نقولا ناصر
بينما المصريون منشغلون ب"التهدئة" علها ، بعد ان نجحوا في اقناع المقاومة الفلسطينية بها ، تساعد الرئاسة الفلسطينية في "تاهيل" نفسها لاقناع الادارة الاميركية بالوفاء بوعدها لها بتحقيق "رؤية" رئيسها جورج دبليو. بوش حول "حل الدولتين" ، يخرج بوش على الملأ ، من الكنيست ، اعلى منبر في دولة الاحتلال الاسرائيلي ، ليعد باختفاء حماس خلال "ايام او شهور" ، فيعطي الضوء الاخضر الاميركي للاحتلال كي ينفذ عدوانه المبيت على قطاع غزة ، تحت اضواء عالمية وعلى ارفع مستوى ، دون ان يجد أي جدوى في اغتنام مناسبة زيارته لينقل الى الاسرائيليين رسالته التي تعهد بها للفلسطينيين باقامة دولة لهم ، ليحكم بذلك على الجهود المصرية للتهدئة بالفشل وليبدد آخر امل للرئاسة الفلسطينية في ان يفي بوعوده لها ويقضي على ما تبقى من مصداقية لنهج الرئاسة الفلسطينية السياسي ويوجه اكبر ضربة حتى الان لاضعاف الرئيس محمود عباس وهو الذي يقول عنه انه "الشريك" الفلسطيني في "عملية السلام" .
ومثل هذه المقدمات ينبغي ان تقود الى نتائجها المنطقية فلسطينيا فيوقف الرئيس عباس المفاوضات والتنسيق الامني مع دولة الاحتلال ، ويمتنع عن لقائه المقبل مع بوش في شرم الشيخ ويستبدلها بالاستجابة لدعوة حماس لزيارة غزة ليبعث رسالة وطنية فلسطينية بان الشعب الفلسطيني سيكون موحدا في مواجهة أي عدوان ، وينهي حملة "الاغتيال السياسي" لحماس حتى لا تكون غطاء وذريعة لاجتياح القطاع .
ومما نشرته الاهرام المصرية يوم الخميس الماضي عن "مصدر امني رفيع المستوى" أنه سيتم خلال هذا الأسبوع الاجتماع مع ممثلي التنظيمات الفلسطينية للاتفاق علي أسس التحرك خلال المرحلة المقبلة ، وبداية تنفيذ التهدئة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وتاكيد المصدر أن المباحثات الاخيرة لرئيس المخابرات العامة الوزير عمر سليمان في إسرائيل "أسفرت عن تأييد وتفهم القادة الإسرائيليين للرؤية المصرية بشأن التهدئة المتزامنة والمتبادلة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي" لا يسع المراقب الا تسجيل حرص القاهرة على خلق اجواء متفائلة تتناقض الدوافع والأهداف المصرية لخلقها مع كل التجربة التاريخية لدولة الاحتلال الاسرائيلي مع اتفاقيات الهدنة مع العرب ، سواء على المستوى الرسمي ام غير الرسمي ، بقدر ما تتناقض مع وضع دولي واقليمي وحتى فلسطيني يشجعها على مواصلة العدوان على الشعب الفلسطيني وحصاره .
فتصريحات رئيس وزراء دولة الاحتلال ايهود اولمرت ووزير حربه ايهود باراك جميعها خلال الايام الاخيرة تشير في اتجاه معاكس تماما لاي تهدئة ، خصوصا بعد سقوط مقذوف فلسطيني على مجمع تجاري في عسقلان يوم الاربعاء الماضي قال الاول ان الوضع الناجم عنه "لا يطاق وغير مقبول" بينما قال الثاني ان مثل هذا الوضع لا يمكنه ان يستمر ، مع حرص كليهما على التعتيم على شعبهما اولا ثم على الراي العام العالمي انهما واسلافهما قد فرضوا على الشعب الفلسطيني ورئاسته ان "يطيقوا" و "يقبلوا" التفاوض معهم بينما آلتهم العسكرية قد حولت الحياة اليومية للفلسطينيين تحت الاحتلال منذ عام 1967 الى "وضع مماثل" طويل الامد في كل مدينة وقرية ومخيم فلسطيني ، وليس لمرة واحدة او اثنتين وكحالة معزولة ، وبينما التوجه الاسرائيلي ل"تابيد" هذا الوضع يحظى بضوء اخضر اميركي وسلبية اوروبية وعربية غير بريئة تجد جميعها ذرائع لها في التناقض بين قول الرئاسة الفلسطينية وبين فعلها او عدم فعلها ، مما يقود عمليا الى استمرار الوضع الراهن في قطاع غزة .
واذا كان موقفا الاحتلال الاسرائيلي وراعيه الاميركي غنيان عن البيان بالنسبة للشعب الفلسطيني ، ومثلهما الموقف العربي ، فان موقف الاتحاد الاوروبي ليس كذلك ، اولا بسبب اختبائه خلف الموقف الاميركي وثانيا لكونه "المانح" الاول للرئاسة الفلسطينية وثالثا لان مفاصل هامة برلمانية واعلامية واكاديمية وثقافية تقف الى جانب الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره فيخطف تضامنها وتعاطفها الاضواء الفلسطينية بعيدا عن الموقف "الرسمي" للاتحاد الذي لا يستطيع فكاكا من التبعية السياسية للموقف الاميركي لكي ينهي التناقض بين وزنه الاقتصادي وبين فعله السياسي وبين بياناته المؤيدة لانهاء الاحتلال والوقف الكامل لكل الاستعمار الاستيطاني الاستئصالي الاسرائيلي وبين عجزه عن وضع سيفه ويده حيث لسانه ، ليتحول هذا العجز بدوره الى ضوء اخضر اوروبي لدولة الاحتلال كي لا ترتدع .
ومناسبة هذه الاطلالة على الموقف الاوروبي ما نسبته اذاعة جيش الاحتلال الاسرائيلي يوم الاربعاء الماضي الى وزير الخارجية الاسباني ، ميغويل موراتينوس ، دون أي نفي من اية جهة لما نسبته اليه حتى الان من دعوته ، خلال حديث مع قادة الاحتلال في اليوم السابق ، الى مؤتمر دولي يضم الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة واسرائيل والاردن ومصر يبحث كيفية "اسقاط نظام حماس" في قطاع غزة ! ان مثل هذا الضوء الاخضر الاسباني ، ان صح ما نسب الى موراتينوس ، للعدوان الشامل على القطاع سوف يسقط الصورة الايجابية المعروفة فلسطينيا عن الرجل كصديق للشعب الفلسطيني ورمزه الراحل ياسر عرفات ، لكن الاخطر ان هذا الضوء سيعطي دفعة اوروبية ترجح كفة ميزان المغامرين العسكريين الاميركيين والاسرائيليين الذين يتحينون فرصة او ذريعة او ضوءا اخضر مماثلا لارتكاب مجزرة جماعية في القطاع تقضي على أي جهد مصري او غير مصري ل"التهدئة" .
اما موقف الرئاسة الفلسطينية من التهدئة فانه ايجابي لفظا لكنه سلبي عمليا فهي من جهة تصر على ان تكون شريكا في أي تهدئة بالرغم من انها ليست شريكا في "عدم التهدئة" ، في الاقل في القطاع ، مما يدفع المقاومة في غزة الى انتقادها بالقول ان من يحارب هو من يسالم اما من لا يحاربون فلا يحق لهم ان يفاوضوا على التهدئة او يكونوا شركاء فيها ، وهي من جهة اخرى تقف محايدة تماما وكانها غير معنية من اشتراط المقاومة ان تكون التهدئة ، ان تم التوصل اليها ، شاملة للضفة الغربية ايضا ، حيث الاحتلال يواصل عدوانه من جانب واحد بالرغم من التزام الرئاسة التزاما صارما بالتهدئة من جانب واحد لا بل انها تنسق امنيا مع الاحتلال لضمان استمرارها من جانب واحد ، مما شجع الاحتلال في مفاوضات التهدئة على التذرع بموقف الرئاسة هذا ليجادل بان السلطة "الشرعية" في الضفة هي المعنية بالتهدئة فيها وبالتالي فان غزة ليست مخولة للتفاوض عنها ، ومن هنا "مرونة" غزة حول هذا الشرط .
ان عملية الفصل التعسفي المستحيل وغير الواقعي بين حماس وبين الشعب الفلسطيني في القطاع التي تعتمدها الرئاسة ، وهو الموقف ذاته الذي تدعيه حكومة الاحتلال ، والتناقض بين اقوالها كما ترد في تصريحاتها وبيانات حكومتها واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تقودها والتي تطالب برفع الحصار عن القطاع ووقف العدوان عليه وبين مواقفها الفعلية العملية التي تمثل عملية "اغتيال سياسي" يتذرع بها الاحتلال وراعيه الاميركي ليسوغان من جهة اعلان القطاع "كيانا معاديا" يمكن فرض العقوبات الجماعية عليه ثم تصفية هذا الكيان عسكريا من جهة اخرى .
والا كيف يمكن التفسير بغير "الاغتيال السياسي" اقدام الرئاسة على حظر الجناح المقاوم لحماس باعتباره "خارجا على القانون" ، واعتبار رئيس حكومة الوحدة الوطنية الشرعية المقالة زعيم "انقلاب" قادته حركته التي حازت على اصوات تفوق كل تلك التي حصلت عليها كل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية مجتمعة في الانتخابات الاخيرة لانه حسم فلتانا امنيا كانت الرئاسة تشكو منه قبله ، ورفض التعامل مع ادارة الامر الواقع التي اقامها في القطاع مكرها لا مختارا ورفض الحوار مع حركته قبل تلبية شروط اسرائيلية –اميركية صاغتها الرئاسة بلغة عربية موشاة بزخارف لفظية فلسطينية ، وتكرار تغذية الة الدعاية الضخمة للاحتلال باقتباسات فلسطينية على ارفع مستوى لمقولات هي في الاصل صناعة اسرائيلية انتجت في مطابخ الحرب النفسية والاعلامية لمخابرات الاحتلال واستخباراته ، مثل الحديث عن البيئة الحمساوية التي ادخلت "القاعدة" الى القطاع وخدمة اجندات خارجية لدول يتهمها التحالف الاسرائيلي الاميركي بدعم "الارهاب" ، وادانة "العنف" الدفاعي الذي تمارسه جميع الفصائل الفلسطينية دون استثناء لمقاومة ارهاب الدولة الاسرائيلي للاتفاق "مصادفة" مع دولة الاحتلال في تحميل المقاومة المسؤولية عما تسميه "الارهاب" (ويمكن هنا تذكر التصريح الرئاسي المشهور عن ان اسر جندي الاحتلال كلف الشعب الفلسطيني مئات الشهداء مع ان الاف الشهداء الفلسطينيين سقطوا قبل ذلك) ، وعدم الاقدام على أي اجراء عملي لرفع الحصار عن القطاع ووقف العدوان المتواصل عليه يمكن ان يفسر بان هذين المطلبين يمثلان اولوية في الاجندة السياسية للرئاسة وحكومتها ، مثل تعليق التنسيق الامني مع الاحتلال لحين تلبيتهما او اشتراط تلبيتهما لمواصلة المفاوضات او تنظيم حملة دولية موازية في الاقل لا بديلة لحملة الرئاسة من اجل حشد اموال المانحين والمستثمرين لسلطة الحكم الذاتي تضع المطلبين على جداول اعمال المنتديات الاقليمية والدولية "الصديقة" للرئاسة ، الخ .
ان دولة الاحتلال تبيت عدوانا على القطاع وهي غير معنية الا بتهدئة فلسطينية من جانب واحد تمليها بشروطها واذا لم تستطع ذلك دبلوماسيا فبالتها العسكرية وهذه هي خلاصة التجربة الفلسطينية مع دولة الاحتلال منذ نجحت الرئاسة الفلسطينية في انتزاع تهدئة من المقاومة وحماس تحديدا منذ اتفاق القاهرة الفلسطيني اوائل عام 2005 ، فماذا كانت النتيجة خلال العامين التاليين قبل "سيطرة" حماس على مقاليد الامور في غزة التي يتذرع الاحتلال بها الان ؟ الا يكفي الوضع في الضفة الغربية ، مقر الرئاسة ، شاهدا على نوايا الاحتلال حيث يواصل عدوانه من جانب واحد بالرغم من التزام الرئاسة ايضا من جانب واحد بالتهدئة حد التنسيق الامني مع الاحتلال ضد "العنف" وعناصره وثقافته واي حاضنة شعبية له حتى لو كانت روضة اطفال تديرها جمعية خيرية !
ان "الوضع الراهن" الذي يريدون استمراره في القطاع ينتظر موعدا لتنفيذ ما سبق لباراك ان قال انه خطة جاهزة لاجتياح القطاع بانتظار موافقة اولمرت عليه وفي هذه الحالة ستدفع المقاومة الى وقفة تاريخية تصنع ملحمة فلسطينية معاصرة لاسطورة "مسعدة (ماسادا)" التي تقول الرواية اليهودية ان الجيش الروماني حاصر القلعة المطلة على البحر الميت حتى اجبر المحاصرين اليهود فيها على "الانتحار الجماعي" ، الذي يمجده اليهود والاسرائيليون باعتباره "بطولة خالدة" حظيت بمبادرة الرئيس الاميركي بوش لتخليدها بدوره بزيارة لما يقول اصحابها انه "اثارها" اثناء زيارته لدولة الاحتلال نهاية الاسبوع الماضي ، غير مكتف ب"احتفاله" بما وصفته غريمته السياسية "الديموقراطية" رئيسة مجلس النواب في الكونغرس نانسي بيلوسي بانه اعظم انجاز للبشرية في القرن العشرين الماضي ، اي انشاء الدولة التي يؤيد كليهما الان "يهوديتها" ويسعيان الى املاء القبول بيهوديتها على العرب وبخاصة الفلسطينيون منهم .
لكن الفوارق ستكون اساسية بين الملحمة المحتملة وبين اسطورة مسعدة فعرب فلسطين في القطاع ، الذين يحرم دينهم الحنيف الانتحار ، لن ينتحروا لا افرادا ولا جماعة ولن يقتلوا اطفالهم ونساءهم ثم يقتلون بعضهم كما فعل اصحاب الاسطورة حسب ما يقول رواتها اليهود ، بل سيقاتلون الغازي رجالا واطفالا ونساء حتى يندحر او يستشهدون ، اقتداء بتراث اسلافهم في تاريخهم الوطني والعربي والاسلامي ، في ملحمة لن تكون معركة مخيم جنين عام 2002 الا مصغرا لها ولن تكون نتيجتها بالتاكيد مثل نتيجة الماسادا اليهودية ، لينتهي وجودهم ويزول اثرهم ، بل لتفجر عاصفة وطنية ستكون بالتاكيد اعتى من "العاصفة" التي فجرتها معركة الكرامة في غور الاردن عام 1968 ، لمن ما زالوا يتذكرون "الكرامة" وثقافتها ومرجعياتها الوطنية .
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
بينما المصريون منشغلون ب"التهدئة" علها ، بعد ان نجحوا في اقناع المقاومة الفلسطينية بها ، تساعد الرئاسة الفلسطينية في "تاهيل" نفسها لاقناع الادارة الاميركية بالوفاء بوعدها لها بتحقيق "رؤية" رئيسها جورج دبليو. بوش حول "حل الدولتين" ، يخرج بوش على الملأ ، من الكنيست ، اعلى منبر في دولة الاحتلال الاسرائيلي ، ليعد باختفاء حماس خلال "ايام او شهور" ، فيعطي الضوء الاخضر الاميركي للاحتلال كي ينفذ عدوانه المبيت على قطاع غزة ، تحت اضواء عالمية وعلى ارفع مستوى ، دون ان يجد أي جدوى في اغتنام مناسبة زيارته لينقل الى الاسرائيليين رسالته التي تعهد بها للفلسطينيين باقامة دولة لهم ، ليحكم بذلك على الجهود المصرية للتهدئة بالفشل وليبدد آخر امل للرئاسة الفلسطينية في ان يفي بوعوده لها ويقضي على ما تبقى من مصداقية لنهج الرئاسة الفلسطينية السياسي ويوجه اكبر ضربة حتى الان لاضعاف الرئيس محمود عباس وهو الذي يقول عنه انه "الشريك" الفلسطيني في "عملية السلام" .
ومثل هذه المقدمات ينبغي ان تقود الى نتائجها المنطقية فلسطينيا فيوقف الرئيس عباس المفاوضات والتنسيق الامني مع دولة الاحتلال ، ويمتنع عن لقائه المقبل مع بوش في شرم الشيخ ويستبدلها بالاستجابة لدعوة حماس لزيارة غزة ليبعث رسالة وطنية فلسطينية بان الشعب الفلسطيني سيكون موحدا في مواجهة أي عدوان ، وينهي حملة "الاغتيال السياسي" لحماس حتى لا تكون غطاء وذريعة لاجتياح القطاع .
ومما نشرته الاهرام المصرية يوم الخميس الماضي عن "مصدر امني رفيع المستوى" أنه سيتم خلال هذا الأسبوع الاجتماع مع ممثلي التنظيمات الفلسطينية للاتفاق علي أسس التحرك خلال المرحلة المقبلة ، وبداية تنفيذ التهدئة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وتاكيد المصدر أن المباحثات الاخيرة لرئيس المخابرات العامة الوزير عمر سليمان في إسرائيل "أسفرت عن تأييد وتفهم القادة الإسرائيليين للرؤية المصرية بشأن التهدئة المتزامنة والمتبادلة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي" لا يسع المراقب الا تسجيل حرص القاهرة على خلق اجواء متفائلة تتناقض الدوافع والأهداف المصرية لخلقها مع كل التجربة التاريخية لدولة الاحتلال الاسرائيلي مع اتفاقيات الهدنة مع العرب ، سواء على المستوى الرسمي ام غير الرسمي ، بقدر ما تتناقض مع وضع دولي واقليمي وحتى فلسطيني يشجعها على مواصلة العدوان على الشعب الفلسطيني وحصاره .
فتصريحات رئيس وزراء دولة الاحتلال ايهود اولمرت ووزير حربه ايهود باراك جميعها خلال الايام الاخيرة تشير في اتجاه معاكس تماما لاي تهدئة ، خصوصا بعد سقوط مقذوف فلسطيني على مجمع تجاري في عسقلان يوم الاربعاء الماضي قال الاول ان الوضع الناجم عنه "لا يطاق وغير مقبول" بينما قال الثاني ان مثل هذا الوضع لا يمكنه ان يستمر ، مع حرص كليهما على التعتيم على شعبهما اولا ثم على الراي العام العالمي انهما واسلافهما قد فرضوا على الشعب الفلسطيني ورئاسته ان "يطيقوا" و "يقبلوا" التفاوض معهم بينما آلتهم العسكرية قد حولت الحياة اليومية للفلسطينيين تحت الاحتلال منذ عام 1967 الى "وضع مماثل" طويل الامد في كل مدينة وقرية ومخيم فلسطيني ، وليس لمرة واحدة او اثنتين وكحالة معزولة ، وبينما التوجه الاسرائيلي ل"تابيد" هذا الوضع يحظى بضوء اخضر اميركي وسلبية اوروبية وعربية غير بريئة تجد جميعها ذرائع لها في التناقض بين قول الرئاسة الفلسطينية وبين فعلها او عدم فعلها ، مما يقود عمليا الى استمرار الوضع الراهن في قطاع غزة .
واذا كان موقفا الاحتلال الاسرائيلي وراعيه الاميركي غنيان عن البيان بالنسبة للشعب الفلسطيني ، ومثلهما الموقف العربي ، فان موقف الاتحاد الاوروبي ليس كذلك ، اولا بسبب اختبائه خلف الموقف الاميركي وثانيا لكونه "المانح" الاول للرئاسة الفلسطينية وثالثا لان مفاصل هامة برلمانية واعلامية واكاديمية وثقافية تقف الى جانب الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره فيخطف تضامنها وتعاطفها الاضواء الفلسطينية بعيدا عن الموقف "الرسمي" للاتحاد الذي لا يستطيع فكاكا من التبعية السياسية للموقف الاميركي لكي ينهي التناقض بين وزنه الاقتصادي وبين فعله السياسي وبين بياناته المؤيدة لانهاء الاحتلال والوقف الكامل لكل الاستعمار الاستيطاني الاستئصالي الاسرائيلي وبين عجزه عن وضع سيفه ويده حيث لسانه ، ليتحول هذا العجز بدوره الى ضوء اخضر اوروبي لدولة الاحتلال كي لا ترتدع .
ومناسبة هذه الاطلالة على الموقف الاوروبي ما نسبته اذاعة جيش الاحتلال الاسرائيلي يوم الاربعاء الماضي الى وزير الخارجية الاسباني ، ميغويل موراتينوس ، دون أي نفي من اية جهة لما نسبته اليه حتى الان من دعوته ، خلال حديث مع قادة الاحتلال في اليوم السابق ، الى مؤتمر دولي يضم الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة واسرائيل والاردن ومصر يبحث كيفية "اسقاط نظام حماس" في قطاع غزة ! ان مثل هذا الضوء الاخضر الاسباني ، ان صح ما نسب الى موراتينوس ، للعدوان الشامل على القطاع سوف يسقط الصورة الايجابية المعروفة فلسطينيا عن الرجل كصديق للشعب الفلسطيني ورمزه الراحل ياسر عرفات ، لكن الاخطر ان هذا الضوء سيعطي دفعة اوروبية ترجح كفة ميزان المغامرين العسكريين الاميركيين والاسرائيليين الذين يتحينون فرصة او ذريعة او ضوءا اخضر مماثلا لارتكاب مجزرة جماعية في القطاع تقضي على أي جهد مصري او غير مصري ل"التهدئة" .
اما موقف الرئاسة الفلسطينية من التهدئة فانه ايجابي لفظا لكنه سلبي عمليا فهي من جهة تصر على ان تكون شريكا في أي تهدئة بالرغم من انها ليست شريكا في "عدم التهدئة" ، في الاقل في القطاع ، مما يدفع المقاومة في غزة الى انتقادها بالقول ان من يحارب هو من يسالم اما من لا يحاربون فلا يحق لهم ان يفاوضوا على التهدئة او يكونوا شركاء فيها ، وهي من جهة اخرى تقف محايدة تماما وكانها غير معنية من اشتراط المقاومة ان تكون التهدئة ، ان تم التوصل اليها ، شاملة للضفة الغربية ايضا ، حيث الاحتلال يواصل عدوانه من جانب واحد بالرغم من التزام الرئاسة التزاما صارما بالتهدئة من جانب واحد لا بل انها تنسق امنيا مع الاحتلال لضمان استمرارها من جانب واحد ، مما شجع الاحتلال في مفاوضات التهدئة على التذرع بموقف الرئاسة هذا ليجادل بان السلطة "الشرعية" في الضفة هي المعنية بالتهدئة فيها وبالتالي فان غزة ليست مخولة للتفاوض عنها ، ومن هنا "مرونة" غزة حول هذا الشرط .
ان عملية الفصل التعسفي المستحيل وغير الواقعي بين حماس وبين الشعب الفلسطيني في القطاع التي تعتمدها الرئاسة ، وهو الموقف ذاته الذي تدعيه حكومة الاحتلال ، والتناقض بين اقوالها كما ترد في تصريحاتها وبيانات حكومتها واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تقودها والتي تطالب برفع الحصار عن القطاع ووقف العدوان عليه وبين مواقفها الفعلية العملية التي تمثل عملية "اغتيال سياسي" يتذرع بها الاحتلال وراعيه الاميركي ليسوغان من جهة اعلان القطاع "كيانا معاديا" يمكن فرض العقوبات الجماعية عليه ثم تصفية هذا الكيان عسكريا من جهة اخرى .
والا كيف يمكن التفسير بغير "الاغتيال السياسي" اقدام الرئاسة على حظر الجناح المقاوم لحماس باعتباره "خارجا على القانون" ، واعتبار رئيس حكومة الوحدة الوطنية الشرعية المقالة زعيم "انقلاب" قادته حركته التي حازت على اصوات تفوق كل تلك التي حصلت عليها كل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية مجتمعة في الانتخابات الاخيرة لانه حسم فلتانا امنيا كانت الرئاسة تشكو منه قبله ، ورفض التعامل مع ادارة الامر الواقع التي اقامها في القطاع مكرها لا مختارا ورفض الحوار مع حركته قبل تلبية شروط اسرائيلية –اميركية صاغتها الرئاسة بلغة عربية موشاة بزخارف لفظية فلسطينية ، وتكرار تغذية الة الدعاية الضخمة للاحتلال باقتباسات فلسطينية على ارفع مستوى لمقولات هي في الاصل صناعة اسرائيلية انتجت في مطابخ الحرب النفسية والاعلامية لمخابرات الاحتلال واستخباراته ، مثل الحديث عن البيئة الحمساوية التي ادخلت "القاعدة" الى القطاع وخدمة اجندات خارجية لدول يتهمها التحالف الاسرائيلي الاميركي بدعم "الارهاب" ، وادانة "العنف" الدفاعي الذي تمارسه جميع الفصائل الفلسطينية دون استثناء لمقاومة ارهاب الدولة الاسرائيلي للاتفاق "مصادفة" مع دولة الاحتلال في تحميل المقاومة المسؤولية عما تسميه "الارهاب" (ويمكن هنا تذكر التصريح الرئاسي المشهور عن ان اسر جندي الاحتلال كلف الشعب الفلسطيني مئات الشهداء مع ان الاف الشهداء الفلسطينيين سقطوا قبل ذلك) ، وعدم الاقدام على أي اجراء عملي لرفع الحصار عن القطاع ووقف العدوان المتواصل عليه يمكن ان يفسر بان هذين المطلبين يمثلان اولوية في الاجندة السياسية للرئاسة وحكومتها ، مثل تعليق التنسيق الامني مع الاحتلال لحين تلبيتهما او اشتراط تلبيتهما لمواصلة المفاوضات او تنظيم حملة دولية موازية في الاقل لا بديلة لحملة الرئاسة من اجل حشد اموال المانحين والمستثمرين لسلطة الحكم الذاتي تضع المطلبين على جداول اعمال المنتديات الاقليمية والدولية "الصديقة" للرئاسة ، الخ .
ان دولة الاحتلال تبيت عدوانا على القطاع وهي غير معنية الا بتهدئة فلسطينية من جانب واحد تمليها بشروطها واذا لم تستطع ذلك دبلوماسيا فبالتها العسكرية وهذه هي خلاصة التجربة الفلسطينية مع دولة الاحتلال منذ نجحت الرئاسة الفلسطينية في انتزاع تهدئة من المقاومة وحماس تحديدا منذ اتفاق القاهرة الفلسطيني اوائل عام 2005 ، فماذا كانت النتيجة خلال العامين التاليين قبل "سيطرة" حماس على مقاليد الامور في غزة التي يتذرع الاحتلال بها الان ؟ الا يكفي الوضع في الضفة الغربية ، مقر الرئاسة ، شاهدا على نوايا الاحتلال حيث يواصل عدوانه من جانب واحد بالرغم من التزام الرئاسة ايضا من جانب واحد بالتهدئة حد التنسيق الامني مع الاحتلال ضد "العنف" وعناصره وثقافته واي حاضنة شعبية له حتى لو كانت روضة اطفال تديرها جمعية خيرية !
ان "الوضع الراهن" الذي يريدون استمراره في القطاع ينتظر موعدا لتنفيذ ما سبق لباراك ان قال انه خطة جاهزة لاجتياح القطاع بانتظار موافقة اولمرت عليه وفي هذه الحالة ستدفع المقاومة الى وقفة تاريخية تصنع ملحمة فلسطينية معاصرة لاسطورة "مسعدة (ماسادا)" التي تقول الرواية اليهودية ان الجيش الروماني حاصر القلعة المطلة على البحر الميت حتى اجبر المحاصرين اليهود فيها على "الانتحار الجماعي" ، الذي يمجده اليهود والاسرائيليون باعتباره "بطولة خالدة" حظيت بمبادرة الرئيس الاميركي بوش لتخليدها بدوره بزيارة لما يقول اصحابها انه "اثارها" اثناء زيارته لدولة الاحتلال نهاية الاسبوع الماضي ، غير مكتف ب"احتفاله" بما وصفته غريمته السياسية "الديموقراطية" رئيسة مجلس النواب في الكونغرس نانسي بيلوسي بانه اعظم انجاز للبشرية في القرن العشرين الماضي ، اي انشاء الدولة التي يؤيد كليهما الان "يهوديتها" ويسعيان الى املاء القبول بيهوديتها على العرب وبخاصة الفلسطينيون منهم .
لكن الفوارق ستكون اساسية بين الملحمة المحتملة وبين اسطورة مسعدة فعرب فلسطين في القطاع ، الذين يحرم دينهم الحنيف الانتحار ، لن ينتحروا لا افرادا ولا جماعة ولن يقتلوا اطفالهم ونساءهم ثم يقتلون بعضهم كما فعل اصحاب الاسطورة حسب ما يقول رواتها اليهود ، بل سيقاتلون الغازي رجالا واطفالا ونساء حتى يندحر او يستشهدون ، اقتداء بتراث اسلافهم في تاريخهم الوطني والعربي والاسلامي ، في ملحمة لن تكون معركة مخيم جنين عام 2002 الا مصغرا لها ولن تكون نتيجتها بالتاكيد مثل نتيجة الماسادا اليهودية ، لينتهي وجودهم ويزول اثرهم ، بل لتفجر عاصفة وطنية ستكون بالتاكيد اعتى من "العاصفة" التي فجرتها معركة الكرامة في غور الاردن عام 1968 ، لمن ما زالوا يتذكرون "الكرامة" وثقافتها ومرجعياتها الوطنية .
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق