تيسير خالد
عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية
الرئيس الاميركي جورج بوش في طريقه الى المنطقة ، التي تعيش هذه الايام وضعاً مضطربا لم تشهده أو تعيشه من قبل في تاريخها الحديث . قد ينظر الرئيس من حوله ، واذا فعل ، فسوف يجد أمامه تداعيات سياسة دعت الى اشاعة فوضى خلاقة في منطقة الشرق الاوسط ، فأنتجت فوضى هدامة وحرائق بات من الصعب السيطرة عليها في المدى المنظور ، ودعت الى اشاعة الديمقراطية فأنتجت ميولاً تسعى للارتداد بأوضاعها نحو الفكر الشمولي والانظمة الشمولية .
سيجد الرئيس امامه عراقاً يحترق ، تمزقه حروب ولدت من رحم الحرب التي شنها ضد هذا البلد العربي في آذار من العام 2003 ، حروب طوائف يديرها قادة جاءوا على ظهر دبابة اميركية ليمارسوا العمل السياسي وادارة شؤون الحكم كمقاولي سوق سوداء في السياسة ، وسيجد نفسه أمام مشهد لبناني تحطمت في ساحته وفي شوارع واحياء عاصمته بقايا نظام حكم قام على "ديمقراطية توافقية " بين امراء الطوائف ومليشياتها .
لن يصاب الرئيس الضيف على الارجح بالصدمة من المشهد الفلسطيني . ما ضره ان يعيش قطاع غزه تحت الحصار وفي ظل العقوبات الجماعية المحرمة دولياً وفي ظل عمليات الاجتياح التي تتكرر في المشهد وعمليات القصف والاغتيالات التي تتواصل دون أمل في التوصل الى تهدئة ، وما ضره ان تعيش الضفة الغربية تحت ضغط الحصار والاغلاق والحواجز العسكرية ، التي تحيل حياة ابنائها الى جحيم وتحت ضغط النشاطات الاستيطانية واعمال بناء الجدار ، التي تغلق الطرق أمام التقدم في عملية سياسية تفضي الى تسوية لصراع دام يتواصل منذ اكثر من ستين عاماً .
الرئيس في طريقه الى المنطقة ، وهو يدرك ان هذا الوضع في المنطقة ، وهو وضع في غاية الخطورة بانعكاساته على أمنها واستقرارها ، وعلى الامن والاستقرار في هذا العالم ، غير جاهز وغير ناضج للمعالجة فيما تبقى له من ولاية تقترب من نهايتها . كبطة عرجاء يأتي الى المنطقة ، لا يملك في جعبته مقدرة على القيام بمقاربات سياسية حتى لعملية سياسية بشر بانطلاقتها في انابوليس ، نهاية العام الماضي ، بعد ان تمكنت اسرائيل من وضع العصي في دواليبها بنشاطات استيطانية غير مسبوقة في القدس ومحيطها وفي عديد الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية ، وبعد ان احاطت شبهات الفساد برئيس حكومتها وتكاد تطيح به وتضع نهاية مأساوية لحياته السياسية .
لن يحمل الرئيس القادم الى المنطقة شيئاً يستحق ان ينشغل به قادتها على الارجح ، فقد حجمت التطورات السياسية الاخيرة في اسرائيل والاحداث الدامية في لبنان مهمته وحصرتها كما يبدو في المشاركة في احتفالات الذكرى الستين لقيام دولة اسرائيل . هذه هي حدود المهمة ، وهي مهمة لا ترقى الى مقام رئيس دولة في حجم الولايات المتحدة الاميركية ، الا اذا كانت مصممة في الاصل والاساس لتقديم الدعم لدولة اسرائيل والتأكيد على هويتها كدولة لليهود وعلى القيم التي تجمعها مع الولايات المتحدة الاميركية ، وتحديداً قيم المحافظين الجدد في الدولتين ، ومصممة كذلك للدعاية لحل الدولتين وفق رؤية الرئيس ، وهو حل يحاول قادة الادارة الاميركية بيعه للجانب الفلسطيني والعربي في كل مناسبة وحتى بدون مناسبة ، حتى اصبح سلعة فقدت قيمتها لكثرة تداولها .
ومهما يكن من أمر ، فان زيارة الرئيس الاميركي جورج بوش الى المنطقة واسرائيل للمشاركة في الذكرى الستين لتأسيس دولة اسرائيل ليست بالحدث العادي . انها حدث استثنائي بجميع المقاييس ، فهذه سابقة لم تحدث من قبل . لم يسبق لرئيس اميركي ان قام بزيارة كهذه ، اي بزيارة للمشاركة في ذكرى تأسيس دولة اسرائيل . ولأن المناسبة باحداثها لا تنحصر بذكرى تأسيس دولة وحسب ، بل تتعدى ذلك الى ذكرى تعيش في ذاكرة شعب آخر كفصل من اقسى فصول مأساته ، التي ترتبت على قيام دولة اسرائيل ، يجدر لفت نظر الرئيس الضيف الى الجزء الآخر من صورة المناسبة ، التي جاء للمشاركة في احتفالاتها .
فاسرائيل تحيي الذكرى الستين لتأسيسها ، وفي الجهة المقابلة يحيي الفلسطينيون الذكرى الستين ، للنكبة التي تزامنت مع تأسيس تلك الدولة بفصولها التي لا زالت تتوالى مأساة حقيقية تتجاهلها الادارة اللاميركية وتدعو الى حلها خارج سياق القانون الدولي والشرعية الدولية ، ومأساة حقيقية تلقي اسرائيل بتبعاتها ومسؤوليتها على ضحايا تلك النكبة – المأساة وتتهرب من مسؤوليتها السياسية والقانونية والاخلاقية عنها .
لنعد بعد هذا الى الفصل الحاسم من فصول المأساة ، الى قرار التقسيم رقم 181 لعام 1948 ، متجاوزين الفصل الاول ، الذي بدأ بوعد بلفور وبالانتداب البريطاني على فلسطين . انطلق ذلك القرار من استثناء القدس بسكانها العرب ، الذين كانوا آنذاك 105 آلاف نسمة وسكانها اليهود ، الذين كانوا آنذاك أيضاً 100 ألف نسمة ، ليقرر تقسيم فلسطين الانتدابية الى دولتين ، الاولى عربية على نحو 43 بالمئة من مساحة فلسطين يعيش فيها اكثر من 800 ألف فلسطيني ونحو عشرة آلاف يهودي والثانية يهودية على نحو 57 بالمئة من مساحة فلسطين يعيش فيها 499 ألفا من اليهود و 438 ألفا من العرب ، في حين لم تكن مساحة الاراضي التي استحوذت عليها الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي تتجاوز 6 بالمئة من مساحة فلسطين .
وبصرف النظر عن المساحة ، التي حددها القرار لكل دولة من الدولتين ، فان التكوين الديمغرافي وتحديدا للدولة اليهودية ، دولة اسرائيل ، اطلق العنان لسياسة ترتب عليها في الممارسة مأساة حقيقية للشعب الفلسطيني ، هذه السياسة يمكن تخليصها وتكثيفها بكلمة واحدة ، شكلت على الدوام محور سياسة الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي ، وهي الترانسفير ، او التهجير القسري ، او التطهير العرقي ، لا فرق . ليس في ذلك مبالغة على الاطلاق أو تجاوز على الحقيقة . بل هذه هي الحقيقة في مواجهة محاولات اسرائيل التهرب من مسؤولياتها السياسية والقانونية والاخلاقية عن النكبة – المأساة ، التي تزامنت مع تأسيس دولة اسرائيل أو قيامها .
سياسة الترانسفير ، او التهجير القسري أو التطهير العرقي كان لها اساس في مصدرين ، الاول هو الانتداب البريطاني والثاني هو الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي . ففي مجرى احداث ثورة العام 1936 شكلت سلطات الانتداب البريطاني لجنة تحقيق عرفت باسم " لجنة بيل " . هذه اللجنة قدمت في العام 1937 توصية بتقسيم فلسطين الى دولتين ، واحدة عربية واخرى يهودية وطلبت في الوقت نفسه اجراء تبادل سكاني بين الدولتين بحيث يجري تهجير 225 الف فلسطيني من اراضي الدولة اليهودية الى اراضي الدولة الفلسطينية ونحو 1250 يهويدي من اراضي الدولة الفلسطينية الى اراضي الدولة اليهودية . رحبت الترويكا القيادية للحركة الصهيونية والوكالة اليهودية المشكلة آنذاك من حاييم وايزمان ، وموشي شاريت ودافيد بن غوريون بالفكرة وكتب في حينه دافيد بن غوريون في يومياته الخاصة بتاريخ 12 تموز 1937 يقول : " ان الطرد الاجباري للعرب من الاودية التي اقترحت للدولة اليهودية يعطينا ما لم نكن نملكه حتى في ايام الهيكلين الاول والثاني ، انه يعطينا الجليل الخالي من السكان العرب " .
افكار الترانسفير او التهجير القسري او التطهير العرقي هذه كانت دائماً حاضرة في مخططات الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي ، ليس عند المتطرفين من امثال جابوتنسكي فقط بل وعند الليبراليين من امثال كاتس نيلسون ، احد ابرز قيادات حزب الماباي ، الذي دعى الى ذلك بشكل علني وواضح وصريح في المؤتمر الدولي لوحدة عمال صهيون ، الذي انعقد في آب من العام 1937 . في ذلك المؤتمر وصف كاتس نيلسون الترانسفير بأنه في جوهر الاصلاح السياسي والاستيطاني ليضيف بأنه كان من انصار هذه السياسة . " ما زلت أؤمن بانه قدر عليهم ( أي على الفلسطينيين ) ان يطردوا الى سوريه أو الى العراق " . يوسف فايتس ، احد قادة الوكالة اليهودية ومدير قسم الاستيطان في الصندوق القومي اليهودي كان هو الاخر على قناعة بسياسة الترانسفير هذه ، فقد كتب في يومياته ، التي دونها في 20 كانون الاول من العام 1940 ، ان شراء الاراضي ليس وسيلة لبناء الدولة ، ليؤكد ان الوسيلة الانجع والافضل لذلك هي " طرد العرب الى سوريه والعراق " مستثنيا من عملية الطرد او الترانسفير بيت لحم والناصرة والقدس القديمة ، حتى لا يكون ذلك سببا في اثارة الرأي العام المسيحي في العالم ضد هذه الافكار السوداء .
شبه اجماع ساد اوساط الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي على الترانسفير ، التهجير القسري ، التطهير العرقي كوسيلة لاقامة الدولة اليهودية . فقط هي " حركة هاشومير هاتسعير " بزعامة موشي سميلانسكي ، التي تحولت لاحقاً الى حزب مبام ، كانت تعارض هذه الافكار وهذه المخططات باعتبارها معادية للاشتراكية ، وتدعو بدلا من ذلك الى دولة عربية – يهودية ثنائية القومية .
وعلى خلفية هذه الافكار والممارسات كانت سياسة الترانسفير ، التهجير القسري والتطهير العرقي ، التي وجدت ترجمتها الفعلية في ماسمي في الايام الاخيرة من عهد الانتداب على فلسطين بالخطة " دالت " ، التي اعتمدتها قيادة الوكالة اليهودية في العاشر من آذار 1948 سياسة رسمية اوكلت تنفيذها للوحدات العسكرية للهاجاناه او ما كان يسمى في الدوائر الرسمية بالقوات اليهودية . في تلك الخطة اعطيت الاوامر لتلك الوحدات العسكرية لترجمة سياسة الترانسفير بتوجيهات مفصلة كاثارة الرعب بين السكان ومحاصرة القرى والبلدات والاحياء الفلسطينية وقصفها وحرق المنازل والاملاك والبضائع وهدم البيوت والمنشآت وزرع الالغام وسط الانقاض لمنع السكان من العودة الى قراهم وبلداتهم واحيائهم ، وهو الامر الذي كشفه عدد من المؤرخين الجدد اليهود من أمثال بيني موريس ، وشيما فلابان ، وآفي شلايم وايلان بابيه ، بالاعتماد على " قانون السرية " الاسرائيلي ، الذي يسمح بالاطلاع على معلومات ووثائق مضى عليها 40 عاماً . خطة " دالت " تلك تواصلت على امتداد ستة أشهر ارتكبت فيها 28 مجزرة اشدها هولاً وقسوة مجزرة دير ياسين وترتب عليها تدمير 531 بلدة وقرية فلسطينية واخلاء نحو احد عشر حيا سكنيا في عدد من المدن الفلسطينية ، مثلما ترتب عليها تهجير 800 ألف فلسطيني ، تحولوا الى لاجئين في وطنهم ولاجئين في البلدان العربية المجاورة .
نعود بعد هذا كله الى الرئيس القادم من اقصى الغرب للاحتفال ، او المشاركة في احتفال الذكرى الستين لقيام دولة اسرائيل وندعوه الى النظر في الجانب الاخر من الصورة ، في صورة النكبة – المأساة ، التي يحيي الفلسطينيون في جميع مناطق تواجدهم ، ذكراها الستين في الوقت نفسه . هي صورة لم ترسمها دعوة تزعم اسرائيل انها صدرت عن دول عربية تدعو الفلسطينيين الى مغادرة مدنهم وبلداتهم وقراهم بانتظار العودة اليها في اعقاب نصر ، بل صورة رسمتها سياسة لا تشبه سياسة التطهير العرقي ، التي مارسها المتطرفون القوميون الصرب ضد كوسوفو ومن قبل ضد البوسنه والهرسك فقط من بعيد .
وعندما ندعو الرئيس الاميركي الى النظر في الجانب الاخر من الصورة ، فليس لمجرد اثارة الاهتمام بالجوانب الانسانية لقضية اللاجئين على اهمية ذلك ، بل من اجل التأكيد على ضرورة واهمية وقف الاندفاع في دعم سياسة دولة اسرائيل واهمية ان تجري الادارة الاميركية مراجعة في سياستها تسهم في اخراج المنطقة من أزماتها المتفاقمة . وبالنسبة للشعب الفلسطيني فان الخطوة الاولى في طريق هذه المراجعة تبدأ عندما يدرك الرئيس الاميركي ان اسرائيل قد تلقفت رسالته الى أرئيل شارون في نيسان من العام 2004 كما لو كانت وعد بلفور جديد ، ويعلن سحبه لتلك الرسالة وتراجعه عنها حتى يصبح ممكنا التقدم في جهود التسوية من البوابة الفلسطينية على اساس قرارات الشرعية الدولية بما فيها القرار 194 باعتبارها المدخل لوقف سقوط المنطقة في المزيد من الفوضى الهدامة ، التي تهدد أمنها واستقرارها وتهدد الامن والاستقرار الدولي كذلك .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق