د. عبدالله المدني
في الأخبار التي طالعتنا بها وسائل الإعلام المختلفة في أواخر مارس/ آذار الماضي، حدث مر مرور الكرام على الكثيرين، دونما استيعاب لدروسه و مغازيه. وحدها النسخة الآسيوية من مجلة تايم الأمريكية، أفردت له تحقيقا خاصا مطولا تحت عنوان بارز هو " الهنود يستعمرون الهند"، وذلك من منطلق علمها بخلفيات و دلالات الحدث الذي تمثل في نجاح إمبراطورية "تاتا" الهندية العملاقة الخاصة في تملك جوهرتي الصناعة البريطانية بالكامل، ونعني بالجوهرتين شركتي "جاغوار" و "لاندروفر" للمركبات الفاخرة، حيث ابتاعتهما الشركة الهندية من مالكتهما الأمريكية (شركة فورد) بمبلغ يقال انه وصل إلى 2 بليون دولار، علما أن فورد كانت قد ابتاعت الشركتين من الإنجليز في عامي 1989 و2000 على التوالي بمبلغ 2.5 بليون دولار للأولى ومبلغ2.7 بليون دولا للثانية، وعرضتهما منذ ديسمبر/ كانون الأول 2007 للبيع بحثا عن الأموال من اجل سداد خسائر تعرضت لها في العام الماضي بأكثر من 12 بليون دولار كنتيجة لارتفاع تكاليف الإنتاج في بريطانيا وضعف الدور الأمريكي مقارنة بالجنيه الإسترليني.
ويأتي هذا الحدث بعد حدث آخر لا يقل أهمية بالنسبة للبريطانيين والهنود معا، هو نجاح الشركة الهندية ذاتها قبل فترة قليلة في امتلاك جوهرة أخرى ثمينة من جواهر الصناعة البريطانية هي المصانع التي تنتج احد أحب مشروبات الشعير إلى قلوب الإنجليز، ونعني به البيرة السمراء من ماركة " تيتلي".
ولئن كان من الطبيعي أن يحتفل الهنود بالحدث و يعتبرونه إنجازا، فان البريطانيين انقسموا إزاء الحدث: فمنهم من عبر عن غضبه لبيع ما وصفه بالأيقونة الغالية والعزيزة على قلب كل بريطاني، ومنهم من قال أن المهم هو أن تبقى الصناعتان على الأرض البريطانية كي توظف العاطلين وتشكل مصدر دخل لهم، ومنهم من قال انه مهما حدث فان العالم لن ينسى أن "الجاكوار" الذي خرج إلى الأسواق لأول مرة في عام 1935 و "لاند روفر" الذي طرح في السوق للمرة الأولى في عام 1948 هما مركبتان بريطانيتان. وكانت هناك أيضا فئة أعربت عن أن جل أملها الآن هو أن يبقي الهنود على اسمي المركبتين كما هو أي دون أن يصبحا ملحقين أو مسبوقين بكلمة "تاتا".
وهذه فرصة قد لا تتكرر لإلقاء بعض الأضواء على إمبراطورية "تاتا" التي منذ انطلاقتها على يد مؤسسها "جمشيد جي تاتا" في اواسط القرن التاسع عشر، التزمت بمنهج وطني، وسخرت نفسها لأهداف بناء الدولة الوطنية المستقلة على النحو الذي أراده و دعا إليه جواهر لال نهرو أحد اقطاب الاستقلال وتلميذ غاندي وأول رئيس حكومة في تاريخ الهند المستقلة. والدليل نستمده من قرار شركة "تاتا" في أوائل الخمسينات، يوم كانت الهند قد بدأت تخطو خطواتها الأولى نحو التنمية والتصنيع والتقدم العلمي، بالتبرع بنصف ممتلكاتها من اجل خطط التعليم و البحث العلمي، وبهذا فهي استثمرت في مجال سوف يعود عليها بالنفع والخير في غضون سنوات قليلة في صورة مهندسين وباحثين وإداريين ومحاسبين وتقنيين للعمل في الحقول التي تعمل بها "تاتا". ورغم مرور نحو ست عقود على هذا الحدث، وتفوق الهند في مجالات حيوية عديدة، فان "تاتا" لا تزال تعتبر نفسها شريكة مع الحكومة في تحمل قدر من المسئوليات الاجتماعية والرعائية، منطلقة من دائما من القيم التي اخطتها لنفسها منذ عهد مؤسسها الأول جمشيد جي: وهي قيم التكامل والالتزام والمسئولية والاتحاد والتميز والأخلاق، التي تعتبر في مجملها بوصلة تاتا في العمل والإنتاج والتعامل مع عملائها و موظفيها وعمالها.
والحقيقة أن "تاتا" التي يترأسها منذ عام 1991 "راتان تاتا" وهو أحد أفراد الجيل الخامس من هذه العائلة التي تنتمي إلى الأقلية "البارسية" أي المجوس الذين هربوا من بلاد فارس إلى الهند البريطانية خوفا على حياتهم من الاضطهاد والملاحقة والتمييز، توسعت في أعمالها إلى الدرجة التي صارت معها من اكبر الشركات الهندية الخاصة على الإطلاق. كيف لا وقد باتت مؤلفة اليوم من 98 مؤسسة، ولها وجود في أكثر من85 بلدا، وتصدر منتجاتها وخدماتها إلى أكثر من 80 دولة ويعمل فيها عدد إجمالي من الموظفين والعمال يصل إلى نحو 290 ألفا. أما مؤسساتها الثمانية والتسعين فكل منها يختص بحقل عمل من اصل 27 حقلا من أهمها: تاتا لتكنولوجيا المعلومات، وتاتا للاتصالات، وتاتا للطاقة، وتاتا للمركبات والشاحنات، وتاتا للتعدين، وتاتا لصناعة الشاي، وتاتا للفنادق والمنتجعات و تاتا للاستشارات، وتاتا للمواد الاستهلاكية، وتاتا للبناء والهندسة، وتاتا للمواد الكيماوية.
تاريخيا بدأ المؤسس جمشيد جي شركته من الاشتغال في مجال الأقمشة والنسيج في ولاية مهاراشترا التي لا تزال عاصمتها "مومباي" قاعدة لإمبراطورية تاتا. وقد ساعدته ثقافته المتأتية من السفر والترحال وجذوره الفارسية في تطوير صناعة النسيج في الهند، خاصة مع وجود محاصيل قطن وحرير وفيرة وجيدة في الهند.
ومن هذه الصناعة انطلق إلى صناعة أخرى هي الصناعة الفندقية. إذ لاحظ الرجل احتكار الأوروبيين لها، وخلو "بومباي" من فنادق فخمة تليق بمكانتها وقتذاك كعاصمة للراج البريطاني، فقرر في حدود عام 1903 بناء فندق "تاج محل" المعروف المواجه لكورنيش بومباي والقريب موقع احد صروح المدينة الأثرية والمعروف باسم "غيت أوف انديا". ومنذاك صارت سلسلة فنادق "تاج محل" علامة تجارية تصادفها في دول أخرى مثلها مثل هيلتون وشيراتون وماريوت وهوليداي إن.
بعد ذلك كرت سبحة الإنجازات والتوسعات، فكان لا يمر عدد من السنين، إلا و تاتا تدخل ميدانا جديدا وتنخرط فيه بحماس وثقة محققة نجاحات مشهودة.
ففي سنة 1907 مثلا اقتحمت تاتا ميدان صناعة الفولاذ، واختارت لهذا النشاط مدينة "جمشيدبور" التي سميت باسم مؤسس الشركة "جمشيد جي"، كنوع من التخليد لذكراه.
وهكذا لم يأت عام 1912 إلا و هذا المصنع، الأول من نوعه على الإطلاق في الهند، قد بدأ في الإنتاج وبأسعار تنافسية.
أما في سنة1917 فقد كانت تاتا مع موعد لدخول صناعة المنتوجات الاستهلاكية وذلك من خلال تأسيس مصنع لصناعة الصابون ومرطبات الجلد وزيوت الشعر والطبخ.
غير أن تاتا الطموحة لم يكفها كل هذا، فالتفتت في عام 1932 إلى مجال غير مسبوق في تاريخ الهند هو مجال الطيران، فأسست في ذلك العام "شركة تاتا ايرلاينز" التي ستتحول لاحقا إلى "شركة اير انديا" لخدمة الخطوط الداخلية.
الخطوة اللاحقة جاءت بعد خمسة سنوات، أي في عام 1939 ، حينما دشنت تاتا شركة جديدة من شركاتها تحت اسم "تاتا كيميكالز" كفرع خاص لإنتاج المواد الكيماوية والأسمدة والمبيدات، وأردفت هذه الخطوة بخطوة أخرى مثيرة هي تأسيسها لشركة "تاتا موتورز" كفرع خاص بإنتاج المركبات والشاحنات، وهو ما قوى نفوذها وعزز شوكتها.
إن تاريخ الاستعمار وما يحفل به عادة من معارك ودماء وآلام وفواجع وظلم غالبا ما يبعد المستعمر (بفتح الميم) عن المستعمر (بكسر الميم) ويصنع بينهما سدا منيعا يحول دون تواصلهما. غير أنه في حالة بريطانيا والهند، وكنتيجة لقدرة الهنود على العفو والتسامح ونسيان الماضي وابتعادهم عن الشعارات الطوباوية والخطط الارتجالية في بناء كيانهم المستقل، حدث العكس. فمثلما كانت إدارتهم لصراعهم مع المستعمر البريطاني متميزة عن صراعات الآخرين، كانت إدارتهم لعلاقاتهم مع المستعمر بعد رحيله أيضا متميزة ويسودها التعاون والتواصل من خلال منظومة الكومنولث. صحيح ان التاريخ الدامي للاستعمار البريطاني وعنجهيته تركا بصمات على علاقات الشعبين، نجد تجلياتها في ما يحدث من شد وجذب أثناء مباريات لعبة "الكريكيت" التي يكون احد طرفيها الهند والطرف الآخر بريطانيا. لكن الصحيح أيضا أنه في الوقت الذي لا يتردد فيه الهندي من استخدام لغة مستعمره السابق، بل والتصريح بأنها كانت أعظم هدية قدمت للهند(أنها كانت سببا في تقريب المسافات ما بين مكونات الشعب الهندي المختلفة لغة وثقافة) فان البريطاني لا مشكلة لديه في استخدام العديد من المفردات التي تسربت إلى لغته من الهندية مثل: غورو ، جانغل، بيجاما، شامبو. بل لا مشكلة لديه في اعتبار بعض الأطباق الهندية الأصيلة جزءا من المطبخ البريطاني، إضافة إلى إدراجه للشاي الهندي ضمن المكونات الأساسية لوجبة الإفطار الإنجليزية.
ويمكن تصنيف صفقة شراء الجاغوار واللاندروفر، في خانة التنافس الصامت بين الهنود ومستعمريهم السابقين من اجل التفوق والبروز واثبات الذات، و إلا فما هو الدافع وراء إنفاق "تاتا موتورز" لنحو بليوني دولار على شركتين خاسرتين، في الوقت الذي تطرح فيه ما أطلق عليه بسيارة الشعب أو سيارة "نانو" الأرخص ثمنا في العالم (2.500 دولار أمريكي). فشركة الجاغوار التي كان معدل عدد السيارات التي تبيعها كل سنة هو 130 ألف سيارة صارت لا تبيع اليوم سوى 60 ألف سيارة كل عام، معظمها في الأسواق البعيدة عن الهند كالأسواق البريطانية والأمريكية والروسية والإيطالية.
جملة القول أن الهنود لم يختلفوا عن جيرانهم العرب في طريقة إدارة صراعهم مع المستعمر من اجل الاستقلال والتحرر فحسب، ولا في كيفية إدارة العلاقة التي نشأت بينهم وبين المستعمر بعد رحيل الأخير، وإنما أيضا في أسلوب العمل الصامت والمخطط والبعيد عن الشعارات من اجل التفوق عليه وتملك كل ما هو عزيز وغال على نفسه.
د. عبدالله المدني
*محاضر وباحث أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة: 11 مايو 2008
البريد الالكتروني:
في الأخبار التي طالعتنا بها وسائل الإعلام المختلفة في أواخر مارس/ آذار الماضي، حدث مر مرور الكرام على الكثيرين، دونما استيعاب لدروسه و مغازيه. وحدها النسخة الآسيوية من مجلة تايم الأمريكية، أفردت له تحقيقا خاصا مطولا تحت عنوان بارز هو " الهنود يستعمرون الهند"، وذلك من منطلق علمها بخلفيات و دلالات الحدث الذي تمثل في نجاح إمبراطورية "تاتا" الهندية العملاقة الخاصة في تملك جوهرتي الصناعة البريطانية بالكامل، ونعني بالجوهرتين شركتي "جاغوار" و "لاندروفر" للمركبات الفاخرة، حيث ابتاعتهما الشركة الهندية من مالكتهما الأمريكية (شركة فورد) بمبلغ يقال انه وصل إلى 2 بليون دولار، علما أن فورد كانت قد ابتاعت الشركتين من الإنجليز في عامي 1989 و2000 على التوالي بمبلغ 2.5 بليون دولار للأولى ومبلغ2.7 بليون دولا للثانية، وعرضتهما منذ ديسمبر/ كانون الأول 2007 للبيع بحثا عن الأموال من اجل سداد خسائر تعرضت لها في العام الماضي بأكثر من 12 بليون دولار كنتيجة لارتفاع تكاليف الإنتاج في بريطانيا وضعف الدور الأمريكي مقارنة بالجنيه الإسترليني.
ويأتي هذا الحدث بعد حدث آخر لا يقل أهمية بالنسبة للبريطانيين والهنود معا، هو نجاح الشركة الهندية ذاتها قبل فترة قليلة في امتلاك جوهرة أخرى ثمينة من جواهر الصناعة البريطانية هي المصانع التي تنتج احد أحب مشروبات الشعير إلى قلوب الإنجليز، ونعني به البيرة السمراء من ماركة " تيتلي".
ولئن كان من الطبيعي أن يحتفل الهنود بالحدث و يعتبرونه إنجازا، فان البريطانيين انقسموا إزاء الحدث: فمنهم من عبر عن غضبه لبيع ما وصفه بالأيقونة الغالية والعزيزة على قلب كل بريطاني، ومنهم من قال أن المهم هو أن تبقى الصناعتان على الأرض البريطانية كي توظف العاطلين وتشكل مصدر دخل لهم، ومنهم من قال انه مهما حدث فان العالم لن ينسى أن "الجاكوار" الذي خرج إلى الأسواق لأول مرة في عام 1935 و "لاند روفر" الذي طرح في السوق للمرة الأولى في عام 1948 هما مركبتان بريطانيتان. وكانت هناك أيضا فئة أعربت عن أن جل أملها الآن هو أن يبقي الهنود على اسمي المركبتين كما هو أي دون أن يصبحا ملحقين أو مسبوقين بكلمة "تاتا".
وهذه فرصة قد لا تتكرر لإلقاء بعض الأضواء على إمبراطورية "تاتا" التي منذ انطلاقتها على يد مؤسسها "جمشيد جي تاتا" في اواسط القرن التاسع عشر، التزمت بمنهج وطني، وسخرت نفسها لأهداف بناء الدولة الوطنية المستقلة على النحو الذي أراده و دعا إليه جواهر لال نهرو أحد اقطاب الاستقلال وتلميذ غاندي وأول رئيس حكومة في تاريخ الهند المستقلة. والدليل نستمده من قرار شركة "تاتا" في أوائل الخمسينات، يوم كانت الهند قد بدأت تخطو خطواتها الأولى نحو التنمية والتصنيع والتقدم العلمي، بالتبرع بنصف ممتلكاتها من اجل خطط التعليم و البحث العلمي، وبهذا فهي استثمرت في مجال سوف يعود عليها بالنفع والخير في غضون سنوات قليلة في صورة مهندسين وباحثين وإداريين ومحاسبين وتقنيين للعمل في الحقول التي تعمل بها "تاتا". ورغم مرور نحو ست عقود على هذا الحدث، وتفوق الهند في مجالات حيوية عديدة، فان "تاتا" لا تزال تعتبر نفسها شريكة مع الحكومة في تحمل قدر من المسئوليات الاجتماعية والرعائية، منطلقة من دائما من القيم التي اخطتها لنفسها منذ عهد مؤسسها الأول جمشيد جي: وهي قيم التكامل والالتزام والمسئولية والاتحاد والتميز والأخلاق، التي تعتبر في مجملها بوصلة تاتا في العمل والإنتاج والتعامل مع عملائها و موظفيها وعمالها.
والحقيقة أن "تاتا" التي يترأسها منذ عام 1991 "راتان تاتا" وهو أحد أفراد الجيل الخامس من هذه العائلة التي تنتمي إلى الأقلية "البارسية" أي المجوس الذين هربوا من بلاد فارس إلى الهند البريطانية خوفا على حياتهم من الاضطهاد والملاحقة والتمييز، توسعت في أعمالها إلى الدرجة التي صارت معها من اكبر الشركات الهندية الخاصة على الإطلاق. كيف لا وقد باتت مؤلفة اليوم من 98 مؤسسة، ولها وجود في أكثر من85 بلدا، وتصدر منتجاتها وخدماتها إلى أكثر من 80 دولة ويعمل فيها عدد إجمالي من الموظفين والعمال يصل إلى نحو 290 ألفا. أما مؤسساتها الثمانية والتسعين فكل منها يختص بحقل عمل من اصل 27 حقلا من أهمها: تاتا لتكنولوجيا المعلومات، وتاتا للاتصالات، وتاتا للطاقة، وتاتا للمركبات والشاحنات، وتاتا للتعدين، وتاتا لصناعة الشاي، وتاتا للفنادق والمنتجعات و تاتا للاستشارات، وتاتا للمواد الاستهلاكية، وتاتا للبناء والهندسة، وتاتا للمواد الكيماوية.
تاريخيا بدأ المؤسس جمشيد جي شركته من الاشتغال في مجال الأقمشة والنسيج في ولاية مهاراشترا التي لا تزال عاصمتها "مومباي" قاعدة لإمبراطورية تاتا. وقد ساعدته ثقافته المتأتية من السفر والترحال وجذوره الفارسية في تطوير صناعة النسيج في الهند، خاصة مع وجود محاصيل قطن وحرير وفيرة وجيدة في الهند.
ومن هذه الصناعة انطلق إلى صناعة أخرى هي الصناعة الفندقية. إذ لاحظ الرجل احتكار الأوروبيين لها، وخلو "بومباي" من فنادق فخمة تليق بمكانتها وقتذاك كعاصمة للراج البريطاني، فقرر في حدود عام 1903 بناء فندق "تاج محل" المعروف المواجه لكورنيش بومباي والقريب موقع احد صروح المدينة الأثرية والمعروف باسم "غيت أوف انديا". ومنذاك صارت سلسلة فنادق "تاج محل" علامة تجارية تصادفها في دول أخرى مثلها مثل هيلتون وشيراتون وماريوت وهوليداي إن.
بعد ذلك كرت سبحة الإنجازات والتوسعات، فكان لا يمر عدد من السنين، إلا و تاتا تدخل ميدانا جديدا وتنخرط فيه بحماس وثقة محققة نجاحات مشهودة.
ففي سنة 1907 مثلا اقتحمت تاتا ميدان صناعة الفولاذ، واختارت لهذا النشاط مدينة "جمشيدبور" التي سميت باسم مؤسس الشركة "جمشيد جي"، كنوع من التخليد لذكراه.
وهكذا لم يأت عام 1912 إلا و هذا المصنع، الأول من نوعه على الإطلاق في الهند، قد بدأ في الإنتاج وبأسعار تنافسية.
أما في سنة1917 فقد كانت تاتا مع موعد لدخول صناعة المنتوجات الاستهلاكية وذلك من خلال تأسيس مصنع لصناعة الصابون ومرطبات الجلد وزيوت الشعر والطبخ.
غير أن تاتا الطموحة لم يكفها كل هذا، فالتفتت في عام 1932 إلى مجال غير مسبوق في تاريخ الهند هو مجال الطيران، فأسست في ذلك العام "شركة تاتا ايرلاينز" التي ستتحول لاحقا إلى "شركة اير انديا" لخدمة الخطوط الداخلية.
الخطوة اللاحقة جاءت بعد خمسة سنوات، أي في عام 1939 ، حينما دشنت تاتا شركة جديدة من شركاتها تحت اسم "تاتا كيميكالز" كفرع خاص لإنتاج المواد الكيماوية والأسمدة والمبيدات، وأردفت هذه الخطوة بخطوة أخرى مثيرة هي تأسيسها لشركة "تاتا موتورز" كفرع خاص بإنتاج المركبات والشاحنات، وهو ما قوى نفوذها وعزز شوكتها.
إن تاريخ الاستعمار وما يحفل به عادة من معارك ودماء وآلام وفواجع وظلم غالبا ما يبعد المستعمر (بفتح الميم) عن المستعمر (بكسر الميم) ويصنع بينهما سدا منيعا يحول دون تواصلهما. غير أنه في حالة بريطانيا والهند، وكنتيجة لقدرة الهنود على العفو والتسامح ونسيان الماضي وابتعادهم عن الشعارات الطوباوية والخطط الارتجالية في بناء كيانهم المستقل، حدث العكس. فمثلما كانت إدارتهم لصراعهم مع المستعمر البريطاني متميزة عن صراعات الآخرين، كانت إدارتهم لعلاقاتهم مع المستعمر بعد رحيله أيضا متميزة ويسودها التعاون والتواصل من خلال منظومة الكومنولث. صحيح ان التاريخ الدامي للاستعمار البريطاني وعنجهيته تركا بصمات على علاقات الشعبين، نجد تجلياتها في ما يحدث من شد وجذب أثناء مباريات لعبة "الكريكيت" التي يكون احد طرفيها الهند والطرف الآخر بريطانيا. لكن الصحيح أيضا أنه في الوقت الذي لا يتردد فيه الهندي من استخدام لغة مستعمره السابق، بل والتصريح بأنها كانت أعظم هدية قدمت للهند(أنها كانت سببا في تقريب المسافات ما بين مكونات الشعب الهندي المختلفة لغة وثقافة) فان البريطاني لا مشكلة لديه في استخدام العديد من المفردات التي تسربت إلى لغته من الهندية مثل: غورو ، جانغل، بيجاما، شامبو. بل لا مشكلة لديه في اعتبار بعض الأطباق الهندية الأصيلة جزءا من المطبخ البريطاني، إضافة إلى إدراجه للشاي الهندي ضمن المكونات الأساسية لوجبة الإفطار الإنجليزية.
ويمكن تصنيف صفقة شراء الجاغوار واللاندروفر، في خانة التنافس الصامت بين الهنود ومستعمريهم السابقين من اجل التفوق والبروز واثبات الذات، و إلا فما هو الدافع وراء إنفاق "تاتا موتورز" لنحو بليوني دولار على شركتين خاسرتين، في الوقت الذي تطرح فيه ما أطلق عليه بسيارة الشعب أو سيارة "نانو" الأرخص ثمنا في العالم (2.500 دولار أمريكي). فشركة الجاغوار التي كان معدل عدد السيارات التي تبيعها كل سنة هو 130 ألف سيارة صارت لا تبيع اليوم سوى 60 ألف سيارة كل عام، معظمها في الأسواق البعيدة عن الهند كالأسواق البريطانية والأمريكية والروسية والإيطالية.
جملة القول أن الهنود لم يختلفوا عن جيرانهم العرب في طريقة إدارة صراعهم مع المستعمر من اجل الاستقلال والتحرر فحسب، ولا في كيفية إدارة العلاقة التي نشأت بينهم وبين المستعمر بعد رحيل الأخير، وإنما أيضا في أسلوب العمل الصامت والمخطط والبعيد عن الشعارات من اجل التفوق عليه وتملك كل ما هو عزيز وغال على نفسه.
د. عبدالله المدني
*محاضر وباحث أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة: 11 مايو 2008
البريد الالكتروني:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق