الخميس، يوليو 03، 2008

مفاهيم خاطئة عن "المثقّفين العرب"

صبحي غندور

هناك مفاهيم خاطئة عن "المثقّفين العرب" من حيث تعريفهم أو تحديد دورهم. فهذه المفاهيم تفترض أن "المثقّفين العرب" هم جماعة واحدة ذات رؤية موحدة بينما هم في حقيقة الأمر جماعات متعدّدة برؤى فكرية وسياسية مختلفة قد تبلغ أحياناً حدّ التعارض والتناقض. وتوزيع دور هذه الجماعات لا يصحّ على أساس جغرافي أو إقليمي، فالتنوّع حاصل على معايير فكرية وسياسية.
إن "المثقّف" هو وصف لحالة فرديّة وليس تعبيراً عن جماعة مشتركة في الأهداف أو العمل. قد يكون "المثقّف" منتمياً لتيّار فكري أو سياسي يناقض من هو مثقّف في الموقع المضاد لهذا التيّار، وكلاهما يحملان صفة "المثقّف"!. فلا أحد ينكر على سبيل المثال، أنَّ الدكتور فؤاد عجمي هو مثقّف من أصل عربي لبناني مقيم في أميركا، تماماً كما الدكتور كلوفيس مقصود، لكن اشتراكهما في صفة "المثقّف" أو "الأصل العربي اللبناني" لا يضعهما في حالة متساوية أبداً، لا من حيث الفكر أو الدور ولا من حيث العمل المخلص لخدمة القضايا العربيّة.

ومن الأخطاء الشائعة أيضاً، تعريف المثقّف بأنَّه "المتعلّم" أو الحائز على لقب "الدكتور"، أو أنّه "المعارض" أو "الثائر"... إلخ، بينما حقيقة الأمر أنَّ "المثقّف" ليس الباحث أو الكاتب أو المتعلّم فقط، وليس الرجل دون المرأة فقط، وليس من على الدوام في موقع الرّافض أو المعارض أو "الوطني". بينما نجد في المواصفات العامة ل"المثقّف الملتزم بقضايا وطنه أو أمَّته"، ميزة الجمع لديه ما بين هموم نفسه وهموم الناس من حوله، كما الجمع عنده بين العلم أو الكفاءة المهنية، وبين الوعي والمعرفة بمشاكل المجتمع حوله. أي أن "المثقف الملتزم" هو "طليعة" قد تنتمي إلى أيِّ فئة أو طبقة من المجتمع، لكن تحاول الارتقاء بالمجتمع ككلّ إلى وضع أفضل ممّا هو عليه.

وإذا كان البعض يعتبر أنّ الثقافة هي محاولة البحث عن الحقيقة، فإنّ دور المثقف يكون بالسعي الدائم لإيجاد تناسق بين الحقيقة والواقع، وبالسعي لتغيير هذا الواقع نحو الأفضل.

وهناك عدد لا بأس به من المثقّفين في المنطقة العربيّة الذين يرفضون الاعتراف بالانتماء إلى هويّة عربيّة، وهؤلاء تجوز تسميتهم ب"المثقّفين العرب" وإن كانوا لا يعتقدون أصلاً بالعروبة ويناهضونها فكراً وعملاً!
لذلك من الأجدى دائماً وضع تعريف فكري أو سياسي برفقة صفة "المثقّف"، كالقول هذا "مثقف إسلامي أو علماني أو قومي أو ليبرالي".. الخ، وليس اعتماد الحالة الجغرافية كدلالة على المشترك ما بين المثقّفين.
وما ينطبق على تعريف "المثقفين العرب" يصّح أيضاً على المثقّفين داخل كل بلد عربي. فالحديث عن "المثقّفين اللبنانيين" أو "المصريين".. لا يعني وجود توافق فكري أو سياسي بينهم يستوجب منهم عملاً مشتركاً.
إذن، إنَّ السؤال عن "دور المثقف العربي اليوم" يتطلّب، أولاً، وجود مثقّفين عرب يعتقدون بدايةً بمفاهيم فكريّة مشتركة حول الانتماء والهويّة، وحول توصيف الواقع وأسباب مشاكله، ثمَّ سعيهم لوضع رؤية فكريّة مشتركة لمستقبل عربي أفضل. عند ذلك يمكن لهذه الفئة من "المثقّفين العرب" أن تقدّم الإجابة السليمة عن سؤال: "ما دور المثقف العربي اليوم؟".
أمّا الحديث بالمطلق عن "المثقّفين العرب" والتساؤلات عن غياب دورهم، فأمر غير صحيح ولا هو بالواقعي. فهناك "مثقّفون عرب" يدافعون الآن عن واقع الحال القائم، كما هناك من يختلف معهم بالرأي والتوصيف ويناقضهم في الفكر والعمل.
فالضعف الآن هو في فئة "المثقّفين" المعتقدين فعلاً بالهويّة العربيّة، والرافضين فكريّاً وعمليّاً للفصل بين أهداف تحتاجها الأمّة العربيّة كلّها. الضعف هو في غياب التنسيق والعمل المشترك بين من هم فكريّاً في موقع واحد لكنّهم عمليّاً وحركيّاً في شتات بل في تنافس أحياناً.

إنّ الكفاءات العربية تحتاج لكي تبدع في المنطقة العربية الآن إلى شعار جديد تضغط على الحكومات العربية لتنفيذه في دولها: "دعه يمر.. دعه يعمل.. دعه يفكر.. دعه يقول"، وفي تنفيذ هذا الشعار إسقاط لعناصر التقسيم والتشرذم والبطالة والاستبداد، وتجميد لنزيف الأدمغة العربية وهجرتها إلى الخارج.
إنّ الاصلاح والتصحيح والتغيير مسائل كلّها مطلوبة، وتحقيقها ممكن، لكنّها غايات للعمل الجماعي على المدى الطويل، لا بالعمل الفردي وحده، أو بمجرد التنظير الفكري لها.
لكن في كل عمليّة تغيير هناك ركائز ثلاث متلازمة من المهمّ تحديدها أولاً، هي: المنطلق، الأسلوب، والغاية. فلا يمكن لأيِّ غاية أو هدف أن يتحقّقا بمعزل عن هذا التّلازم بين الركائز الثلاث. أي أنّ الغاية الوطنيّة أو القوميّة لا تتحقّق إذا كان المنطلق لها، أو الأسلوب المعتمد من أجلها، هو طائفي، مذهبي، أو مناطقي.
ولعلّ في تحديد (المنطلقات والغايات والأساليب) يكون المدخل السليم لدور أكثر إيجابيّة وفعاليّة ل"المثقف العربي الملتزم بقضايا أمته".

إنّ المشكلة في الواقع العربي الرّاهن الآن هي أنّ معظم "الجيل القديم" يحمل أفكاراً مليئة بالشوائب والحالات المرضيّة الذهنيّة الموروثة التي كانت في السابق مسؤولة عن تدهور أوضاع المجتمعات العربيّة وتراكم التّخلّف السياسي والاجتماعي والثقافي في مؤسّساتها المختلفة.
فالمفاهيم المتداولة الآن في المجتمعات العربيّة هي التي تصنع فكر الجيل الجديد وهي التي ترشد حركته. لذلك نرى الشّباب العربي يتمزّق بين تطرّف في السّلبيّة واللامبالاة، وبين تطرّف في أطر فئويّة بأشكال طائفيّة أو مذهبيّة استباح بعضها العنف بأقصى معانيه وأشكاله.
وباستثناء ظاهرة المقاومة ضدّ الاحتلال وبعض التجارب التنموية الناجحة في دول الخليج العربي، هناك الآن حالة سوداويّة من الصّراعات العربيّة ومن غياب الأطر الجامعة وانعدام القيادة السّليمة للأمّة. فالمشكلة اليوم هي في الفكر والأساليب معاً، في الحكومات وفي المعارضات، في الواقع وبالبدائل المطروحة له.
فعسى أن نشهد قريباً ولادة جيل عربي جديد يُجسّد دور "المثقف الملتزم" ويحرص على هويّته الثقافيّة العربيّة ومضمونها الحضاري، وينطلق من أرضيّة عربيّة ووطنيّة مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة لا الانتماء الطّائفي أو المذهبي أو الأصول العرقيّة، وتستهدف الوصول - بأساليب ديمقراطيّة لا عنفيّة - إلى " اتّحاد عربي ديمقراطي" متحرّر من التدخّل الأجنبي، وتتساوى فيه حقوق الأوطان وواجباتها كما تتساوى في كلٍّ منها حقوق المواطنين، رجالاً كانوا أم نساء.

ليست هناك تعليقات: