الأحد، مايو 18، 2008

من واقع الجماهير العربية في اسرائيل

نبيل عودة

أزمة الحكم المحلي العربي ، نتيجة مباشرة لافلاس الأحزاب العربية

نقف اليوم على أعتاب انتخابات جديدة للسلطات المحلية في اسرائيل ، بما فيها ما يقارب 60 سلطة محلية عربية وليس سرا ان السلطات المحلية العربية في اسرائيل تعاني من أزمة خانقة ومتفجرة ، ماليا واداريا. وقد حلت وزارة الداخلية ، طبقا للقانون ، حتى الآن ، عددا كبيرا من السلطات المحلية المنتخبة ، بما في ذلك بلديات ، وعينت لجانا معينة لادارة هذه السلطات ، وفي مدينة عربية كبيرة مثل الطيبة (في المثلث الجنوبي )، عينت مديرسجن سابق ، رئيسا للبلدية .
وبالاضافة للجان المعينة في المجالس المحلولة ، هناك شلل كبير جدا في عشرات السلطات المحلية التي كانت خلال سنوات طويلة مدارة بشكل معقول و"مستورة" كما يقال.
اما الآن فهناك حالة من الشلل شبه الكامل للحكم المحلي العربي في اسرائيل.
الباحث الدكتور أسعد غانم ، رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة حيفا يقول: " الدولة معنية بالسيطرة على العرب ولذلك تسمح بانهيار الحكم المحلي ، وعن طريق اللجان المعينة تكفل السيطرة على المؤسسات العربية . وعليه فهي تستعمل الحكم المحلي كجهاز سيطرة ومحافظة على الوضع الحالي ولا تريد ان يكون سليما." هذا الكلام ، بشكل عام ... هو اتهام صحيح وخطير للسياسة الحكومية الرسمية في عهد العمل وفي عهد الليكود وفي عهد كاديما . ولكن لا بد من سؤال كبير ومصيري وقومي : هل مجتمعنا اداة ميتة تلعب بها الحكومة كما تشاء ؟ هل الحكومة هي اللاعب الوحيد في السياسة العربية الداخلية ؟ الا تلاحظون معي اننا نتهم الحكومة ، كما كنا نتهم ، في السابق .. الاستعمار العالمي ، بكل مصائبنا ؟
السنا شعبا ؟
اليست عندنا سلطات محلية ؟
اليست عندنا أحزاب سياسية ؟
اليست عندنا ، ما شاء الله ، لجنة قطرية للسلطات المحلية العربية ؟
اليست عندنا لجنة متابعة عربية عليا ، "تنظر وتخطط" و"تقود نضال" الجماهير العربية ، "بتفاهم شامل" (!!) ، من الحائط للحائط ؟
هل الذين يصدرون " الوثائق الاستراتيجية " حول " وضعنا القومي " و " تصورنا المستقبلي " ليسوا مسؤولين عن معالجة الانهيار والفساد المطبق الذي يأكل كبد السلطات المحلية العربية ، ويقودها الى الشلل الكامل والافلاس ، وبالتالي الى تدخل الحكومة بحل هذه السلطات المحلية المفلسة والفاسدة ، والعاجزة بالتالي عن تقديم أبسط الخدمات للمواطنين ؟
هناك سؤال موجع جدا ، ولكن يجب قوله : لماذا هذه اللامبالاة التي تصل حد البلادة من شعبنا ، ازاء هذا الانهيار للحكم المحلي ؟
الحقيقة المعروفة ان الشعب لا يرى فرقا بين الائتلاف والمعارضة ، تقريبا في كل السلطات المحلية. ولسان حال الناس : ماذا يتغير اذا حلت المعارضة مكان الائتلاف ؟ هل يتغير شيء الى الأحسن اذا استبدلنا فاسدا بفاسد وفاشلا بفاشل؟
ان كلمة السياسة صارت كلمة " سلبية "، وهنا تكمن في الحقيقة جريمة الأحزاب العربية وما يسمى القيادات البلدية في الوسط العربي داخل اسرائيل.
وتعالوا نستعرض الواقع من زواياه الاساسية ...

تراجع الأحزاب من ساحة الحكم المحلي

كل مراقب بامكانه ان يلاحظ بوضوح وقوة ، ان الأحزاب السياسية تتراجع عن الصراع الانتخابي الحقيقي على الحكم المحلي الذي يتحول الى مزارع عائلية وطائفية ، وكأن الوصول الى رئاسة مجالس محلي ، أو رئاسة بلدية في بلداتنا العربية ، هي جائزة لمرشح العائلة الكبيرة ، او الطائفة الكبيرة ، التي تملك أكبر نسبة أصوات . وبات واضحا ( ومخجلا بنفس الوقت) ان تتحول الاحزاب الى مجرد سماسرة للقوائم العائلية والطائفية او العائلية والطائفية معا ، وهي قوائم بغض النظر عن شخصية مرشحها ( حتى لو كان أكاديميا ) تبقى ذات افق سياسي واجتماعي ضيق . وأذكر ان سكرتير سابق لتنظيم سياسي يتلفع بالماركسية اللينينية ، قال بوضوح منظرا ، انه في مرحلة صعود العائلية ،على تنظيمه ان يبدأ بالتعامل مع هذا الواقع الجديد ، ويبني تحالفاته على اساسه . وفاته ان يذكر ان صعود الطائفية ( المدمرة لمجتمعنا) يجب ان يحرك تنظيمة لعقد تحالفات طائفية أيضا ، فهل من فرق جوهري بين الظاهرتين المقيتتين ؟
هذا الواقع السياسي والاجتماعي المريض يدفع مجتمعنا الى حضيض مخيف من العلاقات ( أو الأصح أن أقول من التفسخ في العلاقات ) ، لا أذكر في تجربتي السياسية والثقافية الممتدة أكثر من 50 عاما ، وضعا أشد سوادا وسوءا منه ، حتى في ظروف سيادة أجواء الرعب البوليسي ، وسيطرة عملاء السلطة العرب بدعم السلطة ، عبر جهاز الحكم العسكري وأذرع الأمن المختلفة ،على جميع مقدرات شعبنا ومؤسساته ، استطعنا بنضالنا السياسي ، وبطولات مناضلينا ونهجنا الفكري والسياسي الواضح والمبني على اسس سليمة ، بعيدا عن المنفعة الشخصية والانتهازية الفردية ، ان ننجز المستحيل . أنجزنا وحدة شعبنا واعادة تجميع صفوفه بعد النكبة . أنجزنا الحفاظ على لغتنا وثقافتنا وكسرنا حواجز العزل والتجهيل ، أنجزنا اعادة سيطرتنا على سلطاتنا المحلية ، أنجزنا الغاء الحكم العسكري ، أنجزنا مساحة كبيرة من الحريات ، أنجزنا انجازات تعليمية وعلمية كبيرة ، أنجزنا تطوير ثقافتنا وتحقيق انطلاقة أدبية أذهلت بمستواها العالم العربي ، أنجزنا الكثير من الحقوق التي يضيق المجال عن استعراضها ، حقا لم نصل للمساواة وما زلنا نواجه سياسات عنصرية وفاشية تحتاج الى يقظة نضالية ولحمة اجتماعية ونهضة فكرية وثقافية جديدة.
ما يجري في بلداتنا على قاعدة انتخابات السلطات المحلية ، وغياب الأحزاب السياسية الفعلي ، وتحولها الى أبواق عائلية وطائفية ، يقودنا الى حضيض من التفسخ والعنف والكراهية بين ابناء البلد الواحد ، بل وبين أبناء البيت الواحد احيانا . ان فوز عائلة يعني معاداة سائر العائلات والانشغال بالطوشات ، ومقاطعة الحمولة " المهزومة "ادارة السلطة المحلية للحمولة المنتصرة. وهذا يبرز بعدم دفع الضرائب . وهذا يبرز أيضا بتصرفات بعض الحمائل " المنتصرة " ، اذ تنتقم من العائلات المنافسة وتطرد ابنائها من الوظائف في السلطة المحلية ، او تفتح أبواب الوظائف في السلطة المحلية لجماعتها فقط ( تعتبر السلطات المحلية أكبر وأهم مشغل في الوسط العربي ). وهذا الوضع يبرز حتى لو كان الفائز محسوبا على حزب سياسي ، اذ ان الأحزاب تجري حسابات عائلية أيضا عند اختيارها مرشحين لرئاسة السلطات المحلية . أي لم تقع التفاحة بعيدا عن شجرتها . وبالطبع لم تقع على رأس "نيوتن" الأحزاب .
هدف الأحزاب من تحالفاتها العائلية يبدو تكتيكا سياسيا بارعا ، وبعض منظري الأحزاب يرونه استراتيجية سياسية ذكية (!!) يتحالفون مع العائلات ، يدعمون بعضها محليا ، مقابل دعم العائلات للأحزاب في انتخابات الكنيست . الكنيست أصبحت هي الهدف الأوحد والأسمى لنشاط أحزابنا العربية.
عمليا السلطة المحلية تفشل بأن تكون سلطة اجتماعية مدنية تخدم كل الناس وتوحد الناس ، وتعمل على عصرنة المجتمع ودمقرطته ، بل تتحول الى اداة خطيرة جدا للصراع ( وأحيانا القتال ) العائلي والطائفي البغيض .
هل صدفة ان الشعار القومي الذي يقوم على الصراخ والجعجعة يبدو عاليا جدا في أفواه الزعماء – الوجهاء ، بينما الالتفاف السياسي على مدار السنة حول الأحزاب يبدو ضعيفا وهشا ؟
متى اقيمت آخر ندوة سياسية - فكرية – اجتماعية لأي حزب ؟
متى أقيمت مناظرات بأشتراك ممثلين عن احزاب مختلفة ؟
آخر مناظرة وندوة سياسية أذكرها أقيمت منذ أكثر من عقدين كاملين من الزمن على الأقل !!
حقا اليوم تنظم "الجمعيات الأهلية" ندوات وابحاث ولكن ليس بمفهوم المواجهة الفكرية السياسية بين الأحزاب – أحزابنا في خرج واحد بغض النظر عن ايديولوجياتهم المتناقضة . وصحافتنا ( الحزبية بالاساس ) خالية من أي حوار فكري - سياسي - اجتماعي ، أو حتى ثقافي بسيط . وتكاد تكون بوقا بنغمة واحدة لا تتغير . أما الصراخ فحدث ولا حرج ...
ان الصراخ ليس نقاشا وليس فكرا وليس موقفا ... والطواف في الدول العربية وفي السلطة الفلسطينية والمشاركة في ولائم " المناسف " ليست بديلا عن العمل مع شعبنا هنا، مع قضاياه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية . والوصول الى الكنيست ليس جائزة ونقاهة لأربع سنوات ... وضمان لمستقبل مادي آمن ، وغير ذلك من الصفقات ( المثيرة للاستهجان )التي أمتنع الآن عن ذكرها .
راجعوا الصحافة العربية خلال السنة المنصرمة ، وأتحدى ان تجدوا مقالا رصينا منطقيا نقديا ، بقلم أي زعيم من الأحزاب يناقش فيه بشكل حضاري مواقف الأحزاب الأخرى.
وصلني مؤخرا ، من صحفي اردني .. ان زعيمين من " بلاد ال 48 " ، كادا يتقاتلان في القصر الملكي في الأردن ، صراعا على الوقوف المتقدم ، قريبا من جلالة الملك . هل هؤلاء زعماء حقا ، أم صبية مراهقون ، اليس وجود أمثالهم في القيادة هو المشكلة الحقيقية لشعبنا ؟
علينا ان نعترف بالحقيقة المعروفة للجميع : الشعارات القومية عالية جدا ، والمنافسة في علو الشعارات حادة جدا ، ولكن تحت سطح الصراخ هناك تمزق.. وهناك شرذمة ، وهناك فردية مريضة، وهناك كراهية وعداوات ، وهذا لا يمكن ان يفرز نقاشات مكشوفة تحت ضوء الشمس ، بل يفرز مؤامرات بين قادة الأحزاب المختلفة ، وأيضا بين القادة في الحزب الواحد ، وهي الأشد عنفا وكراهية . وما أقوله معروف لكل متابع للصحافة المحلية وأخبار الأحزاب ، وليس جديدا .

المشكلة عندنا .. والحل بأيدينا في الأساس

ان القول ان الحكومة تريد الحكم المحلي كما هو بالضبط ، يجب ان يقود الى السؤال المنطقي التالي : السنا نحن طرفا لاعبا ؟ هل نحن حجارة شطرنج ؟ اليس بامكاننا ، ومن حقنا ، ان نبادر وان نأخذ مصيرنا بأيدينا ، وأن نغير الفاسد بنظيف ، والعاجز بقادر ، والفئوي بانسان حضاري اجتماعي، يفكر بالمصلحة العامة للمدينة ، أو القرية ، بالمصلحة العامة لمجتمعنا كله.
اليس عجزا مريضا ان نفكر ان الحكومة قادرة ان تفعل ما تشاء ، بينما نحن عاجزون بالمطلق ؟
حتى في أسوأ ظروفنا السياسية والتاريخية ، ظروف العزل القسري وارهاب الدولة وقمعها ، واجهنا السلطة وحققنا انجازات بطولية هامة أصبحت محورا لكل التطورات اللاحقة التي جعلت حياتنا اليوم تبدو ، نسبيا .. مريحة وطبيعية ، وتلزم السلطة بتقديم خدمات متنوعة مساوية نسبيا في الكثير من المجالات لما يقدم للمجتمع اليهودي.
بالطبع لدينا تحديات خطيرة مع السلطة العنصرية .. ولكني لا أرى أحزابا وقيادات قادرة على مواصلة المسيرة .
هناك فئات شريفة ونظيفة وقادرة ، في كل مدينة وقرية ، وما زال هناك متسع من الوقت لبناء تحالفات وقوائم نظيفة ، تترفع عن العائلية والحاراتية والطائفية . وبالامكان بمصارحة مع الشعب ، واحترام حقيقي للشعب ، انتصار قوائم نظيفة ، تدير السلطة المحلية بعقل اداري ، ولا تسرق ، ولا ترتشى ، ولا تتصرف بالمصالح العامة لخدمة مقربيها. هناك حاجة الى ثورة اجتماعية حقيقية لا تحارب اية عائلة ، ولكن تحارب العائلية السياسية ، ولا تحارب اية حارة ، بل تحارب ضيق الأفق الحاراتي، ولا تحارب اية طائفة ، بل توحد كل الطوائف.
ان هذا الطموح ليس أخلاقيا فقط ، ليس " جميلا" فقط ، بل هو المدخل الحقيقي لاحداث نقلة نوعية في سلطاتنا المحلية . وهذا يضمن استقرار بلداتنا وتطورها ، وأمنها وامانها وتعاون الناس . ويضمن فاعلية أقسام السلطة المحلية ، وتحسن وضع المدارس والتعليم وتطوره نحو الأفضل دائما .
ان هذا الانعطاف اذا تحقق ، يشير الى العافية الاجتماعية ويشكل مدخلا لتغيير جذري في الحياة الحزبية العربية ، التي هي الأخرى ، الآن ، ليست أقل فسادا وفوضى من حكمنا المحلي الذي تدير بعضه ادارات معينة من السلطة ... وعلى الجمعيات الأهلية العربية ان تشارك بقوة في انجاز هذا التحول ، وعدم ترك الميدان للأحزاب التي لم تعد تحظى بثقة المواطنين ( كل الأحزاب العربية مجتمعة حصلت على ما دون ال 35% من أصوات العرب قي الانتخابات للكنيست و35% ذهبت للأحزاب اليهودية - الصهيونية ، من اليمين الفاشي الى ما يعرف باليسار كحزب العمل مثلا والآخرين امتنعوا عن التصويت !!)
وبالتلخيص : بدل ان نندب ، تعامل السلطة المركزية الظالمة والشرسة ، تعالوا نكشف مصادر الطاقة الوطنية في شعبنا ونوظفها لصالحنا ، حاضرا ومستقبلا ، كما وظفناها في أصعب أيامنا وأشدها هولا !!
بدل الثرثرة المهزومة واليائسة والمنافسة على مكان في الصورة مع هذا الزعيم العربي أو ذاك ، حان الوقت لنأخذ مصيرنا بأيدينا . حان الوقت لنصنع التغيير .
وأقول بصراحة مؤلمة : كنت أرغب ان انهي مقالي بروح تفاؤلية ، ولكني لا أرى في أفقنا السياسي ما يبشر بأمل . أعرف ان ما أقولة خطير واستفزازي . غير اني لم أتعلم سياسة الكذب والتزوير ، حتى لو كان وراءها أفضل المناصب !!

نبيل عودة – كاتب واعلامي فلسطيني – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com

ليست هناك تعليقات: