خالد ساحلي
إن النظرة الصحيحة المستمرة القابلة لكسب روح الخلود هي النظرة المستمدة من نور الله الذي زرعه في عقولنا وروحها من روحه. فالفناء حقيقة كونية ينتظرها الآدمي الطامح لترك أثره في الحياة بطريق سلكه لأجل بقاء معنوي يذكره به نسله فينبعث من خلاله. يفعل ذلك لأجل أجيال قادمة تطيّب ذكره وسيرته أو حتى تبني على ما ترك إن كان في الأساس هناك ما خلّفه من بناء صحيح يخدم الإنسانية. قد لا يرمم بناءه أصلا في حضرة الدخيل إن كان مقامه أخطاء فقط أجتهد فيها و قد لا تشفع له نيته ولا قصده مهما كانت غايته الوصول للصواب المنفلت عن أذهان الناس المستعصي الحل على العقول. أليست النظرة الصحيحة هي البحث عن البقاء في حب البقاء لأجل ساعة الرحيل التي ستزف فيها لحظات الفناء؟ التمهيد للرجوع للبداية لإعادة أصلها، إنه الهاجس المصاحب لكل عقل متقد، إن الذي يحيا حياة المادة لا وجود لفكرة الوجود و الفناء عنده البتة؛ إنه يحيا حياة البهائم و الترع لأنه يشترك فيها معها بالخوف فقط في الحفاظ على حياته و كفايته البيولوجية ينحجب النور هنا.
النظرة الصحيحة دائمة، رغم فرض الفناء وجوده الأزلي المخلوق لأجل تجديد الحياة فحقيقته كونية، النظرة المستمدة من نور الله تفرض بقائها الأزلي و اختصارها للفناء لأن الله الأول المستمر و لأنه الآخر الباقي ولأنه وحده تعالى الخالق. من هذا المنطلق فكل مصدر من الله فهو أزلي باقيا مثله. لا يتغير إنما هو المصدر المحدث للتغيير في المشكلات المواكبة لمراحل تطور الإنسان من يوم النزول الأول لآدم للأرض و المتلاحق إلى اليوم و إلى الغد النائم في ظلام غيب الله. إنما الدائم يؤكده الفناء كما النقص " المخلوق" يأخذ من المطلق " الله" و لا يضاف إليه إنما ينتمي بدخوله إطاره اللامحدود و لا يخرج عليه.إنه الحد الذي يتوق لتعدي حده و الانتقال للا نهاية فاللا نهاية وحدها من تمنح الفضاء المعترف بالحرية الغير مقيدة للعقل الباحث عن كمال لا كمال فيه للعقل. المانحة لحق المحافظة على العقل لأنه أساس البقاء الذائب في بقاء الفناء. في اللحظة هذه نفسها و أنا أكتب مقالي حول هذه الإشكالية طرح عليّ أحدهم سؤال: ــ ألا زلت تكتب؟
( سؤال السخرية يمكنه أيضا حمل الفناء). استحالة العثور على إجابة في هذا الموقف. السؤال يحمل فنائه وقد يحمل أوجه كثيرة يمنح من خلالها مفاتيح المغاليق الكثيرة في الحياة. استحالة العثور على جواب: ألا زلت تكتب في جدوى واقعك المزري؟ هل هناك معنى للبحث عن بقاء في فناء ثواني أعمارنا؟ القدرة الإلهية منحتنا في خبايا العمر المحدود أسرارا متعلقة بحياتنا العقلية و الباطنية و كبحت ألسنتنا عن البوح بها. البوح بالسر يحدد عمر الآدمي وما دام السر لا زال أسير العقل الباطن فهو يقدم الدعوة للبحث حاثا على تخطي حاجز الزمن. الكلام عن السر فناء البقاء، وسر الكلام بنظرة صحيحة مستمدة من نور الله الممجد للعقل بقاء. الكلام في السر قد يستعير ألسنة أخرى و عقول أخرى. هل الإنسان يكتب فنائه بيده؟ أم يستعير روح الكتابة ليضمن بقاء نسبي باستعارة العقول القارئة؟ الأمر لا يبدو مألوفا و غير قابل للتداول الثقافي و الفكري فالنهايات و البدايات تشابه أمر المعنى فيها و اللا معنى أو تشابك اللامعنى مع المعنى وأفقده خصوصيته وصار جدله يوازي اللاجدل . النظرة الصحيحة مستمدة من نور الله المستمر لا من موروث عقيم مكتسب بتلقين الحفظ الآلي البارد الحامل لفنائه في بقائه كل هذه السنين. الله هو ذاته دائما وليس مختلفا عما كان في قرون خلت كما يحب أن يصوره لنا الآخرون في الكتب الميتة. إن النظرة الصحيحة يشترك فيها كل من يرى بعقله و عيناه منفتحتان من خلال قلبه على الكون. ما المرتجى من هذا السؤال أو من سؤال آخر يحمل التهكم و السخرية في عالم تحكمه الفوضى والمنفعة و لا ينقاد للعقل؟ سؤال: ألا زلت هنا في هذا الوطن؟ ألا زلت تكتب؟ سؤال المجتمعات الغير معترفة بحق الاختلاف و التميز السالبة لحرية وجودك. هذه المجتمعات أعطتك الفناء المسبق، إنه الفناء المصنوع بأيديهم و ليس الفناء المقدّر من الله.
أليست المظاهر البريئة الصادقة دليل أصحابها؟ للأسف هناك أنذالا دائما ينتحلونها يفسدون قيمة الأخلاق فيها، يشوّهون صورتها يحمّلونها محمل الفناء. من خلال ذلك يعلن الفرد حكمه، الحكم المعلن من الفرد وقتها غير قابل للنقاش و لا يحمل التأويل لأن الفرد حينئذ تحت تأثير صورة قبيحة متخيلة لردة الفعل. إنه يشابه نظام الفوضى الذي يحكمه. إن حكم الفرد واقع بحت فهو انعكاس لسلوكات وقعت عليه جورا وظلما وتضييقا هو الاستبداد المتبادل لا غير. الفرد وقتها يحكم حكمه بحكم المطلق كأن الفناء حل.. فداحة تأثير الفعل السالب يعمّم من خلاله الفرد الحكم الحاقد حتى على ما بقى من فعل بريء و نية صادقة داخل المحيط و المجتمع. كيف يصبح التمييز مقبولا بين السلوك الطبيعي الحقيقي و بين الانتحال لكثير من النفاق الذي لا زال في نفوسنا، إنه في الأصل كل فساد وهلاك قابلا في نفس الوقت للتصفية والتنقية. إنها منطلقات اللعبة الآدمية التي لم يردها الله أن تكون اللعبة و لكن شاءها الإنس و الجن. النظرة الصحيحة لا تحمل التجريح إنما تستلهم من جروح العلماء و الفلاسفة و المفكرين ترياقها. أحدث سقراط الجرح في أصل المنطق الأثيني وذم الآلهة الكثيرة ، فتح جرحا تداوى مع الزمن بالتوحيد لكن دفع روحه مقابل جرح أزلي. أحدث كوبرنكوس الجرح الكوني باكتشافه كروية الأرض ودورانها ودفع روحه ثمنا لاكتشافه ، أكتشف فرويد اللاوعي في الإنسان وكان مصطلح الجرح النرجسي من ابتكاره، أحدث نيوتن جرح الجاذبية في الفيزياء من الثمرة المتساقطة أصل الخطيئة الأولى كما احدث أينشتاين الجرح النسبي. من قبله أحدث ابن سينا الجرح الطبي بتشريحه اللحم البشري ونال من خلالها شهادة بدرجة الكفر.قال ميشال فوكو بالجنون بوصفه الآخر المنزاح من المركز وقال هايدغر أنه كائن التناهي و النسيان، هو موت الإنسان عند فوكو وموت المؤلف عند بارت ونهاية الإنسان عند فوكوياما، كل هذه الجروح كانت لتقترن بعمل الفناء بصفة أو بأخرى. بعض الجروح أنتقدت حركة المسيرة العلمية و الفلسفية و الدينية عبر تاريخ طويل إلى اليوم لأنها تحولت إلى صراع بوجوه كثيرة صراع التشاؤم الثقافي مع التشاؤم التاريخي. إن جرح نتشه في نهاية الرجل الأخير دعوة فناء لبعث جديد لرجل جديد نازعا عنه ثوب الصخب لابسا ثوب الإيمان و الصمت الموّلد لحلول المشكلات. الإنسان الإمبراطور. جرح فوكوياما في التاريخ بنهايته و انتصار الليبرالية توحش في طريق العولمة تمليه القوى المهيمنة على العقول الضعيفة لتسويق الوصاية الثقافية والحضارية و ثقافة التفوق للآخر. ألم يتحول هذا العصر إلى عصر دعوات الفناء أو التكهن باقتراب النهايات؟ أليست البحوث حول نهايات الثروات الحية القائمة عليها التكنولوجيا( النفط الغاز الماء) و الاحتباس الحراري واختراق الأغلفة الجوية و الخطر المحدق بالأرض من خلال النيازك التي ستصطدم بها أليست كل هذه استقراءات للفناء؟ أليست تنبؤات الرؤساء المتنازعون فيما بينهم بزوال دولة من على الأرض أو تهديد دولة بتفجير دولا بكاملها فناء؟ ألا ترى ممثلي الديانات المتشاحنة و اصطدام الحضارات دعوة للفناء؟ الإنسان اليوم ليس في موقف الفارح بما هو آتي بل المتأسي على ما فاته.إنه مجموع تأسفات كاملة لا يستنطقها الإنسان المعاصر داخل ذاته لأنه يعتقد اليقين أنه ليس طرفا فيما هو حادث و إنما هو نتاج لصناعة فناء صنعه من كان قبله لذلك يركز على اقتناص سعادته الآتية و لو على سعادة الآخرين معتقدا بالجزم في الفناء الذي قد ينزل في كل لحظة. هذا كله الحاصل خاصة في البلدان التي يفرّخ فيها التخلّف بسرعة الضوء أو هو استقراء المفكرين الذين يحيون في البلدان السائرة بسرعة الضوء حينما يُسْـقِطون واقع العالم على حال واقع البلدان المعطل عقل أهلها... ليتنا نصبر فقط ونأمل لغد جديد دون التفكير في الفناء الذي تختلقه الهيمنة لأجل تحويل الإنسان إلى آلة فناء من وفي ذاته .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق