نقولا ناصر
(البون الشاسع جدا الذي يتسع يوميا بين الدول العربية الغنية و"شقيقاتها" الفقيرة وبين اقلية "ميسورة" واغلبية يطحنها الحرمان والاملاق والجوع هو عامل انقسام عربي جديد اكثر تهديدا للسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي للدولة القطرية)
يتبلور حاليا عامل انقسام عربي جديد يضاف الى عاملي الاحتلال الاجنبي والتجزئه السياسية لكنه اكثر منهما تهديدا للسلم الاجتماعي والاستقرار السياسي للدولة القطرية التي تحاول جاهدة الصمود في وجه العاملين الاخرين وهو تحديدا البون الشاسع جدا الذي يتسع يوميا بين الدول العربية الغنية و"شقيقاتها" الفقيرة وبين اقلية المؤسسة الحاكمة التي سنكتفي هنا ، حتى لا نزيد الطين بلة ، بوصفها ب"الميسورة" وبين اغلبية محكومة يطحنها الحرمان والاملاق والجوع ، وكما قالت صحيفة "الوطن" السعودية في افتتاحية لها في الثاني من الشهر الجاري فان هذا العامل الذي اوجزته الزميلة العربية ب"ازمة الغذاء في العالم العربي" اصبح ذو "اهمية" تجعل "التطرق" اليه "ضرورة وليس ترفا فكريا" .
واذا كان للجوع في العالم سبب واحد فان له سببان في العالم العربي: "جوع" ناجم عن وجزء من الازمة العالمية و"تجويع" مبرمج منظم يمارسه الاحتلالان الاسرائيلي والاميركي في فلسطين والعراق والصومال وغيرها من دول التجزئة العربية غير الخاضعة للاحتلال المباشر لكنها ضحية العقوبات الاميركية . وهذا الجوع "العربي" المضاعف بدا يتحول يوميا وتدريجيا الى "جوع كيميائي" يؤثر في النمو البنيوي للانسان العربي ولم يعد يقتصر على الحرمان من الاغذية التي تمده بالطاقة الحرارية ولو يتسع المجال فان الاقتباس سيكون وافرا من تقارير الهيئات الدولية المتخصصة وخبرائها ورؤسائها لاثبات ذلك .
وفي البعد العالمي للازمة قرر الامين العام للامم المتحدة بان كي-مون انشاء قوة طوارئ اممية حول ازمة الغذاء العالمية وعين نائبه للشؤون الانسانية ، جون هولمز ، "منسقا" لقوة طوارئ الاغاثة الجديدة وعقد في الثلاثين من الشهر المنصرم اجتماعا طارئا لمجلس ادارة المدراء التنفيذيين لنظام الامم المتحدة في بيرن بسويسرا كما عقد مؤتمرا صحفيا مشتركا مع رؤساء برنامج الغذاء العالمي ومنظمة الاغذية والزراعة "فاو" والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية لكي يبعث برسالة رمزية قوية بان هذه المنظمات تقف موحدة ومصممة على العمل المشترك المتكامل والشامل لمواجهة "تحدي" الجوع العالمي ، كما قال هولمز .
وهنا لا بد من ملاحظة ان تصميم منظمات "الواجهة" لنادي الاغنياء في العالم على العمل "الموحد والمتكامل والشامل" ليس من اجل مكافحة الفقر والجوع العالمي في حد ذاتهما بل من اجل مواجهة ما يمثلانه من "تحد" يهدد استقرار النظام العالمي الذي يديره هذا النادي ، الذي يتحمل المسؤولية الاكبر والمباشرة عن ازمة الجوع المزدوج في المنطقة العربية وعن الانقسام السياسي وتمزق النسيج الاجتماعي الناجمين عنها اللذين لا يخفي سعيه اليهما سياسيا ضمن استراتيجيته لاعادة رسم خريطة المنطقة .
واذا كانت الدولة القطرية ترى في التجزئة السياسية مصلحة لها واذا كانت هذه الدولة من اجل بقائها تستطيع التنصل من مسؤولياتها القومية لانقاذ "زميلاتها" في جامعة الدول العربية من الاحتلال الاجنبي والمخاطر الخارجية فان عامل الانقسام الجديد يهددها في عقر دارها تهديدا ينبغي ان يدفعها الى اعادة النظر في استراتيجية التقوقع الاقليمي على ذاتها وترسيخ التجزئة فيما بينها بذرائع وحجج مختلفة لكي تعيد الى التكامل القومي ، ان لم يكن للوحدة العربية ، الاولوية التي كانت لها قبل ان ياخذ مكانها العامل "الوطني" الذي اغرقته الاقليمية في المحلية المفرطة حد تجريده حتى من مقومات الوطنيه .
والغريب ان هذه الدولة القطرية التي ادمنت الاحتماء والاستقواء بالقوى الدولية النافذة ضد بعضها وفي مواجهة شعوبها وادمنت الاسترشاد ببرامجها وخبرائها ما زالت لا تدرك الخطر الداهم الجديد لكي تعتبره حالة طارئة فتقتدي بمسارعة تلك القوى الى العمل "الموحد والمتكامل والشامل" لدرئه وما زالت اسيرة سياسات ردود الفعل الانية المتسرعة التي تعاملت بها مع كل القضايا الوطنية والقومية .
واذا كانت احتجاجات "الخبز" تخرج الجوعى العرب الى الشوارع عفويا ودون تنظيم في اغلب الاحوال من مقديشو الى نواكشوط مرورا باليمن ومصر هي احد مظاهر الازمة في احد طرفيها فان احد مظاهرها في الطرف الاخر تمثل بردود فعل لا تقل عنها عفوية لاحتوائها مثل المبادرة الى رفع للرواتب له او ليس له تغطية في الميزانية ، لكنه في الحالتين لم يقلص تضخما ولا خفض اسعارا ولا رفع القدرة الشرائية للعملة الوطنية ولا زاد قيمتها وهو ان "استرضى" البيروقراطية الحكومية الى حين فانه لم يقترب من مجرد كونه خطوة على طريق حل ازمة الجوع لا وطنيا ولا "قوميا" .
ففي الوطن العربي بدا المراقبون والمحللون يرصدون تفاقم حالة الانقسام "الطبقي" كاهم نتائج الازمة الاقتصادية العالمية حيث يحتد الاستقطاب الاقتصادي ويحتدم في اتجاهين ، بين نادي الدول العربية الغنية وبين "شقيقاتها" الفقيرة التي لا نوادي لها من جهة وبين الاغلبية التي يزداد عديدها بوتيرة متسارعة تكاد تكون يومية ممن تسحقهم الازمة الاقتصادية العالمية فقرا حد الاملاق وجوعا حد الموت وبين الاقلية "المتعولمة" اقتصاديا وسياسيا التي يتناقص عددها كلما زاد ثراؤها في كل دولة من دول التجزئة العربية على حدة من جهة ثانية فيما تتاكل بسرعة الطبقة الوسطى وهي العماد الامني والبيروقراطي للدولة العربية القطرية .
واذا كانت الزميلة "الوطن" السعودية قد اختصرت الازمة باعتبارها "ازمة الغذاء" لا "ازمة الجوع" واختصرت اسبابها بعدم "تنمية الزراعة" العربية لانها كانت تعلق فقط على "اعلان الرياض" الذي صدر في اعقاب خمسة ايام من اعمال الجمعية العمومية الثلاثين للمنظمة العربية للتنمية الزراعية قبل اسبوعين فان وصفها لنتائج تلك "الاعمال" ب"الضعف" لان الوزراء والخبراء المجتمعون لم يستطيعوا التوصل الى "اليات واضحة وجداول عمل موقوتة" لتحقيق الامن الغذائي العربي هو وصف يصلح ايضا للانسحاب على الاجتماعات العربية المتخصصة لمعالجة الاسباب "الذاتية" الاخرى لعامل الانقسام العربي "القديم – الجديد" الذي يبرز "الجوع" كعنوان راهن له ، كما ان "الحل" الذي وضعت "الوطن" اصبعها عليه ل"ازمة الغذاء" وهو "استراتيجية التكامل بين الدول الزراعية والدول ذات فوائض الاموال في العالم العربي" هو حل يصلح كذلك للانسحاب على كل الاسباب الاخرى لعوامل الانقسام العربية "الذاتية" ، ولا يمكن في الخلاصة الا الاتفاق مع خلصت اليه افتتاحية الوطن بان كل هذه الحلول المرجوة "يجب ان تنبع من الاساس من قرار سياسي" ، وهنا تكمن المعضلة الاساس التي لا تبشر باي حل لاي ازمة عربية وتنذر بتفاقم ازمة الجوع وغيرها من عوامل الانقسام العربي "الذاتية" .
وعند الحديث عن التكامل العربي لا يسع حتى المراقب غير المتخصص عدم رصد تناقضات مثل لهاث الدول العربية الفقيرة وراء جذب "فتات" استثمارات من نادي الاغنياء العالمي حد رهن سياساتها الخارجية لهذا الهدف او حد رهن وجودها نفسه لمنح المانحين من هذا النادي مثلما هو حال سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية بينما هذا النادي الدولي بدا يتخذ اجراءات احترازية لحماية نفسه من "غزو" الاستثمارات العربية (وايضا الصينية والهندية وغيرها) لاقتصادياته بحيث اضطرت ، مثلا ، الامارات العربية المتحدة في اذار / مارس الماضي الى بعث رسائل الى وزراء المالية حول العالم تطمئنهم فيها على دوافع وحوافز استثماراتها .
فعلى سبيل المثال فان نادي الاغنياء الغربي صاحب فكرة العولمة الليبرالية لحرية رؤوس الاموال بدا يستشعر خطر هذه الاستثمارات على امنه الاقتصادي والسياسي مما دفع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (او اي سي دي) من مقرها في باريس مؤخرا الى اصدار تحذير لهذه الاستثمارات لكي تلتزم ب"اعلى درجات الشفافية والادارة" كي تتجنب المزيد من اجراءات "الحماية" ضدها في الدول الصناعية ، بينما اعلنت الحكومة الالمانية في التاسع من الشهر الماضي قيودا على الاستثمارات التي تديرها صناديق دول نفطية عربية ومثلها مؤسسات صينية وهندية وسنغافورية في القطاعات الاستراتيجية لاقتصادها فيما يدور جدل فرنسي ساخن حول شراء هذه الاستثمارات حصة لا تزيد على عشرة في المائة من شركة "توتال" النفطية التي يملكها القطاع الخاص ، الخ. ، في وقت يجري بيع وخصخصة قطاعات اقتصادية عربية استراتيجية لمستثمرين من نادي الاغنياء الغربي نفسه دون أي "خوف" مماثل .
وحتى "نلمح" فقط ، في سياق الحديث عن التكامل ، كيف نجح نادي الاغنياء الغربي في تدوير العائدات النفطية منذ عام 1973 الى رصيد لاقتصادياته ثم اعاد تصدير هذا الرصيد الى اصحابه الاصليين في شكل استثمارات في اقتصادياتهم تراكم المزيد من ارباحه التي يتكرم بفتاتها على شكل منح مشروطة سياسيا عبر "نادي المانحين" الذي انبثق عنه يكفي استعراض بعض الارقام . في سنة 2002 قدر تقرير لصندوق النقد العربي قيمة رؤوس الاموال العربية المتدفقة الى الخارج بين عامي 1975 و 2000 بمبلغ يتراوح بين (212) و (318) مليار دولار اميركي ، في وقت راكمت الدول العربية غير النفطية ديونا خارجية واستنزفت ارصدتها من العملات الاجنبية مما ساهم في زيادة التدفق الراسمالي العربي الى نادي الاثرياء عن طريق هروب رؤوس الاموال من هذه الدول نفسها .
ومثال اخر: بينما ارتفعت الاستثمارات العربية البينية من (2.9) عام الفين الى (3.7) العام التالي بلغت الاستثمارات العربية في الخارج في الفترة نفسها (800) مليار دولار طبق ل"اسكوا" . وفي وقت تستجدي فيه الدول العربية الفقيرة الاستثمارات الاجنبية ما زالت "شقيقاتها" الغنية تزداد تخمة مالية لتتراكم فوائضها التي تعجز اسواقها المحلية عن استيعابها فتسرع متدفقة الى نادي الاغنياء ففي العام المنصرم مثلا بلغ دخل دول الخليج العربية الست من النفط (381) مليار دولار ومن الغاز (26) مليارا من اجمالي ناتج محلي قدره (800) مليارا طبقا لمعهد التمويل الدولي (اي اي اف) بينما قدر معهد ماكنزي العالمي ان يبلغ دخلها من النفط (على اساس 100 دولار للبرميل) عام 2020 بحوالي تسع تريليونات دولار (الايكونوميست البريطانية في 21 الشهر الماضي) ، ومن الطبيعي الا يهتم أي معهد ابحاث دولي او غير دولي بدراسة ما ستؤول اليه الاوضاع في الدول العربية الفقيرة فهذه المهمة متروكة كما يبدو لاجهزة مخابرات الطامعين في اعادة رسم خريطة المنطقة .
واذا كانت هذه الامثلة توضح اتجاها يشير الى استمرار اتساع الفجوة بين الدول العربية الغنية وشقيقاتها الفقيرة فان ملايين الجوعى والمجوعين العرب من ضحايا ما وصفه برنامج الغذاء العالمي ب"التسونامي (الطوفان) الصامت" لارتفاع اسعار المواد الغذائية ممن بداوا يجتاحون الشوارع الباذخة للاقلية "الميسورة" ليس لديهم الوقت "لحسن الحظ" لقراءة ما نسبته "اراب نيوز" السعودية للامير سلطان بن سلمان ال سعود من ان مواطنيه السياح صرفوا (14.4) مليار دولار اثناء عطلاتهم في الخارج عام الفين ، عندما اندلعت انتفاضة الاقصى الفلسطينية ، او لمعرفة ان دولتين عربيتين تسيطران على (52%) من بورصة لندن وواحدة على (20%) من "ناسداك" في نيويورك ، او للاستماع الى اخبار الشركات الاميركية التي ينقذها مستثمرون عرب من الافلاس بينما هم يتضورون جوعا ، او ل"الفرجة" على "الروائع" التي يبنيها من وصفهم كاتب واضح انه صهيوني في الخامس من الشهر المنصرم بانهم "بناة الاهرامات الجدد" في الجزيرة العربية ، ... والا فان "الحسد" قد يفجر السلم الاهلي في الدولة القطرية ويقضي على ما ابقاه الاحتلال الاجنبي من استقرار فيما نجا حتى الان مما يسمى النظام الرسمي العربي قبل ان تصحو قيادات هذه الدولة على خطورة عامل الانقسام العربي الجديد لتتدارك مضاعفاته بالتكامل قبل ان يغرق طوفان ازمة الجوع العربي المزدوج الجميع بامواجه العاتية .
لقد حاولت دولة التجزئة العربية بعد انهيار نظام القطبين العالمي اواخر القرن الماضي التاقلم مع النظام العالمي الجديد ذي القطب الاميركي الاوحد بتكييف اوضاعها مع الشروط الاقتصادية التي وضعها السيد الاميركي للنجاة والبقاء جزءا منه عبر منظمات الواجهة الدولية له القديمة مثل البنك وصندوق النقد الدوليين والجديدة مثل منظمة التجارة العالمية ، لكن تحرير الاسواق وتفكيك القطاع العام والانفتاح الاقتصادي و"خصخصة" شبكات الامان الاجتماعي للطبقات المحرومة او الاقل حظا ورفع الدعم عنها وغير ذلك من معالم برامج الاصلاح الهيكلي والاقتصادي التي اوصى بها صندوق النقد الدولي واخذت الدولة القطرية العربية بها منذ عقد ثمانينات القرن العشرين الماضي لم تتمخض سوى عن ارتهان هذه الدولة للديون الخارجية والاملاءات السياسية الاجنبية لمدينيها وفتح اقتصادها لسيطرة "مستثمري" الشركات عابرة القارات التي لا وطن ولا دين ولا رادع لها سوى استحلاب المزيد من الارباح .
وقد ساهمت هزيمة الحركة القومية العربية بعد العدوان الاسرائيلي عام 1967 ثم انهيار الاتحاد السوفياتي وما اعقبه من انحسار نفوذ الحركة الشيوعية العالمية في ضمور الحركة النقابية العربية حد التلاشي او ترويض الدولة القطرية لها والسيطرة عليها لخدمتها فيما عجزت حملة الغرب الذي يقود النظام العالمي الجديد لترويج "ديموقراطيته" عربيا عن تحويل البرلمانات ومجالس الشورى التي "تزين" صورة الدولة القطرية الى مؤسسات رقابية مستقلة يمكنها ان تقوم بالدور الذي كانت تقوم به تلك النقابات لتكون ممثلة لشعوبها اكثر مما هي ممثلة لحكوماتها كما عجزت عن تحويل "منظمات المجتمع المدني غير الحكومية" ، التي لم يبخل عليها تمويلا ودعما سياسيا ، الى بديل لتلك الحركة النقابية الاصيلة التي كانت تجد مصالحها مرتبطة ارتباطا عضويا بالتحرر السياسي عبر الوحدة الذي كانت الحركة القومية تناضل من اجله وبالتحرر الاقتصادي الذي كانت الحركة الشيوعية تسعى اليه جاهدة .
لذلك فان الخصخصة والتسريح الجماعي للعمالة دون رادع والتضخم وارتفاع الاسعار والغاء الدعم الحكومي للسلع الاستهلاكية الاساسية وتاكل القوة الشرائية للعملات الوطنية لدولة التجزئة العربية وانخفاض اجور الحد الادنى فيها دون مستوى الفقر حتى كما تحدده منظمات الواجهة الدولية لنادي الاغنياء العالمي وما قاد اليه كل ذلك وغيره من افقار الاغلبية الساحقة حد التجويع الراهن لم يجد من يتصدى له سوى قلة نخبوية متناقصة من المثقفين والمفكرين الذين لا تقراهم ولا تسمعهم سوى قلة مماثلة ، بانتظار ان يصحو صانعو القرار على حيوية الحيلولة "بالتكامل" في الاقل دون عامل الانقسام القومي الجديد واغراق الجميع بطوفانه .
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com
الأحد، مايو 11، 2008
عامل انقسام عربي جديد يتفاقم
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق