د. عبدالله المدني
مرة أخرى، يثبت الآسيويون – على خلاف أمم كثيرة وفي المقدمة منها أممنا - أنهم يتعلمون من دروس الماضي جيدا ويتمعنون فيها ويوظفونها بطريقة تحول دون وقوع الأخطاء مجددا في برامجهم وخططهم القادمة. ومناسبة العودة للحديث عن هذا الموضوع الذي اشبعناه بحثا في مقالات سابقة، هي قرار صائب وذو أهمية بالغة اتخذه وزراء مالية 13 دولة آسيوية (الأعضاء العشرة في رابطة أمم جنوب شرق آسيا المعروفة اختصارا باسم آسيان، إضافة إلى الآسيويين الثلاث الكبار أي الصين واليابان وكوريا الجنوبية) في الرابع من مايو/أيار الجاري، وذلك على هامش مؤتمرهم السنوي الحادي عشر الذي عادة ما تختار له إحدى العواصم أو المدن العالمية. ونقصد بهذا القرار الذي شهدت مولده العاصمة الأسبانية (مدريد)، تأسيس صندوق برأسمال إجمالي مقداره 80 بليون دولار، تساهم به الدول العشر بنسبة 20 بالمئة فيما تدفع الدول الثلاث الأخرى الأقوى اقتصادا والأكثر مواردا نسبة الثمانين بالمئة المتبقية، وذلك من اجل مواجهة أية أزمة مالية يتعرض لها إقليم شرق آسيا على غرار ما حدث في عامي 1997/1998 حينما أدت مضاربات نقدية على العملات الآسيوية الرئيسية إلى انهيارات مالية متتالية في أسواق النقد والأسهم والسندات وإفلاس المصارف وكبريات الشركات و مؤسسات الأعمال الآسيوية.
والحقيقة، أني لم أجد وصفا لهذا الصندوق أفضل من الوصف الذي قال به الخبير النقدي الياباني المعروف "هيروشي واتانابي" في مقابلة له مع مجلة سنغافورية في ابريل/نيسان الماضي، حيث وصفه بصندوق إسعاف إقليمي الغرض منه تخفيف الألم ووقف النزيف مؤقتا والحيلولة دون تلوث الجرح أو اتساعه إلى حين وصول صندوق الإسعاف الدولي، أو إذا أمكن للحيلولة دون طلب مساعدات أجنبية.
وكانت فكرة هذا الصندوق قد نوقشت للمرة الأولى في أعقاب أزمة 1997/1998 النقدية ، وذلك من خلال ما عرف بمبادرة " تشانغماي" – نسبة إلى مدينة تشانغماي التايلندية الشمالية الجبلية- حيث تداعى وزراء مالية دول شرق آسيا لبحث تطورات أسوأ أزمة مالية في تاريخ آسيا المعاصر. غير أن المناقشات لم تفض في حينه إلا إلى مجموعة من الاتفاقيات الثنائية بين الدول المعنية لحماية أسعار تحويل عملاتها الوطنية وانتقالها. على أن الجهود لم تتوقف مذاك من اجل توسيع قاعدة تلك الاتفاقية لتغدو مشروعا متعدد الأغراض والأطراف وأكثر قوة وصرامة أو لتصبح بمثابة نسخة آسيوية من صندوق النقد الدولي ، وموجهة بالدرجة الأولى نحو إنقاذ اقتصاديات شرق آسيا في أوقات الأزمات والمحن المالية.
وفي المؤتمر ما قبل الأخير لبنك التنمية الآسيوي الذي عقد في مدينة كيوتو اليابانية في العام الماضي، توصل وزراء مالية الدول الثلاثة عشرة إلى قرار اعتقد الكثيرون انه بعيد المنال. غير أن صناع القرار الآسيويين، وبدافع المسئولية والحرص و الترفع عن الأنانية، و انطلاقا من التحديات المالية وتبعاتها الاجتماعية التي تواجها دولهم في ظل الارتفاعات المستمرة لأسعار الطاقة وأسعار الطعام والسلع الرئيسية وما يشكله ذلك من موجات تضخم وما يستدعيه ذلك من التسلح بأسلحة وإجراءات ووسائل فعالة لحماية الاقتصاد الوطني والأمن الاجتماعي، والمحافظة على زخم النمو الاقتصادي المهدد بالتراجع، قرروا دون مماطلة أو تسويف أو نقاشات بيزنطية عقيمة وضع جزء من احتياطات دولهم النقدية البالغ اجماليها نحو 3.4 تريليون دولار جانبا ليكون بمثابة رأسمال لصندوق آسيوي جديد يهب في وقت الأزمات لنجدة اقتصاديات شرق آسيا ودعهمها بما يلزم من مساعدات وقروض وائتمانات وسيولة، تاركين لمؤتمر مدريد تحديد رأس المال هذا ونسب توزيعه. وهذا ما تم بالفعل في مدريد وبروح المسئولية أيضا الذي تمثل في اختيار المجتمعين لمبلغ ثمانية بلايين دولار (52 بليون يورو) كرأسمال للصندوق موزعا بنسبة 20:80 ما بين دول آسيان و اقطاب آسيا الكبار الثلاث على التوالي، مع تعهد بتوفير ما لا يقل عن 58 بليون دولار فورا. أما الأمور التفصيلية الخاصة بكيفية استفادة الدول الآسيوية من أموال هذا الصندوق والحالات التي يفترض للصندوق التدخل فيها وكيفية إنفاق تلك الأموال بطريقة سليمة وبعيدة عن الفساد والبيروقراطية، فتركتها للاجتماع السنوي القادم المقرر عقده في عام 2009 في جزيرة بالي الاندونيسية.
ويمكن من خلال إلقاء نظرة على البيان الختامي لوزراء المال الآسيويين في مدريد أن نلاحظ أن شغلهم الشاغل هذه السنة، لئن تركز على إنشاء الصندوق الذي أسلفنا الحديث عنه، فانه انصب أيضا على طائفة واسعة من الأمور التي لها علاقة مباشرة بما يواجهه الاقتصاد العالمي اليوم من تحديات غير مسبوقة تستدعي إجراءات متنوعة طويلة وقصيرة المدى، وذلك من اجل المحافظة على معدلات الزخم والنمو الاقتصادي في المنطقة والتي سجلت هذا العام أدنى مستوياتها خلال نصف عقد فبلغت 7.6 بالمئة، فيما كانت في العام الماضي في أفضل حالاتها بتسجيلها الرقم 8.7 بالمئة. من التحديات التي شغلت الوزراء الآسيويين: الخلل القائم في أسواق الائتمان العقاري والمتأثرة بما حدث في الولايات المتحدة، و التأثيرات السلبية لحالة الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني من تراجع وبطيء في النمو لم يشهده منذ عام 2002، بل يتوقع له المراقبون بنسبة 25 بالمئة أن يمر في حالة تشبه حالته في فترة الكساد العظيم في الثلاثينات. على أن الأخطر من كل هذه التحديات هو الضغوط التضخمية المتأتية من ارتفاع أسعار الطاقة والتي رفعت بدورها قيمة فواتير النفط والغاز المستوردين، فأصابت الموازنات العامة لغالبية الدول الآسيوية بعجوزات، وبالتالي فقدت هذه الدول قدرتها السابقة في دعم الكثير من السلع الاستهلاكية الرئيسية، وعلى رأسها المواد الغذائية، الأمر الذي انعكس بشدة على حالة المواطنين ولا سيما الطبقة الفقيرة.
والموضوع الأخير في الحقيقة استأثر بمناقشات محافظي البنوك المركزية للدول الأعضاء في بنك التنمية الآسيوي الذين عقدوا اجتماعهم السنوي الحادي والأربعين في أوائل مايو/ أيار في العاصمة الأسبانية أيضا. فعلى خلاف اجتماعهم السابق في كيوتو اليابانية في العام الماضي والذي كان التركيز فيه على خطط طويلة المدى لتمويل عملية طموحة لربط أجزاء وأقاليم ومدن القارة الآسيوية بعضها ببعض، كان التركيز هذه المرة على مسألة التعاون ما بين الشركات الخاصة والحكومات في الدول الآسيوية لمعالجة أزمة الغذاء وارتفاع أسعاره، أو ما يمكن اختصاره في عبارة واحدة هي " كيفية التصدي لحالات التضخم المتفاقمة التي تزيد الفقراء فقرا وعوزا وجوعا".
والمعروف أن بنك التنمية الآسيوي منذ تأسيسه في عام 1966 واتخاذه من العاصمة الفلبينية (مانيلا) مقرا له، قد اتخذ من محاربة الفقر وتحسين الأحوال المعيشية لشعوب منطقتي آسيا والباسفيكي حيث كان يعيش بليوني نسمة ممن تقل دخولهم اليومية عن دولارين. وهو رغم بعض الانتقادات التي وجهت له من أطراف خارجية مثل استراليا والأمم المتحدة بأنه غير عادل في توزيع خيراته، أو غير دقيق في اختيار اولوياته، فانه حظي مؤخرا بثناء الدول الآسيوية الثلاث عشرة لقيامه مؤخرا بتخصيص نحو 500 مليون دولار إضافي وبصفة عاجلة من اجل مساعدة الدول الآسيوية الأفقر والأكثر تأثرا بفواتير الطاقة التي ارتفعت أسعارها بنسبة 85 بالمئة خلال عام واحد، ولتعهده أيضا بمضاعفة هذا المبلغ إلى بليوني دولار خلال عام 2009 ، شريطة إنفاق جله على خطط محكمة للارتقاء بالإنتاج الزراعي وتحسين وسائل نقل المحاصيل إلى الأسواق وتوفير الأسمدة بأسعار متهاودة. ويمكن معرفة مدى حراجة الوضع، إذا ما تمعنا التقارير التي تقول أن نحو بليوني نسمة تأثروا بموجة التضخم الراهنة، وان هذه الموجة حصدت نحو 60 بالمئة من إنفاقهم، علما بأن الإنفاق على الطعام والطاقة في آسيا يمتص 75 بالمئة من إجمالي دخل المواطن.
وتعقيبا على تركيز بنك التنمية الآسيوي (يضم 67 دولة، 48 من داخل آسيا، و19 دولة من خارجها، وتحصل على أموالها من قروض وهبات الأعضاء أو المؤسسات الدولية أو إصدار السندات واذونات الخزانة أو احتساب فوائد بسيطة على قروضها) على مسألة ضرورة تضافر جهود الشركات الخاصة مع جهود الحكومات في إيجاد مخارج سريعة لحالات النقص في السلع الغذائية، ولا سيما الأرز الذي يعتبر الغذاء الرئيس للسواد الأعظم من الآسيويين والذي ارتفعت أسعاره خلال عام واحد بنسبة 100 بالمئة، ناهيك عن توجه معدلات التضخم الآسيوية إلى بلوغ واحد من أعلى المعدلات خلال عقد، قال الخبير الاقتصادي الاستراتيجي السنغافوري "جوزيف تان": أن عددا من دول منظومة آسيان تعتبر ضمن الدول الرئيسية المنتجة للأرز وبالتالي، فانه بالامكان عمل شيء من خلال التعاون الإقليمي الجماعي، على نحو ما ، لكن الأمر ليست بتلك البساطة، فلكل قرار آثار جانبية سلبية. فمثلا حينما خفضت فيتنام مؤخرا كمية الأرز الموجه إلى التصدير بهدف زيادة المعروض منه في الداخل وبالتالي تخفيض أسعاره وفق منطوق العرض والطلب، حدث أن شحت كميات الأرز الموجهة إلى الفلبين( احد اكبر مستوردي الحبوب وفول الصويا في العالم)، متسببة في ارتفاع أسعاره هناك إلى مستويات قياسية، وبالتالي انعكاس ذلك بحدة على المواطن الفلبيني الفقير.
لا يعني ما استعرضناه هنا أن الأحوال في القارة الآسيوية قد وصلت إلى منعطف خطير يهدد بكوارث وزلازل مالية واقتصادية، فرغم كل شيء هناك تفاؤل بأن الاقتصاد الإقليمي ماض في طريقه ويحقق معدلات نمو، وان كانت اقل من المخطط، لكن الآسيويين كما قلنا في البداية تعلموا ألا يتركوا شيئا للصدف، وبالتالي فهم ينظرون بجدية إلى كل الاحتمالات ويدرسون كيفية التعامل مع كل احتمال.
والسؤال الذي يفرض نفسه، ماذا اعددنا نحن للمجهول ولأوقات النكبات والكوارث والهزات المالية، علما بأننا لا نقبع تحت كاهل فواتير الطاقة الضخمة كالآسيويين، ناهيك عن أننا – على الأقل في الخليج – أكثر قدرة على تأسيس صندوق للطواريء شبيه بالصندوق الآسيوي بفضل فوائضنا النفطية الخيالية وتقارب شعوبنا واندماجها واتفاق أنظمتنا في السراء والضراء وإعلاناتها المتكررة حول "الجسد الخليجي الواحد"؟
د. عبدالله المدني
محاضر وباحث أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة: 18 مايو 2008
البريد الالكتروني: elmadani@batelco.com.bh
مرة أخرى، يثبت الآسيويون – على خلاف أمم كثيرة وفي المقدمة منها أممنا - أنهم يتعلمون من دروس الماضي جيدا ويتمعنون فيها ويوظفونها بطريقة تحول دون وقوع الأخطاء مجددا في برامجهم وخططهم القادمة. ومناسبة العودة للحديث عن هذا الموضوع الذي اشبعناه بحثا في مقالات سابقة، هي قرار صائب وذو أهمية بالغة اتخذه وزراء مالية 13 دولة آسيوية (الأعضاء العشرة في رابطة أمم جنوب شرق آسيا المعروفة اختصارا باسم آسيان، إضافة إلى الآسيويين الثلاث الكبار أي الصين واليابان وكوريا الجنوبية) في الرابع من مايو/أيار الجاري، وذلك على هامش مؤتمرهم السنوي الحادي عشر الذي عادة ما تختار له إحدى العواصم أو المدن العالمية. ونقصد بهذا القرار الذي شهدت مولده العاصمة الأسبانية (مدريد)، تأسيس صندوق برأسمال إجمالي مقداره 80 بليون دولار، تساهم به الدول العشر بنسبة 20 بالمئة فيما تدفع الدول الثلاث الأخرى الأقوى اقتصادا والأكثر مواردا نسبة الثمانين بالمئة المتبقية، وذلك من اجل مواجهة أية أزمة مالية يتعرض لها إقليم شرق آسيا على غرار ما حدث في عامي 1997/1998 حينما أدت مضاربات نقدية على العملات الآسيوية الرئيسية إلى انهيارات مالية متتالية في أسواق النقد والأسهم والسندات وإفلاس المصارف وكبريات الشركات و مؤسسات الأعمال الآسيوية.
والحقيقة، أني لم أجد وصفا لهذا الصندوق أفضل من الوصف الذي قال به الخبير النقدي الياباني المعروف "هيروشي واتانابي" في مقابلة له مع مجلة سنغافورية في ابريل/نيسان الماضي، حيث وصفه بصندوق إسعاف إقليمي الغرض منه تخفيف الألم ووقف النزيف مؤقتا والحيلولة دون تلوث الجرح أو اتساعه إلى حين وصول صندوق الإسعاف الدولي، أو إذا أمكن للحيلولة دون طلب مساعدات أجنبية.
وكانت فكرة هذا الصندوق قد نوقشت للمرة الأولى في أعقاب أزمة 1997/1998 النقدية ، وذلك من خلال ما عرف بمبادرة " تشانغماي" – نسبة إلى مدينة تشانغماي التايلندية الشمالية الجبلية- حيث تداعى وزراء مالية دول شرق آسيا لبحث تطورات أسوأ أزمة مالية في تاريخ آسيا المعاصر. غير أن المناقشات لم تفض في حينه إلا إلى مجموعة من الاتفاقيات الثنائية بين الدول المعنية لحماية أسعار تحويل عملاتها الوطنية وانتقالها. على أن الجهود لم تتوقف مذاك من اجل توسيع قاعدة تلك الاتفاقية لتغدو مشروعا متعدد الأغراض والأطراف وأكثر قوة وصرامة أو لتصبح بمثابة نسخة آسيوية من صندوق النقد الدولي ، وموجهة بالدرجة الأولى نحو إنقاذ اقتصاديات شرق آسيا في أوقات الأزمات والمحن المالية.
وفي المؤتمر ما قبل الأخير لبنك التنمية الآسيوي الذي عقد في مدينة كيوتو اليابانية في العام الماضي، توصل وزراء مالية الدول الثلاثة عشرة إلى قرار اعتقد الكثيرون انه بعيد المنال. غير أن صناع القرار الآسيويين، وبدافع المسئولية والحرص و الترفع عن الأنانية، و انطلاقا من التحديات المالية وتبعاتها الاجتماعية التي تواجها دولهم في ظل الارتفاعات المستمرة لأسعار الطاقة وأسعار الطعام والسلع الرئيسية وما يشكله ذلك من موجات تضخم وما يستدعيه ذلك من التسلح بأسلحة وإجراءات ووسائل فعالة لحماية الاقتصاد الوطني والأمن الاجتماعي، والمحافظة على زخم النمو الاقتصادي المهدد بالتراجع، قرروا دون مماطلة أو تسويف أو نقاشات بيزنطية عقيمة وضع جزء من احتياطات دولهم النقدية البالغ اجماليها نحو 3.4 تريليون دولار جانبا ليكون بمثابة رأسمال لصندوق آسيوي جديد يهب في وقت الأزمات لنجدة اقتصاديات شرق آسيا ودعهمها بما يلزم من مساعدات وقروض وائتمانات وسيولة، تاركين لمؤتمر مدريد تحديد رأس المال هذا ونسب توزيعه. وهذا ما تم بالفعل في مدريد وبروح المسئولية أيضا الذي تمثل في اختيار المجتمعين لمبلغ ثمانية بلايين دولار (52 بليون يورو) كرأسمال للصندوق موزعا بنسبة 20:80 ما بين دول آسيان و اقطاب آسيا الكبار الثلاث على التوالي، مع تعهد بتوفير ما لا يقل عن 58 بليون دولار فورا. أما الأمور التفصيلية الخاصة بكيفية استفادة الدول الآسيوية من أموال هذا الصندوق والحالات التي يفترض للصندوق التدخل فيها وكيفية إنفاق تلك الأموال بطريقة سليمة وبعيدة عن الفساد والبيروقراطية، فتركتها للاجتماع السنوي القادم المقرر عقده في عام 2009 في جزيرة بالي الاندونيسية.
ويمكن من خلال إلقاء نظرة على البيان الختامي لوزراء المال الآسيويين في مدريد أن نلاحظ أن شغلهم الشاغل هذه السنة، لئن تركز على إنشاء الصندوق الذي أسلفنا الحديث عنه، فانه انصب أيضا على طائفة واسعة من الأمور التي لها علاقة مباشرة بما يواجهه الاقتصاد العالمي اليوم من تحديات غير مسبوقة تستدعي إجراءات متنوعة طويلة وقصيرة المدى، وذلك من اجل المحافظة على معدلات الزخم والنمو الاقتصادي في المنطقة والتي سجلت هذا العام أدنى مستوياتها خلال نصف عقد فبلغت 7.6 بالمئة، فيما كانت في العام الماضي في أفضل حالاتها بتسجيلها الرقم 8.7 بالمئة. من التحديات التي شغلت الوزراء الآسيويين: الخلل القائم في أسواق الائتمان العقاري والمتأثرة بما حدث في الولايات المتحدة، و التأثيرات السلبية لحالة الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني من تراجع وبطيء في النمو لم يشهده منذ عام 2002، بل يتوقع له المراقبون بنسبة 25 بالمئة أن يمر في حالة تشبه حالته في فترة الكساد العظيم في الثلاثينات. على أن الأخطر من كل هذه التحديات هو الضغوط التضخمية المتأتية من ارتفاع أسعار الطاقة والتي رفعت بدورها قيمة فواتير النفط والغاز المستوردين، فأصابت الموازنات العامة لغالبية الدول الآسيوية بعجوزات، وبالتالي فقدت هذه الدول قدرتها السابقة في دعم الكثير من السلع الاستهلاكية الرئيسية، وعلى رأسها المواد الغذائية، الأمر الذي انعكس بشدة على حالة المواطنين ولا سيما الطبقة الفقيرة.
والموضوع الأخير في الحقيقة استأثر بمناقشات محافظي البنوك المركزية للدول الأعضاء في بنك التنمية الآسيوي الذين عقدوا اجتماعهم السنوي الحادي والأربعين في أوائل مايو/ أيار في العاصمة الأسبانية أيضا. فعلى خلاف اجتماعهم السابق في كيوتو اليابانية في العام الماضي والذي كان التركيز فيه على خطط طويلة المدى لتمويل عملية طموحة لربط أجزاء وأقاليم ومدن القارة الآسيوية بعضها ببعض، كان التركيز هذه المرة على مسألة التعاون ما بين الشركات الخاصة والحكومات في الدول الآسيوية لمعالجة أزمة الغذاء وارتفاع أسعاره، أو ما يمكن اختصاره في عبارة واحدة هي " كيفية التصدي لحالات التضخم المتفاقمة التي تزيد الفقراء فقرا وعوزا وجوعا".
والمعروف أن بنك التنمية الآسيوي منذ تأسيسه في عام 1966 واتخاذه من العاصمة الفلبينية (مانيلا) مقرا له، قد اتخذ من محاربة الفقر وتحسين الأحوال المعيشية لشعوب منطقتي آسيا والباسفيكي حيث كان يعيش بليوني نسمة ممن تقل دخولهم اليومية عن دولارين. وهو رغم بعض الانتقادات التي وجهت له من أطراف خارجية مثل استراليا والأمم المتحدة بأنه غير عادل في توزيع خيراته، أو غير دقيق في اختيار اولوياته، فانه حظي مؤخرا بثناء الدول الآسيوية الثلاث عشرة لقيامه مؤخرا بتخصيص نحو 500 مليون دولار إضافي وبصفة عاجلة من اجل مساعدة الدول الآسيوية الأفقر والأكثر تأثرا بفواتير الطاقة التي ارتفعت أسعارها بنسبة 85 بالمئة خلال عام واحد، ولتعهده أيضا بمضاعفة هذا المبلغ إلى بليوني دولار خلال عام 2009 ، شريطة إنفاق جله على خطط محكمة للارتقاء بالإنتاج الزراعي وتحسين وسائل نقل المحاصيل إلى الأسواق وتوفير الأسمدة بأسعار متهاودة. ويمكن معرفة مدى حراجة الوضع، إذا ما تمعنا التقارير التي تقول أن نحو بليوني نسمة تأثروا بموجة التضخم الراهنة، وان هذه الموجة حصدت نحو 60 بالمئة من إنفاقهم، علما بأن الإنفاق على الطعام والطاقة في آسيا يمتص 75 بالمئة من إجمالي دخل المواطن.
وتعقيبا على تركيز بنك التنمية الآسيوي (يضم 67 دولة، 48 من داخل آسيا، و19 دولة من خارجها، وتحصل على أموالها من قروض وهبات الأعضاء أو المؤسسات الدولية أو إصدار السندات واذونات الخزانة أو احتساب فوائد بسيطة على قروضها) على مسألة ضرورة تضافر جهود الشركات الخاصة مع جهود الحكومات في إيجاد مخارج سريعة لحالات النقص في السلع الغذائية، ولا سيما الأرز الذي يعتبر الغذاء الرئيس للسواد الأعظم من الآسيويين والذي ارتفعت أسعاره خلال عام واحد بنسبة 100 بالمئة، ناهيك عن توجه معدلات التضخم الآسيوية إلى بلوغ واحد من أعلى المعدلات خلال عقد، قال الخبير الاقتصادي الاستراتيجي السنغافوري "جوزيف تان": أن عددا من دول منظومة آسيان تعتبر ضمن الدول الرئيسية المنتجة للأرز وبالتالي، فانه بالامكان عمل شيء من خلال التعاون الإقليمي الجماعي، على نحو ما ، لكن الأمر ليست بتلك البساطة، فلكل قرار آثار جانبية سلبية. فمثلا حينما خفضت فيتنام مؤخرا كمية الأرز الموجه إلى التصدير بهدف زيادة المعروض منه في الداخل وبالتالي تخفيض أسعاره وفق منطوق العرض والطلب، حدث أن شحت كميات الأرز الموجهة إلى الفلبين( احد اكبر مستوردي الحبوب وفول الصويا في العالم)، متسببة في ارتفاع أسعاره هناك إلى مستويات قياسية، وبالتالي انعكاس ذلك بحدة على المواطن الفلبيني الفقير.
لا يعني ما استعرضناه هنا أن الأحوال في القارة الآسيوية قد وصلت إلى منعطف خطير يهدد بكوارث وزلازل مالية واقتصادية، فرغم كل شيء هناك تفاؤل بأن الاقتصاد الإقليمي ماض في طريقه ويحقق معدلات نمو، وان كانت اقل من المخطط، لكن الآسيويين كما قلنا في البداية تعلموا ألا يتركوا شيئا للصدف، وبالتالي فهم ينظرون بجدية إلى كل الاحتمالات ويدرسون كيفية التعامل مع كل احتمال.
والسؤال الذي يفرض نفسه، ماذا اعددنا نحن للمجهول ولأوقات النكبات والكوارث والهزات المالية، علما بأننا لا نقبع تحت كاهل فواتير الطاقة الضخمة كالآسيويين، ناهيك عن أننا – على الأقل في الخليج – أكثر قدرة على تأسيس صندوق للطواريء شبيه بالصندوق الآسيوي بفضل فوائضنا النفطية الخيالية وتقارب شعوبنا واندماجها واتفاق أنظمتنا في السراء والضراء وإعلاناتها المتكررة حول "الجسد الخليجي الواحد"؟
د. عبدالله المدني
محاضر وباحث أكاديمي في الشئون الآسيوية من البحرين
تاريخ المادة: 18 مايو 2008
البريد الالكتروني: elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق