د. صلاح عودة الله
قتل غسان ولكنه لم يمت، تماماً كشعبه الفلسطيني العظيم. لكَم قتل هذا الشعب ولم يَمُت. قُتل غسان يوم تمت عملية تقسيم وطنه بقرار من الشرعية الدولية، ويوم اقتلع من بيته وشرد في بلاد العرب، ويوم استحال لاجئاً يسعى مع مَن يسعى من أهله وراء مأوى وعَيشٍ آمن، ويوم سقطت حيفا ويافا وعكا, ويوم مجزرة دير ياسين وكفر قاسم. ثم ذبح وقطعت أوصاله يوم سقط ما تبقى من الوطن في يَد الغزاة, ولكنه لم يمت.يعتبر غسان كنفاني أحد أشهر الكتاب والصحافيين العرب في عصرنا. فقد كانت أعماله الأدبية من روايات وقصص قصيرة متجذرة في عمق الثقافة العربية والفلسطينية.ولد في عكا، شمال فلسطين، في التاسع من نيسان عام 1936، وعاش في يافا حتى أيار 1948 حين أجبر على اللجوء مع عائلته في بادئ الأمر إلى لبنان ثم الى سوريا.
عاش وعمل في دمشق ثم في الكويت وبعد ذلك في بيروت منذ 1960 وقد استشهد صباح يوم السبت 8/7/1972 بعد أن انفجرت عبوات ناسفة كانت قد وضعت في سيارته(على ايدي عملاء اسرائيليين) تحت منزله مما أدي إلي استشهاده مع إبنة شقيقته لميس حسين نجم (17 سنة).يسألنا غسان العائد إلي حيفا وكل فلسطين:أين أصبحت أم سعد ؟
آه يا غسان ! أم سعد فقدت السعد والسعادة وبعض أبناء جلدتها الذين صاروا من عبيد امريكا وعبدة الكاميرات والسفر علي أفضل الطائرات، وفقدت كذلك العرب والعاربة والأجانب ولم يعد لها سوي الدعاء لله في دور العبادة، والترحم علي دلال وعندليب وريم وهنادي ووفاء، إذ لم يعد هناك في بلادنا فرق في الشهادة وفن الاستشهاد بين الرجل والمرأة والفتاة والشاب.
ماذا عن الرجال والبنادق؟هؤلاء أصبحوا أنواعا وأصنافا، منهم من باع البارودة واستورد بدلا منها سيارة أمريكية أو أوروبية، ومنهم من تمسك ببارودته ودأب علي صيانتها خوفا من الأيام القادمة، وهؤلاء هم الذين حموا شعبهم يوم قرر الاحتلال تصفية حساباته مع الشعب علي طريقته المعروفة.
لم يعد هناك الكثير من رجال جمهورية المنفي الثورية، وبعض الذين قادوا النضال من منافي الثورة أصبحوا أقرب الناس لمن يقيمون في خبر كان، أو لعلهم يعيشون الآن آخر لحظات كانَ وأخواتها وأوسلو وشقيقاتها..!هل مازال عندكم رجال لا يموتون ؟مازال عندنا أصحاب مراكز لا يموتون أما القادة الحقيقيون فيستشهدون كل يوم، ففي الانتفاضة الثانية فقط رحل أبو علي مصطفي رفيق دربك بعملية اغتيال شبيهة بعملية قتلك، استشهد وهو رجل ينتمي للقواعد والمواقف الصعبة، كما اعتقل رفيقك الآخر رجل المغاور والتخفي والعمل الصامت، رجل إعادة البناء والعودة الي الينابيع أحمد سعدات،وسجانوه نفر من الرجال الذين يموتون وقد لا يذكرهم التاريخ كباقي الرجال في بلدك، لأنهم خذلوا كل قداسة وجدت في فلسطينك, واستشهد شيخ المقاومة احمد ياسين ودكتور الاستشهاد عبد العزيز الرنتيسي ورحل عنا حكيم الثورة وضميرها رفيق دربك جورج حبش وقادة وكوادر ومقاتلون ميدانيون كبار وعظماء لا بد للتاريخ ان يذكرهم بجلل واحترام وتقدير.آه يا غسان، اعرف ومنذ نعومة اظفاري ان الشهادة علمها عند ربي.. لكننا وبقدرة خالق قادراصبحنا نمتلك هذا العلم..فاصبح بمقدورنا ان نوزع الألقاب على موتانا..
فمن يقتله العدو الاسرائيلي فهو "شهيد" ومن يقتله اخوه الفلسطيني فهو "قتيل"، وعليه واعتمادا على هذه النظرية بامكاني القول بان "ناجي العلي" غادرنا "قتيلا"، و"ابو جهاد" حظي بلقب "نصفه قتيل ونصفه الثاني شهيد"، واما انت فقد حظيت بلقب "شهيد" وهذا هو الفوز العظيم..!
ان شبابنا فقراء وقتلى، ضحايا بلا سبب، منافقون بدون اثم ولم يشيعهم الناس الى المقابر، لانهم لم يعودوا شهداء عملا بالآية التي تقول: "ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره انهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون"..!ان شبابنا اصبحوا في نظر "قادتنا" زعرانا في مقتبل عمرهم بلا مستقبل، بلا عنوان وبلا امل ايضا، وتحت الحصارالقاتل والموت الذي ينتظرهم في كل لحظة. ومعهم ما يلزم من الوقت والدقائق على هاتفهم "الجوال"، وفي المخزن ما يكفي من رصاص للجريمة، وللبطولة ان جاءت على يد قذيفة اسرائيلية.
هؤلاء الشباب، لم يقرأوا تاريخهم ولا تاريخ أعدائهم، ولم يعرفوا صورة موتهم الا في "بوستر" ملون ومؤقت سوف يصمد بدوره على احد الجدران.. ولكن أية جدران؟ان بعض شبابنا يرفض ثقافة الموت ولا يتبنى سياسة "ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة" ولا يؤمن بالمثل القائل "رد الصاع صاعين"..! لكنه لم يفقد الأمل "فكهنة" و"شيوخ" اوسلو قد يجدون له وظيفة "مقاتل" او"عضو" او "شرطي" او حتى "مرافق" وبدون ان يكون مرافقا، فالمهم ان يضمن راتبه الشهري وهذا في احسن الاحوال..!نعم، ان شبابنا اصبحوا بين ليلى وضحاها ضحية لمؤامرة أمريكية- اسرائيلية ينفذها حاكم عربي وشرطي أمن فلسطيني.
والنتيجة، ان الشباب اصبحوا فقراء يقفون متسولين على بوابات السفارات بحثا عن حلم ما، قد يفضي يوم ما الى طريق ما ياخذهم الى وطن بديل قد يجدون فيه الحرية والسعادة...! الشباب؟ وقود الثورة حتى النصر، لا؟ حراسها أيضا، نعم، والاف الاسرى والمعتقلين من الشباب في سجون اسرائيل وكذلك في سجون "حماس" و"فتح"... وكلنا في سجن واحد كبير..!"لا تمت قبل ان تكون ندا"..هذه مقولتك الشهيرة وتأكد يا غسان بان ابناء شعبك لم ينسوها، بل على النقيض قاموا بتطبيقها، فهذا "الحمساوي" و"الفتحاوي" يقتل احدهما الآخر وقد اقسموا في "مكة" بالا يموتوا قبل ان يأخذوا بمقولتك هذه..فهنيئا لك..!. لقد سألتني يا غسان عن دور اليسار الفلسطيني في هذه المحنة.. آه يا غسان.. عن أي يسار تتحدث؟ فلم يعد هذا اليسار ذلك اليسار الذي عهدته وكنت انت اكبر عمالقته، لقد طالبناه مرارا بالتدخل وبفاعلية وكانت الفرصة التاريخية واخشى ان يكون فقدها او يكاد... فباسمك نطالبه الآن وقبل اي وقت بقيادة السفينة الى شاطىء الأمان قبل ان نندم حيث لا ينفع الندم..!
شهيدنا غسان، لقد عرف رفيقك ناجي العلي خطا واحدا ولونه احمرا "كلما سألوني عن الخطوط طار صوابي، فانا اعرف خطاً أحمر واحداً، انه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام مع اسرائيل".. لقد تجاوزنا هذا الخط ووقعنا اتفاقية "اوسلو" المشؤومة والتي مهدت للاقتتال الداخلي. ولقد عرف ابناء شعبك الكثير من الخطوط الحمروتجاوزوها جميعا.. وكان آخرها الدم الفلسطيني الذي فقد لونه الأحمر بل افقدوه اياه.
لقد قمنا بتخطي كل الحواجز الا "المحاسيم" -الحواجز العسكرية الاسرائيلية- والجدار الفاصل والذي نسميه زورا وبهتانا "عنصريا" لأننا وبكل فخر واعتزاز شاركنا في تشييده وذلك دعما لاقتصادنا "الوطني"..!قلناُ في الماضي ونردِد اليوم: إن فلسطين تكاد تكون البقعة المُشرِقَة الوحيدَة وَسط الظلمة الدامِسَة التي تَلفّ العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.
شعب فلسطين يرزح تحت نِير احتلالٍ غاشِم منذ ستين عاما, يتعرّض للحِصار والقتل والقصف والتشريد والتنكيل كل يوم، مع ذلك فهو على العهد: صامِد رافِض مُجاهِد، تُهدَم البيوت فَوق رؤوس أصحابها، فترى النِسوَة ينتحِبنَ فوق جثامين أطفالهن الشهداء الأبرار، ولكنهن لا يستسلمن.أصوات البَرم والسَأم ونَفاد الصبر والانهِزامية وبالتالي الاستسلام قد تسمعها في أوساطٍ مُعيّنة في أرجاء الوطن العربي الأَرحَب، مَشرقه ومَغربه وكذلك في اوساط فلسطينية منتفعة وميتة الضمير,بل باعت ضميرها.. ولكنك لا تَسمعها من الكادحين الصامدين والصامدات على أرض فلسطين.رثاء الشاعر سميح القاسم للشهيد غسان كنفاني:لن تصبر الأرض إلاّ خلال شرايينك..."عن الفلسطيني التائه الذي ما زال اسمه غسان كنفاني":تطاردني في الليل أوجه اخوتي/ وتسقط في وجهي، من الريح، جثتي/ فأصرخ مرعوباً ويهلع قاتلي/وتحترق أشجار المقابر صرختي/هنا الموت، يا تفاحة الموت أمطري/ثمارك في أرض جحيم وجنة/ يطاردني القتلى. فأية عيشة/ أعيد إلى القتلى. بأية ميتة/ وبين نساء الدوالي وبين كنوز الرمال وبين الهجير وريح الشمال/تعاطيت حبك وحدك أنت/ وأذكر حتى أدق التفاصيل، رائحة المطبخ،/ الساحة، النبعة، الكتب المدرسية/ واذكر (لا أتصور ) صرخة رعبك والطعنة البربرية/ ويا مشجباً لجلود القرابين والخوذ الأجنبية/ سلاماً على وجهك الطيب الحلو،/ لا تحرميني يديك وترياق ثدييك، لا تحرميني لأني أذكر/ أذكر يوم صحوت على الانهيار/وبددني الموت، بددني في جميع الأمم/جريحاً، يدثرني في زاويا المحطات ثوبي المميز، ثوبي الكفن....
ثم يتابع:أبشر قاتلي بالموت قتلاً/ وأنقض جسمه ليلاً فليلاً/ أنا الحكم الذي لا بد منه/ أجوب رحاب وادي الموت عدلاً/ إذا نهب اللصوص حليّ أمي/ فقد نهبوا البريق المضمحلاً/ سأجدل جثتي حبل المنايا/ لأملأ سلتي عنباً ودفلى..!واليكم ما قاله محمود درويش في غسان:كان الفلسطيني الوحيد الذي أعطى الجواب القاطع الساطع،
وكانت الشهادة شهادة، وكأنه أحد النادرين الذين أعطوا الحبر زخم الدم، وفي وسعنا أن نقول أن غسان قد نقل الحبر إلى مرتبة الشرف وأعطاه قيمة الدم، كان غسان كنفاني يعرف لماذا يكتب ولمن يكتب ولكنه كان يعرف أيضا أن قيمة هاتين المسألتين مشروطة لإنتاج الفن بإتقان تطبيق المسألة الأخرى كيف يكتب..! بعد غِياب هذا الوَجه العربي الفلسطيني المتميز وغيره من الوجوه والتي كان لها تأثيرها الكبير في الساحة الفلسطينية والعربية وكان اخرها رحيل الدكتور جورج حبش،
يَجِد الفلسطينيون أنفسهم أمام امتِحانٍ عَسير، وكذلك سائر العرب، محوره: كيف يكون الوَفاء لهذه الوجوه التاريخية الفذة بغير مواصلة السَير على طريق النِضال، من أجل تحرير القدس وفلسطين؟ وهل يكون ذلك إلاّ عبر إعادَة الاعتِبار للتضامُن العربي على أوسع نِطاق، وعبر استِيلاد قيادة جديدة مُوحْدة في فلسطين تكون على مستوى التصدّي لأعتى الأخطار والتحديات التي تُواجِه القضية العربية، وعبر إبتِداع صِيَغ جديدة فعّالَة لدعم الشعب الفلسطيني في صموده ونِضاله بكل الوسائل المادية والسياسية والإعلامية المتاحَة، وعبرَ تَلاقي العرب كافّةً على مشروعٍ واحِد مُشرِّف للحل المَنشود لقضيّة فلسطين، وأخيراً وليس آخراً عبر لَم الشمل العربي وتَصليب الجبهة العربية دولياً في التصدّي لمشاريع تصفية قضيّة العرب المركزيّة التي قد تبيتها من تدعي بأنها الدولة العظمى ومعها بعض القوى الدولية الأخرى.العَدُو يُراهِن على تفتيت الساحة الفلسطينية وعلى إشعال الفِتنَة بين الفصائل، فهل سنكون على مستوى التَحدّي؟ آن الأوان أن نُدرِك ما هو من البَديهيّات : إنّ قوّة العرب لا تكون إلاّ بِوحدتهم. العرب أَولى بالاتّحاد من أوروبا. فما يجمَع بين العرب أكثر كثيراً وأَعمَق جُذوراً ممّا يجمَع بين الأوروبيين. بين العرب أواصِر اللغة والثقافة والتاريخ المشترك والمصالِح المتشابِكَة والمَصير الواحد. فلماذا يكون لأوروبا اتّحاد ولا يكون مِثله للعرب؟ هكذا نَحفظ الشهيد غسان كنفاني وأمثاله بيننا أحياء خالدين، ونحفظ لَهُم حيزاً في سفر صناع التاريخ..!من أقوال الشهيد غسان:
لا تمت قبل أن تكون ندا..!
إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت..إنها قضية الباقين...!
إن الموت السلبي للمقهورين و المظلومين مجرد انتحار و هروب و خيبة و فشل..الثورة وحدها هي المؤهلة لاستقطاب الموت..الثورة وحدها هي التي توجه الموت..و تستخدمه لتشق سبل الحياة..!لنزرعهم شهدائنا في رحم هذا التراب المثخن بالنزيف..فدائما يوجد في الأرض متسعا لشهيد آخر..!إن كل قيمة كلماتي كانت في أنها تعويض صفيق و تافه لغياب السلاح..و إنها تنحدر الآن أمام شروق الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم في سبيل شيء أحترمهلك شيء في هذا العالم..فقم..!أنا أحكي عن الحرية التي لا مقابل لها..الحرية التي هي نفسها المقابل..!لا أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي..أو أقتلع من السماء جنتها..أو أموت أو نموت معا..!هذا العالم يسحق العدل بحقارة كل يوم..!إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضية..! إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية..فالأجدر بنا أن نغير المدافعين..لا أن نغير القضية..!الغزلان تحب أن تموت عند أهلها..الصقور لا يهمها أين تموت..!الأشباح ماتوا ..قتلتهم الفيزياء..و ذوبتهم الكيمياء..و أرعبتهم العقول..جاعوا, وأخذت السماء تزخ, حيث يسقى فولاذ الرشاشات تضحى له رائحة الخبز..!ليس المهم أن يموت أحدنا..المهم أن تستمروا..!هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين..هي تخلف و فلسطين تأخذ..!في صفاء رؤيا الجماهير تكون الثورة جزءا لا ينفصم عن الخبز و الماء و أكف الكدح و نبض القلب..!إن ضرب السجين هو تعبير مغرور عن الخوف..!إن الخيانة في حد ذاتها ميتة حقيرة..؟ سيظل مغروسا هنا ينبض وحده في العراء..إلى أن يموت واقفا..!
وأورثني يقيني بوحدتي المطلقة مزيدا من رغبتي في الدفاع عن حياتي دفاعا وحشيا..أيمكن أن يكون القدر مرتبا على هذه الصورة الرهيبة..يا إلهي..أيمكن؟ إن حياتي و موتك يلتحمان بصورة لا تستطيع أنت و لا أستطيع أنا فكهما..ورغم ذلك فلا يعرف أحد كيف يجري الحساب ها هنا..!لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟
لم أعد أشك في أن الله الذي عرفناه في فلسطين قد خرج منها هو الآخر..و أنه لاجئ في حيث لا أدري..؟ فإذا بالجميع يصرخوا دفعة واحدة" أية حياة هذه..الموت أفضل منها" و لأن الناس عادة لا يحبون الموت كثيرا..فلابد أن يفكروا بأمر آخر..!إن الانتصار هو أن تتوقع كل شيء..و ألا تجعل عدوك يتوقع..!إنها الثورة! هكذا يقولون جميعا..و أنت لا تستطيع أن تعرف معنى ذلك إلا إذا كنت تعلق على كتفك بندقية تستطيع أن تطلق..فإلى متى تنتظر؟ بالدم نكتب لفلسطين...!فعلا,لقد كان غسان شعبا في رجل,كان قضية,كان وطنا,ولا يمكن ان نستعيده الا اذا استعدنا الوطن..! غسان كنفاني لم يسقط شهيدا، ولكنه كان الشهيد الحَي طِيلَة حياته..!
- القدس المحتلة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق