالة والاستقلال والتحرر الوطني والقومي هي أبرز الأهداف والغايات التي عمل جاهداً من أجلها. وقد ارتبطت هذه الغايات لدى عبد الناصر بنبذ العنف كوسيلة للتغيير الإجتماعي أو السياسي أو للعمل الوحدوي القومي، وبالاستناد إلى مفهوم عبد الناصر لهوية مصر وللدوائر الثلاث التي تنتمي اليها: العربية والإفريقية والإسلامية، وبحالٍ من التفاعل والتكامل بين الوطنية والعروبة والانتماء الحضاري الإسلامي.
لكن الخلاصات الفكرية والسياسية لهذه التجربة، خاصّةً في العقد الثاني من عمرها، هي التي بحاجةٍ الآن إلى التأكيد عليها.
وقد ظهرت هذه الأمور الفكرية والاستراتيجية في أكثر من فترة خلال مراحل تطوّر التجربة الناصرية، لكن نضوجها وتكاملها ظهر واضحاً في السنوات الثلاث الأخيرة من حياة عبد الناصر، أي ما بين عامي 1967 و1970.
ويمكن تلخيص هذه الأسس الفكرية والاستراتيجية للتجربة الناصرية بأنها كانت تقوم على الدعوة إلى الحرّية، بمفهومها الشامل لحرّية الوطن ولحرّية المواطن، وبأنّ المواطنة الحرّة لا تتحقّق في بلدٍ مستعبَد أو محتَل أو مسيطَر عليه من الخارج. كذلك، فإنّ التحرّر من الاحتلال لا يكفي دون ضمانات الحرية للمواطن، وهي تكون على وجهين: "الوجه السياسي" الذي يتطلّب بناء مجتمعٍ ديمقراطي سليم تتحقّق فيه المشاركة الشعبية في الحكم، وتتوفّر فيه حرية الفكر والمعتقد والتعبير، وتسود فيه الرقابة الشعبية وسلطة القضاء، ثم "الوجه الاجتماعي" الذي يتطلّب بناء عدالةٍ اجتماعيةٍ تقوم على تعزيز الإنتاج الوطني وتوفير فرص العمل وكسر احتكار التعليم والاقتصاد والتجارة، كما يتطلّب أيضاً تحقيق المساواة بين جميع المواطنين بغضّ النظر عن خصوصياتهم الدينية أو العرقية، والعمل لتعزيز الوحدة الوطنية الشعبية التي بدونها ينهار المجتمع ولا تتحقّق الحرية السياسية أو العدالة الاجتماعية أو التحرّر من الهيمنة الخارجية.
كل ذلك في إطار اعتماد مفهوم الانتماء المتعدّد للوطن ضمن الهويّة الواحدة له. فمصر تنتمي إلى دوائرَ أفريقية وإسلامية ومتوسطيّة، لكن مصر - مثلها مثل أيّّ بلدٍ عربيٍّ آخر- ذات هويّة عربية وتشترك في الانتماء مع سائر البلاد العربية الأخرى إلى أمّةٍ عربيةٍ ذات ثقافةٍ واحدة ومضمونٍ حضاريٍّ تاريخي مشترك.
لكن تبعاً لخلاصات التجربة الناصرية فإن الطريق إلى التكامل العربي أو الاتحاد بين البلدان العربية لا يتحقّق من خلال الفرض أو القوّة بل (كما قال ناصر) "إنّ اشتراط الدعوة السلمية واشتراط الإجماع الشعبي ليس مجرّد تمسّك بأسلوبٍ مثالي في العمل الوطني، وإنّما هو فوق ذلك، ومعه، ضرورة لازمة للحفاظ على الوحدة الوطنية للشعوب العربية".
كذلك، وضع جمال عبد الناصر منهاجاً واضحاً على صعيد مواجهة التحدّي الصهيوني، خاصّةً بعد حرب عام 1967، يقوم على بناء جبهةٍ داخليةٍ متينة لا تستنزفها صراعات طائفية أو عرقية ولا تلهيها معارك فئوية ثانوية، ويقوم أيضاً على وقف الصراعات العربية/العربية، وبناء تضامنٍ عربي فعّال يضع الخطوط الحمراء لمنع انزلاق أيّ طرفٍ عربي في تسويةٍ ناقصة ومنفردة، كما يؤمّن هذا التضامن العربي الدعم السياسي والمالي والعسكري اللازم في معارك المواجهة مع العدوّ الإسرائيلي.
هذه الخلاصات الفكرية والسياسية هي ما تحتاجه الأمّة العربية في مواجهة تحدياتها الراهنة، ومن أجل مستقبل أفضل لأوطانها وشعوبها. وهي أفكار وسياسات سارت عليها تجربة "ثورة يوليو" ونجحت في تأصيلها، لكن المسيرة توقفت، وانحرفت أحياناً، بعدما غاب قائدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق