الأحد، مايو 04، 2008

"رجولة" مأزومة في عالم يتجه لفضاء "انثوي" رحب!


وجيهـة الحويــدر

لملايين السنين تشكلت التركيبة البشرية على حسب الإدراك الذهني والقدرات الجسدية التي طوّرها البشر مع التحديات الخارجية والظواهر الطبيعية التي جابهوها بشكل يومي في الفضاء الخارجي. البشر الذين قطنوا الكهوف والغابات والصحاري لم يكن امامهم في الدنيا انذاك سوى تحدٍ واحد، وهو ان يبقوا احياء وقادرين على مواصلة العيش في عالم مبهم محفوف بالمخاطر.

دور المرأة والرجل من اجل البقاء كان متشابها الى حد كبير في العهد البدائي مثل جميع مخلوقات المملكات الحيوانية، لكن نعمة الإنجاب جعلت المرأة اكثر اتزاناً وتيقناً ان الجري وراء لقمة العيش وقنص الحيوانات الكبيرة ليس الحل الوحيد للبقاء على وجه هذه الارض، فالمرأة اعتمدت ايضاً في تلك الزمانات السحيقة على قدراتها الذهنية وحدسها اليقظ، فابتكرت فنون الحرث والزرع، والصناعات اليدوية، وبقيت متمسكة بمهارات الصيد من خلال قنص الحيوانات الصغيرة، وصيد الاسماك من الانهار والبحار.

منذ تلك الحقبة الزمنية البدائية صارت المرأة هي المسؤولة عن تدبير الغذاء لصغارها، والاهتمام بهم حتى تقوى اجسادهم وتشتد سواعدهم ويصبحون مؤهلين لمواجهة الحياة. إذا جُبلت المرأة جينياً وبيولوجياً وذهنياً على ان تكون هي العامود الفقري لإستمرار حياة القبيلة وصغارها وضعافها ومسنـّيها. اثناءها ظل الرجال يـُطاردون ويصطادون الحيوانات الكبيرة، ومنها طوروا الروح القتالية، وادوات الفتك بالحيوان من اجل البقاء. ايضا اجسادهم صارت اكثر قوة وصلابة وأزيد تحملاً لمشاق مهام الصيد والقنص وحماية القبيلة.

بعد تشكيل تكتلات بشرية مستقرة في مناطق مختلفة من العالم، المرأة كانت هي مصدر السلطة انذاك، لأنها هي المُلمة بأحوال الجماعات واحتياجاتهم ، لذلك تطور دورها لأنها هي المقيمة في المكان وليس الرجل، فالرجل كان مشغولاً بمغامراته الخارجية، وانتصاراته في جلب الغنائم الغذائية. خلال تلك الفترة الزمنية تبوأت "الانوثة" مكانة رفيعة وتحولت الى رمز قداسي عظيم، الى ان صارت الآلهة انثى عبر جميع الثقافات مثل "عشتار" و"افروديت" و"سميراميس" و"اللات" و"العزى" و"مناة" وغيرهن. ذاك هو العهد الامومي قبل ان تكون الغلبة لمن يكتنز العضلات الصلبة والجسد الأقوى.

بعد قرون طويلة لإستيلاء الانثى على الفضاء الخارجي، والتحكم في جميع امور الحياة وشؤون المجتمع البدائي، الرجل بروحه القتالية التي طورها عبر آلاف السنين، صار يغيـّر في موازين المعادلة الأنثوية، تحولت مهارات الصيد لأهداف اخرى، فلم يعد يصطاد الرجل من اجل ان يعيش ويساند قبيلته، بل من اجل أن يمتلك ويستولي ويصبح صاحب سلطة. المرأة هنا دبـّى في جوفها الخوف، فتنحت شيئاً فشيئأ عن الساحة، وسلمت صولجان الحكم للرجل، لأنه صار يقتل ويفتك بأرواح اناس مثلها. رعبها من الفحولة الصاعدة، جعلها تلتصق بالرجل أكثر من اجل ان تحصل على حمايته، ويكـّفها من شرور وقسوة الرجال الآخرين. هنا بدأ دور المرأة يتلقص وينحصر وازدهر العهد الأبوي، وتربعت الرجولة على العرش. حُطم المفهوم القدسي الانثوي، وتحولت رموز الألوهية من الأنوثة الى الذكورة في معظم الاديان، فيما عدا الاديان المتعددة الآلهات. طوى الزمن اكثر من سبع آلاف سنة على تطور المجتمعات الأبوية المدون، ومع ذلك ظلت للأنثى بقايا رموز تبجيليـة في مختلف الثقافات، لأن المرأة ما زالت تمتلك هبة الأمومة وانجاب حياة لهذه الحياة.

في عصرنا الحالي تطورت الحياة التكنولجيا بشكل متسارع ومقلق لكلا الجنسين. المرأة والرجل صارا يصارعان ربكة سيكلوجية وهواجس نفسية، لأن كل واحد منهما مازال يبحث عن مكانه في المجتمع بسبب ذاك الحراك النهضوي العجيب. في العالم الحر لم يعد ممكنا التريث أو الانتظار عند نقطة زمنية محددة. ما قبل وما بعد صارا مفهومان لا يحتملان بطء سير عقارب الساعة. "الاشكالية" الايجابية التي نراها اليوم ان العالم في عودة لا إرادية للعهد الأنثوي والنعومة، ولكن هذه المرة بلباس تكنولوجي زاهي. الأعمال صارت في مجملها لا تتطلب قوة جسدية بقدر ما تتطلب قوة ذهنية. حتى الاعمال الشاقة مثل خوض الحروب، وبناء ناطحات السحاب، واستخراج النفط، وتعبيد الطرقات، وتشييد الجسور، ومد سكك الحديد، وصناعة الطائرات والمعدات الضخمة، باتت اقل مشقة. صار حتى الرجل ذو البنية الهزيلة في المجتمعات الصناعية يستطيع ان يقوم بتلك الاعمال الصعبة، لأنها مرات كل ما يحتاجه هو تحريك مقود آلة لترفع الادوات وتضعها في اماكنها، او ربما بكبسة زر يحرّك اطناناً من مواد البناء ويرصها فوق بعضها البعض. تلك الوظائف الشاقة صار بإمكان المرأة ان تزوالها ايضاً، لكنها لا زالت جينياً وليس جسدياً لا تميل اليها.

ازمة "الرجولة" طفت على السطح مع تلك التحولات في طبيعة انجاز الأعمال، صارت تعتمد على قدرات ذهنية وحدس يقظ اكثر من اعتمادها على فحولة وعضلات مفتولة. هنا صار خلل وارتباك جيني اكثر منه اجتماعي في اعماق الرجل ومفهوم "الرجولة". لم يعد ثمة حضورا للجسد أو مواصفات خاصة في ساحة العمل، حتى المعاق جسدياً اصبح يقوم بعمل الانسان السليم المتعافى. تلك البلبلة الذاتية في مفهوم "الرجولة" تولدت وتفاقمت في داخل الرجال وعلى مستوى جميع الثقافات في العالم. المجتمعات المتطورة استحدثت الرياضة لتحل محل ساحة الصيد والقتال. الرياضة اصبحت لكثير من الرجال ملجأ لتسكيت ذاك التأجج الفحولي في الذكورة المعاصرة. فالألعاب "الشاقة" مثل "كرة القدم الأمريكية" التي تـُزوال بشبق رياضي ملحوظ في امريكا الشمالية و"الرقبي" التي تـُزوال في دول اوروبا، و"كرة القدم العالمية" تمارس في شتى انحاء الدنيا، هي ما تبقى من الفحولة لمعظم رجال تلك الشعوب. وعلى الضفة الأخرى الدين صار يدب من جديد في قلوب ذكور آخرين في العالم الحر، لأنه يمدهم بصلاحيات وسلطة هم في حاجة لإقتناءها مرة اخرى، لأن المرأة الغربية صارت تتساوى مع الرجال في جميع الادوار وحتى على مستوى رؤوساء ووزراء. ايضا انتشرت ظاهرة ارتباط رجال غربيين من نساء شرقيات خاصة من شرق آسيا الخانعات. تلك الظاهرة تتكاثر وتنتشر بين الغربيين مثل الوباء المعدي، لأنها تـُهدء هاجس الفحولة الملح في نفوس بعضهم، وتلبي احتياجتهم النفسية والبيولوجية في آن واحد.

ايضا أزمة "الرجولة" تسربت بشكل كبير في نفوس الذكور في الدول الأقل تطوراً وقبولاً للنهضة التكنولوجية والثقافية. صاروا الذكور اكثر دراية ووعياً بأن بساط الفحولة سيـُسحب من تحت اقدامهم المرتبكة في زمانات قريبة جدا، لذلك ازدادت مقاومتهم وتصلبهم ضد اي تحولات لدور المرأة في المجتمع. ايضا الدين اشتد ساعده وعـُزز التفسير الراديكالي للدين خاصة في دول الشرق، لأنه يـُطالب بشدة بزج المرأة في غياهب البيوت، ويحرص على اخفاء هويتها كبشر. في تلك المجتمعات المصابة بداء التخلف التكنولوجي والعلمي والثقافي والفكري، تحولت المرأة الى اداة لترسيخ مبادىء مقاومة الرجل للحراك النهضوي، لأن المرأة ما زالت تعيش خوف قديم ومتوارث لآلاف السنين من ثقافة المجتمع الابوي. بالطبع المرأة لن يكن من السهل عليها ان تشعر بآدميتها طالما الرجل مرعوبا من ذلك ويحاربها بشتى السبل.

ثمة عوامل جينية وبيولوجية في اعماق الذكورة المعاصرة جعلت من الرجال مقاومين ومحاربين على جميع المستويات في عالم يتجه لفضاء "انثوي" رحب.ثقافة السلاح والارهاب والعنف الاسري ازداد في جميع المجتمعات، وثمة انتهاكات سافرة لحقوق المرأة مازالت سياسة مقبولة بين اكثر من ثلثي شعوب العالم، وعدم مساواة المرأة بالرجل في الدخل امر معمول به حتى في العالم الحر، ايضاً نسبة جرائم الاعتداءات والتحرشات الجنسية في تزايد مستمر. تلك علامات واضحة تُـبين مقاومة ذكورية لثقافة انثوية متراكمة لعهود سحيقة، طفت مؤخرا على السطح بدون سابق انذار. سيحتاج النساء والرجال على حد سواء الى تقديم تنازالات وابرام معاهدات ليُعاد التوازن بين الجنسين، ولكي يتكيفوا مع ذلك التحول التاريخي الجديد، حيث لا غالب ولا مغلوب في عالم النعومة والانوثة. الامران المهمان اليوم هما هل ستستجيب انظمة ثلثي العالم، والتي مازالت تبث ثقافة عدائية ضد المرأة، الى تلك "الصيحات التكنولوجية" المتسارعة والنداءات الحقوقية بدون ان يسببوا آلاما واوجاعاً اكثر للنساء في بلدانهم؟؟ وهل سيـُدرك شعوب العالم أجمع ان الإنسانيـة تحتمل الأثنين معاً الأنوثة والذكورة على حد سواء، وانه بدون المساواة بينهما الحياة ليست بحياة؟

ليست هناك تعليقات: