نقولا ناصر
(الاسوار العربية تزداد ارتفاعا وتمتد طولا لتحول الوطن العربي الكبير الى اكبر نظام للكانتونات السياسية في العالم ، كانتونات يتم في العراق وفلسطين تفتيتها الى اجزاء اصغر خصوصا في "مدينتي السلام" المحتلتين ، القدس وبغداد)
لا يوجد حد علمي سوى مدينتين اطلق العرب عليهما اسم "مدينة السلام" ، وهما القدس وبغداد ، وكلتاهما الان تحت الاحتلال وعنوان ل"سلام" يسعى المحتلون الى نشره اقليميا فوق انقاضهما ، ولا يقف في وجههم سوى المستهدف الاول بالغزو والاحتلال وهو تحديدا الهوية العربية الاسلامية للمنطقة ، لذلك لا عجب ان تكون هذه الهوية هي عنوان المقاومة ، ولا يهم هنا ان كان عنوان هذه الهوية قوميا او اسلاميا ، بعثيا او ناصريا ، سنيا او شيعيا ، علمانيا او دينيا ، ليبراليا او وطنيا او حتى قبليا وطائفيا ، فالجميع مستهدفون طالما هذه هويتهم ، التي يحاصرها المحتلون باسوار وجدران عسكرية واقتصادية وسياسية ودبلوماسية وامنية مسنودة بغزو ثقافي للعقول هدفه تدمير هذه الهوية وتنشيط وتفعيل كل ما هو نقيض لها .
والمؤسف ان الدولة القطرية العربية بانظمتها كافة تكيف اوضاعها بحيث تتساوق مع المحتلين ، توهما بان هذا التساوق قد ينقذها وينقذ النخب الحاكمة فيها من طوفان الاحتلال الاجنبي الجارف حد ان تدفن هذه النخب رؤوسها في الرمال فتتغاضى ضعفا او كرها او تواطؤا واعيا عن سقوط بعض نظرائها تحت الاحتلال او تتغاضى عن حصار بعضهم الاخر حتى يسقط ضحية له ، بالرغم من ان التجربة التاريخية للاحتلال الاجنبي ، وبخاصة الاميركي والاسرائيلي ، تثبت ان المحتلين يستهدفون كل الانظمة العربية بالتغيير ولا يترددون لحظة واحدة في التخلص من أي منها بالغزو او الانقلاب او التامر الداخلي حتى ترضخ جميعها لارادتهم واملاءاتهم .
ولم تكتف الدولة القطرية بالحزام العسكري الذي يطوق كل انظمتها وسواحلها بالاسطولين الاميركيين السادس والخامس وبحلف شمال الاطلسي "الناتو" الذي يتمدد جنوبا ليستوعب العديد منها ضمن تفويضه ، ولا بحدود التجزئة التي تفصلها عن بعضها فلا تسمح الا بالنزر اليسير من التواصل باي شكل كان بين ابناء الامة الواحدة في كل منها ، ولا بالاسوار الامنية التي تقيمها لتحول قواتها لمكافحة الشغب وشرطتها ومخابراتها بينها وبين شعوبها ، ولا بالاسوار الاقتصادية التي تباعد بينها وبينهم بالفجوة المتسعة بين غنى نخبها الفاحش وبين فقر شعوبها المتزايد ، بل انها لجات مؤخرا الى الجدران الاسمنتية والالكترونية للانكفاء على نفسها وحماية التجزئة السياسية للامة التي كما يبدو لم تعد كل الاسوار السابقة كافية لحمايتها .
ولفت ذلك نظر المحرر الدبلوماسي لصحيفة الغارديان البريطانية الذي كتب في الرابع والعشرين من الشهر الماضي: "لقد بدا العصر الجديد للاسوار" ، فقد عادت الاسوار الواقية من المتاريس والاستحكامات والتحصينات الحجرية بقوة ، "بعد ان كانت تعتبر الى ما قبل مدة وجيزة اثارا وطنية لاجتذاب السياح" ، في "الحرب العالمية على الارهاب" ، هذه الحرب التي تتخذ في الوطن العربي شكل حرب يشنها الجيش الاميركي الاقوى في التاريخ ليس ضد جيوش نظامية بل ضد شعوب بكاملها بعد ان دمر دولها الوطنية وجيوشها كما يفعل في العراق حاليا او كما يفعل بالوكالة الاسرائيلية في فلسطين او بالوكالة الاثيوبية في الصومال ، لكي يخلص محرر الغارديان الدبلوماسي الى الاستنتاج بان "تجارة حل النزاعات في انحطاط وتحل محلها الان صناعة الاسمنت" ... وربما يكون ذلك احد الاسباب الرئيسية في ارتفاع اسعار هذه المادة الحيوية للتنمية !
وكل ذلك يحدث في "عصر العولمة" التي انطلقت جارفة بعد انهيار سور برلين والاتحاد السوفياتي السابق اواخر تسعينيات القرن العشرين الماضي ليتوقف طوفانها الكاسح امام الاسوار العربية التي يزداد ارتفاعها ويمتد طولها ليحول الوطن العربي الكبير الى اكبر نظام للكانتونات السياسية في العالم ، كانتونات يتم في العراق وفلسطين تفتيتها الى اجزاء اصغر خصوصا في "مدينتي السلام" المحتلتين ، القدس وبغداد .
غير ان السور العربي الاكبر هو جدار الصمت والسرية الرسمية الذي يلف كل ما يتعلق بجدران هذا السجن العربي الكبير الذي يحاصر العرب جماعة وافرادا والذي يتم التعتيم عليه بعناوين "وطنية" ، مثل "الامن الوطني" ، تحث على الولاء القطري وتقيم "اسوارا قانونية" تحظر أي تواصل تنظيمي عابر لحدود التجزئة بين ابناء الامة الواحدة حد ان تتحول اجهزة الاعلام الرسمية للدولة القطرية الى ابواق للسخرية من الارث السياسي النضالي للقومية العربية والعروبة بعد ان خسرت ، او ربما تفضل هذه الاجهزة مفردة "هزمت" ، امام الغزو الصهوني التوسعي والغزو الاميركي المحتل .
واحدث الاسوار العربية التي يجري بناؤها سور اسمنتي – الكتروني عسكري يبنيه سلاح المهندسين الاميركي بتمويل جزئي من واشنطن على الحدود بين مصر وبين قطاع غزة لمنع تكرار الاجتياح الشعبي الفلسطيني لهذه الحدود قبل اشهر ولهذا السور رمزية "قومية" تؤكد نجاح المشروع الصهيوني الذي انزرع دولة في فلسطين في الفصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه كما يمكن اعتباره ايضا رمزا للتنصل القومي من المسؤولية يقول لعرب فلسطين في القطاع لكم الله واذا اخترتم القتال فاذهبوا انتم وربكم وقاتلوا . وهذا السور العسكري يعزز السور الدبلوماسي المتمثل بمعاهدة السلام مع اسرائيل التي فصلت عمليا بين مصر وبين مسؤوليتها القومية تجاه فلسطين واهلها ، مثلما فعلت المعاهدة الاردنية المماثلة ، لكي تحصر المعاهدتان هذه المسؤولية في المجال السياسي والدبلوماسي والاعلامي المشروط بعدم التعارض مع نصوصهما .
اما السور الحديث الاخر فانه جدار دبلوماسي تبذل الدبلوماسية الاميركية قصارى جهودها لبنائه بين سوريا وبين لبنان وهما القطران العربيان الوحيدان اللذان لا يقيمان علاقات دبلوماسية منذ استقلالهما في اربعينات القرن الماضي ، في وضع مفعم بالرمزية ايضا يحاول ان يتمرد على التجزئة التي فرضها سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي على الوطن العربي ويحاول الان بوش الاميركي استكمالها . وفي هاتين الحالتين لو سئل أي مواطن عربي عن رايه فيهما لكان جوابه قاطعا بالرفض المطلق لبناء السورين العسكري والدبلوماسي لا فرق .
ومن الاسوار العربية الحديثة السياج الذي تبنيه المملكة العربية السعودية بطول (900) كيلومترا على امتداد حدودها مع العراق والمفترض ان يكون بناؤه قد انتهى خلال العام الحالي فيما قررت المملكة مواصلة بناء حاجز امني مع جارها العربي اليمني في الجنوب كانت قد توقفت عن بنائه عام 2004 ، ففي شباط / فبراير العام 2007 الماضي ذكرت "اراب تايمز" ان "السعوديين يواصلون بهدوء مشروعا بقيمة (8.5) مليار دولار لتسييج" كل حدودها مع اليمن البالغ طولها (1100) ميل . كما تقوم الامارات العربية المتحدة ببناء سور على حدودها مع سلطنة عمان بينما تقوم الكويت بتحديث سورها البالغ طوله (215) كيلومترا على امتداد حدودها مع العراق ، فيما استكملت مصر تسوير منتجعها "شرم الشيخ" على البحر الاحمر واضطرت سوريا الى بناء ساتر ترابي تقليدي بينها وبين العراق لرد الاتهامات الاميركية لها بتسهيل مرور "الارهابيين" عبرها الى العراق .
وفي مغرب الوطن العربي قال احد المعلقين ان النسخة المعاصرة لسور الصين العظيم هي الحاجز الترابي والحجري الضخم المجهز بالمعدات الاكترونية والرادار والمعزز بحقول الالغام والمسنود بالاسلاك الشائكة والخنادق العسكرية ومرابض المدفعية الذي بناه المغرب على امتداد (2700) كيلومتر للفصل بينه وبين بضعة الاف من جبهة البوليساريو في الصحراء الغربية ، ليتحول هذا السور الى اسفين بين المغرب والجزائر والى فاصل بين دول المغرب العربي وبين تحويل "اليافطة" المرفوعة للاتحاد المغاربي الى واقع حي على الارض .
وحول الحزام الخارجي للوطن العربي الكبير قامت اسبانيا التي تحتل مدينتي سبتة ومليلة المغربيتين قبل عامين بمضاعفة ارتفاع السور الذي يفصلهما عن الوطن الام بطول تسع كيلومترات بحجة منع "المهاجرين غير الشرعيين" من التسلل عبرهما اليها ومنها الى اوروبا ، التي اطلقت حرية الحركة للناس والسلع بين دولها لكنها تدعم بقوة الجهود الاميركية لبناء السور الدبلوماسي الحدودي بين سوريا وبين لبنان ، لذلك قام الاتحاد الاوروبي بتمويل السوري الاسباني في الاراضي المغربية المحتلة كجزء من السور الاكبر الامني والقانوني والسياسي الذي يبنيه للفصل بين اوروبا المتخمة وبين افريقيا الجائعة . وفي المشرق العربي قامت تركيا ، التي تتوسط الان لهدم الاسوار بين سوريا وبين اسرائيل ، ببناء سياج مرتفع وحقول الغام على مساحة تزيد على (500) ميل بينها وبين سوريا على امتداد الاسكندرون ، التي اقطعها الفرنسيون للاتراك في الوقت نفسه تقريبا الذي اقطع البريطانيون الاحواز الى ايران وفلسطين الى الحركة الصهيونية ، بينما بدات ايران ببناء سورها الخاص على امتداد حدودها مع العراق .
وكانت صحيفة يديعوت احرونوت الاسرائيلية قد ذكرت في تشرين الثاني / نوفمبر عام 2006 ان دولة الاحتلال الاسرائيلي تخطط لبناء سياج كهربائي على امتداد حدودها مع مصر بدءا من ام الرشراش (ايلات) على البحر الاحمر . واذا كان الجدار ، الذي اسمته منظمة التحرير الفلسطينية "جدار الضم والتوسع" ويسميه "معسكر السلام" الفلسطيني "الجدار العنصري" ، والذي ما زال الاحتلال الاسرائيلي يبنيه على امتداد (700) كيلومتر في الضفة الغربية غني عن البيان بالنسبة للراي العام العربي ، خصوصا بعد الحكم بعدم قانونيته الذي اصدرته محكمة العدل الدولية بلاهاي في التاسع من تموز / يوليو 2004 ، فان الاسوار التي يبنيها الاحتلال الاميركي في العراق ما زالت بحاجة الى المزيد من التغطية الاعلامية لتسليط الاضواء عليها ، لكن احد القواسم المشتركة في الحالتين ان الاحتلالين يسوغان بناء هذه الاسوار والجدران بحجة "الامن" غير ان باني الجدار الفلسطيني يعلن صراحة ان امنه هو المقصود بينما يقول الاحتلال الاميركي ان المقصود من بناء الاسوار ، بخاصة في "دار السلام" العراقية ، هو امن الطوائف وحماية احداها من الاخرى !
في الحادي والعشرين من الشهر الماضي كتب البروفيسور ستيف نيفا في "فورين افيرز ان فوكس" يقول ان العقيدة العسكرية للجيش الاميركي وتكتيكاته في العراق قد "تاسرلت" منذ اوائل تسعينات القرن الماضي اثر ورطتها في الصومال عندما بدات في تبني الخبرة الاسرائيلية في حرب المدن وبدا الخبراء الاسرائيليون في تدريب المارينز عليها واقتبس من مقال لمايك ديفيس عام 2004 قول الاخير ان الجيش الاميركي تبنى تكتيكات ارييل شارون في استخدام الحرب "التكنولوجية" لاحتواء ثوار المدن في العالم الثالث .
واضاف نيفا ان القصة الحقيقية لما يحدث "على الارض في العراق من بغداد الى الموصل هي ان القوات الاميركية منشغلة في بناء عشرات الجدران والحواجز الاسمنتية بين وحول الاحياء العراقية" التي تتواصل فيما بينها عبر "بوابات" ، وانه يوجد في بغداد وحدها ما لا يقل عن احدى عشر "جيبا سنيا وشيعيا" من هذا النوع ، وكان حي الاعظمية اول هذه الجيوب وما يزال اشهرها ، بالاضافة الى ابراج المراقبة والدوريات الالية الطيارة على الارض ودوريات المروحيات في الجو والحواجز العسكرية ونقاط التفتيش التي تدقق في هويات العابرين منها ، ليخلص الكاتب الى ان "هذه الجدران قد حولت بغداد الى عشرات النسخ من المنطقة الخضراء ، لتفصل بين الجار وجاره وتخنق التجارة والاتصالات العادية" بين الناس ، "وقد اقيمت جدران مماثلة في مدن عراقية اخرى بينما ما زالت مدينة الفلوجة محاطة بالاسلاك الشائكة ولا يوجد الا مدخل واحد اليها" ، بينما "تتمتع" دار السلام البغدادية ب"رفاهية" وجود اكثر من بوابة مماثلة للدخول اليها والخروج منها . وقد بدات قوات الاحتلال الاميركي مؤخرا في بناء جدار فاصل طوله ثلاثة اميال بين شمال وجنوب مدينة الثورة في العاصمة العراقية التي تطلق المليشيا الطائفية المسيطرة عليها اسم "مدينة الصدر" . فكم هو الفرق حقا بين حال بغداد وبين حال القدس ؟
والمفارقة المثيرة للسخرية حقا ان قوى الاحتلال الاميركي والاسرائيلي ، وقوى "العولمة" ، التي ترفع في غزوها الفكري والاقتصادي الممهد لغزوها العسكري شعار "حرية حركة" البشر والسلع في راس شعارات حقوق الانسان التي تسوقها في المنطقة وتسلط كل الاضواء عليها للتغطية على حرية الاوطان وسيادتها المحتلة والمحاصرة والمستباحة هي نفسها التي تحاصر العرب جماعة واوطانا وافرادا بمزيد من الاسوار تحاول ان تجعل منها ليس جدرانا تمنع حركة الاجسام فقط بل ايضا سدودا لا تنفذ منها اصوات الاحتجاج الصارخة على هذا الوضع الذي يتناقض مع شعاراتها ومع العولمة التي تبشر بتحول العالم الى "قرية صغيرة" ، ثم تحول الاسوار التي تقيمها الدولة القطرية الى تجارة رابحة لنهب المزيد من ثروات شعوب المنطقة ، ولبيع الاجهزة الالكترونية والمجسات المدفونة تحت الارض واجهزة الرؤية الليلية وغيرها من "التقنيات الامنية" والاف الاميال من الاسلاك الشائكة لتعزيز مناعة الاسوار الاسمنتية العربية .
لكن الفصل والانفصال يكمنان في صلب استراتيجية بناة الاسوار والجدران عربا كانوا ام اسرائليين ام اميركيين . وربما لا يعرف الكثيرون ان فكرة الجدار الذي تبنيه دولة الاحتلال الاسرائيلي لترسيم حدودها ، وليس للامن كما تتذرع ، كانت فكرة رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق اسحق رابين ، الذي طالما وصفه كثير من الزعماء العرب وبخاصة الفلسطينيين منهم ب "شريك السلام" ، وليس خلفه اللاحق ارييل شارون الذي يعود الفضل له في وضع الفكرة موضع التنفيذ ، فقد نقلت مجلة فورين افيرز الاميركية عن رابين اعلانه في سنة 1994: "علينا ان نقرر الانفصال كفلسفة" .
عندما اجتاحت جماهير عرب غزة معبر رفح الى مصر في شهر كانون الثاني / يناير الماضي كتب مراسل السي ان ان الاميركية يقول: "ان الرغبة في الوحدة وحرية الحركة في العالم العربي تظل عميقة راسخة وكل ما يحتاجه المرء لكي يفهم السبب في ذلك هو ان يعبر حدودا في هذه المنطقة" ، ليضيف ان اجتياح الحدود المصرية الفلسطينية "كان سابقة ، اذ لبضعة ايام في الاقل ، اختفت الحدود بين مصر وبين غزة وبدا ما حل محلها طبيعيا للشعب على جانبيها" .
(الاسوار العربية تزداد ارتفاعا وتمتد طولا لتحول الوطن العربي الكبير الى اكبر نظام للكانتونات السياسية في العالم ، كانتونات يتم في العراق وفلسطين تفتيتها الى اجزاء اصغر خصوصا في "مدينتي السلام" المحتلتين ، القدس وبغداد)
لا يوجد حد علمي سوى مدينتين اطلق العرب عليهما اسم "مدينة السلام" ، وهما القدس وبغداد ، وكلتاهما الان تحت الاحتلال وعنوان ل"سلام" يسعى المحتلون الى نشره اقليميا فوق انقاضهما ، ولا يقف في وجههم سوى المستهدف الاول بالغزو والاحتلال وهو تحديدا الهوية العربية الاسلامية للمنطقة ، لذلك لا عجب ان تكون هذه الهوية هي عنوان المقاومة ، ولا يهم هنا ان كان عنوان هذه الهوية قوميا او اسلاميا ، بعثيا او ناصريا ، سنيا او شيعيا ، علمانيا او دينيا ، ليبراليا او وطنيا او حتى قبليا وطائفيا ، فالجميع مستهدفون طالما هذه هويتهم ، التي يحاصرها المحتلون باسوار وجدران عسكرية واقتصادية وسياسية ودبلوماسية وامنية مسنودة بغزو ثقافي للعقول هدفه تدمير هذه الهوية وتنشيط وتفعيل كل ما هو نقيض لها .
والمؤسف ان الدولة القطرية العربية بانظمتها كافة تكيف اوضاعها بحيث تتساوق مع المحتلين ، توهما بان هذا التساوق قد ينقذها وينقذ النخب الحاكمة فيها من طوفان الاحتلال الاجنبي الجارف حد ان تدفن هذه النخب رؤوسها في الرمال فتتغاضى ضعفا او كرها او تواطؤا واعيا عن سقوط بعض نظرائها تحت الاحتلال او تتغاضى عن حصار بعضهم الاخر حتى يسقط ضحية له ، بالرغم من ان التجربة التاريخية للاحتلال الاجنبي ، وبخاصة الاميركي والاسرائيلي ، تثبت ان المحتلين يستهدفون كل الانظمة العربية بالتغيير ولا يترددون لحظة واحدة في التخلص من أي منها بالغزو او الانقلاب او التامر الداخلي حتى ترضخ جميعها لارادتهم واملاءاتهم .
ولم تكتف الدولة القطرية بالحزام العسكري الذي يطوق كل انظمتها وسواحلها بالاسطولين الاميركيين السادس والخامس وبحلف شمال الاطلسي "الناتو" الذي يتمدد جنوبا ليستوعب العديد منها ضمن تفويضه ، ولا بحدود التجزئة التي تفصلها عن بعضها فلا تسمح الا بالنزر اليسير من التواصل باي شكل كان بين ابناء الامة الواحدة في كل منها ، ولا بالاسوار الامنية التي تقيمها لتحول قواتها لمكافحة الشغب وشرطتها ومخابراتها بينها وبين شعوبها ، ولا بالاسوار الاقتصادية التي تباعد بينها وبينهم بالفجوة المتسعة بين غنى نخبها الفاحش وبين فقر شعوبها المتزايد ، بل انها لجات مؤخرا الى الجدران الاسمنتية والالكترونية للانكفاء على نفسها وحماية التجزئة السياسية للامة التي كما يبدو لم تعد كل الاسوار السابقة كافية لحمايتها .
ولفت ذلك نظر المحرر الدبلوماسي لصحيفة الغارديان البريطانية الذي كتب في الرابع والعشرين من الشهر الماضي: "لقد بدا العصر الجديد للاسوار" ، فقد عادت الاسوار الواقية من المتاريس والاستحكامات والتحصينات الحجرية بقوة ، "بعد ان كانت تعتبر الى ما قبل مدة وجيزة اثارا وطنية لاجتذاب السياح" ، في "الحرب العالمية على الارهاب" ، هذه الحرب التي تتخذ في الوطن العربي شكل حرب يشنها الجيش الاميركي الاقوى في التاريخ ليس ضد جيوش نظامية بل ضد شعوب بكاملها بعد ان دمر دولها الوطنية وجيوشها كما يفعل في العراق حاليا او كما يفعل بالوكالة الاسرائيلية في فلسطين او بالوكالة الاثيوبية في الصومال ، لكي يخلص محرر الغارديان الدبلوماسي الى الاستنتاج بان "تجارة حل النزاعات في انحطاط وتحل محلها الان صناعة الاسمنت" ... وربما يكون ذلك احد الاسباب الرئيسية في ارتفاع اسعار هذه المادة الحيوية للتنمية !
وكل ذلك يحدث في "عصر العولمة" التي انطلقت جارفة بعد انهيار سور برلين والاتحاد السوفياتي السابق اواخر تسعينيات القرن العشرين الماضي ليتوقف طوفانها الكاسح امام الاسوار العربية التي يزداد ارتفاعها ويمتد طولها ليحول الوطن العربي الكبير الى اكبر نظام للكانتونات السياسية في العالم ، كانتونات يتم في العراق وفلسطين تفتيتها الى اجزاء اصغر خصوصا في "مدينتي السلام" المحتلتين ، القدس وبغداد .
غير ان السور العربي الاكبر هو جدار الصمت والسرية الرسمية الذي يلف كل ما يتعلق بجدران هذا السجن العربي الكبير الذي يحاصر العرب جماعة وافرادا والذي يتم التعتيم عليه بعناوين "وطنية" ، مثل "الامن الوطني" ، تحث على الولاء القطري وتقيم "اسوارا قانونية" تحظر أي تواصل تنظيمي عابر لحدود التجزئة بين ابناء الامة الواحدة حد ان تتحول اجهزة الاعلام الرسمية للدولة القطرية الى ابواق للسخرية من الارث السياسي النضالي للقومية العربية والعروبة بعد ان خسرت ، او ربما تفضل هذه الاجهزة مفردة "هزمت" ، امام الغزو الصهوني التوسعي والغزو الاميركي المحتل .
واحدث الاسوار العربية التي يجري بناؤها سور اسمنتي – الكتروني عسكري يبنيه سلاح المهندسين الاميركي بتمويل جزئي من واشنطن على الحدود بين مصر وبين قطاع غزة لمنع تكرار الاجتياح الشعبي الفلسطيني لهذه الحدود قبل اشهر ولهذا السور رمزية "قومية" تؤكد نجاح المشروع الصهيوني الذي انزرع دولة في فلسطين في الفصل بين مشرق الوطن العربي ومغربه كما يمكن اعتباره ايضا رمزا للتنصل القومي من المسؤولية يقول لعرب فلسطين في القطاع لكم الله واذا اخترتم القتال فاذهبوا انتم وربكم وقاتلوا . وهذا السور العسكري يعزز السور الدبلوماسي المتمثل بمعاهدة السلام مع اسرائيل التي فصلت عمليا بين مصر وبين مسؤوليتها القومية تجاه فلسطين واهلها ، مثلما فعلت المعاهدة الاردنية المماثلة ، لكي تحصر المعاهدتان هذه المسؤولية في المجال السياسي والدبلوماسي والاعلامي المشروط بعدم التعارض مع نصوصهما .
اما السور الحديث الاخر فانه جدار دبلوماسي تبذل الدبلوماسية الاميركية قصارى جهودها لبنائه بين سوريا وبين لبنان وهما القطران العربيان الوحيدان اللذان لا يقيمان علاقات دبلوماسية منذ استقلالهما في اربعينات القرن الماضي ، في وضع مفعم بالرمزية ايضا يحاول ان يتمرد على التجزئة التي فرضها سايكس البريطاني وبيكو الفرنسي على الوطن العربي ويحاول الان بوش الاميركي استكمالها . وفي هاتين الحالتين لو سئل أي مواطن عربي عن رايه فيهما لكان جوابه قاطعا بالرفض المطلق لبناء السورين العسكري والدبلوماسي لا فرق .
ومن الاسوار العربية الحديثة السياج الذي تبنيه المملكة العربية السعودية بطول (900) كيلومترا على امتداد حدودها مع العراق والمفترض ان يكون بناؤه قد انتهى خلال العام الحالي فيما قررت المملكة مواصلة بناء حاجز امني مع جارها العربي اليمني في الجنوب كانت قد توقفت عن بنائه عام 2004 ، ففي شباط / فبراير العام 2007 الماضي ذكرت "اراب تايمز" ان "السعوديين يواصلون بهدوء مشروعا بقيمة (8.5) مليار دولار لتسييج" كل حدودها مع اليمن البالغ طولها (1100) ميل . كما تقوم الامارات العربية المتحدة ببناء سور على حدودها مع سلطنة عمان بينما تقوم الكويت بتحديث سورها البالغ طوله (215) كيلومترا على امتداد حدودها مع العراق ، فيما استكملت مصر تسوير منتجعها "شرم الشيخ" على البحر الاحمر واضطرت سوريا الى بناء ساتر ترابي تقليدي بينها وبين العراق لرد الاتهامات الاميركية لها بتسهيل مرور "الارهابيين" عبرها الى العراق .
وفي مغرب الوطن العربي قال احد المعلقين ان النسخة المعاصرة لسور الصين العظيم هي الحاجز الترابي والحجري الضخم المجهز بالمعدات الاكترونية والرادار والمعزز بحقول الالغام والمسنود بالاسلاك الشائكة والخنادق العسكرية ومرابض المدفعية الذي بناه المغرب على امتداد (2700) كيلومتر للفصل بينه وبين بضعة الاف من جبهة البوليساريو في الصحراء الغربية ، ليتحول هذا السور الى اسفين بين المغرب والجزائر والى فاصل بين دول المغرب العربي وبين تحويل "اليافطة" المرفوعة للاتحاد المغاربي الى واقع حي على الارض .
وحول الحزام الخارجي للوطن العربي الكبير قامت اسبانيا التي تحتل مدينتي سبتة ومليلة المغربيتين قبل عامين بمضاعفة ارتفاع السور الذي يفصلهما عن الوطن الام بطول تسع كيلومترات بحجة منع "المهاجرين غير الشرعيين" من التسلل عبرهما اليها ومنها الى اوروبا ، التي اطلقت حرية الحركة للناس والسلع بين دولها لكنها تدعم بقوة الجهود الاميركية لبناء السور الدبلوماسي الحدودي بين سوريا وبين لبنان ، لذلك قام الاتحاد الاوروبي بتمويل السوري الاسباني في الاراضي المغربية المحتلة كجزء من السور الاكبر الامني والقانوني والسياسي الذي يبنيه للفصل بين اوروبا المتخمة وبين افريقيا الجائعة . وفي المشرق العربي قامت تركيا ، التي تتوسط الان لهدم الاسوار بين سوريا وبين اسرائيل ، ببناء سياج مرتفع وحقول الغام على مساحة تزيد على (500) ميل بينها وبين سوريا على امتداد الاسكندرون ، التي اقطعها الفرنسيون للاتراك في الوقت نفسه تقريبا الذي اقطع البريطانيون الاحواز الى ايران وفلسطين الى الحركة الصهيونية ، بينما بدات ايران ببناء سورها الخاص على امتداد حدودها مع العراق .
وكانت صحيفة يديعوت احرونوت الاسرائيلية قد ذكرت في تشرين الثاني / نوفمبر عام 2006 ان دولة الاحتلال الاسرائيلي تخطط لبناء سياج كهربائي على امتداد حدودها مع مصر بدءا من ام الرشراش (ايلات) على البحر الاحمر . واذا كان الجدار ، الذي اسمته منظمة التحرير الفلسطينية "جدار الضم والتوسع" ويسميه "معسكر السلام" الفلسطيني "الجدار العنصري" ، والذي ما زال الاحتلال الاسرائيلي يبنيه على امتداد (700) كيلومتر في الضفة الغربية غني عن البيان بالنسبة للراي العام العربي ، خصوصا بعد الحكم بعدم قانونيته الذي اصدرته محكمة العدل الدولية بلاهاي في التاسع من تموز / يوليو 2004 ، فان الاسوار التي يبنيها الاحتلال الاميركي في العراق ما زالت بحاجة الى المزيد من التغطية الاعلامية لتسليط الاضواء عليها ، لكن احد القواسم المشتركة في الحالتين ان الاحتلالين يسوغان بناء هذه الاسوار والجدران بحجة "الامن" غير ان باني الجدار الفلسطيني يعلن صراحة ان امنه هو المقصود بينما يقول الاحتلال الاميركي ان المقصود من بناء الاسوار ، بخاصة في "دار السلام" العراقية ، هو امن الطوائف وحماية احداها من الاخرى !
في الحادي والعشرين من الشهر الماضي كتب البروفيسور ستيف نيفا في "فورين افيرز ان فوكس" يقول ان العقيدة العسكرية للجيش الاميركي وتكتيكاته في العراق قد "تاسرلت" منذ اوائل تسعينات القرن الماضي اثر ورطتها في الصومال عندما بدات في تبني الخبرة الاسرائيلية في حرب المدن وبدا الخبراء الاسرائيليون في تدريب المارينز عليها واقتبس من مقال لمايك ديفيس عام 2004 قول الاخير ان الجيش الاميركي تبنى تكتيكات ارييل شارون في استخدام الحرب "التكنولوجية" لاحتواء ثوار المدن في العالم الثالث .
واضاف نيفا ان القصة الحقيقية لما يحدث "على الارض في العراق من بغداد الى الموصل هي ان القوات الاميركية منشغلة في بناء عشرات الجدران والحواجز الاسمنتية بين وحول الاحياء العراقية" التي تتواصل فيما بينها عبر "بوابات" ، وانه يوجد في بغداد وحدها ما لا يقل عن احدى عشر "جيبا سنيا وشيعيا" من هذا النوع ، وكان حي الاعظمية اول هذه الجيوب وما يزال اشهرها ، بالاضافة الى ابراج المراقبة والدوريات الالية الطيارة على الارض ودوريات المروحيات في الجو والحواجز العسكرية ونقاط التفتيش التي تدقق في هويات العابرين منها ، ليخلص الكاتب الى ان "هذه الجدران قد حولت بغداد الى عشرات النسخ من المنطقة الخضراء ، لتفصل بين الجار وجاره وتخنق التجارة والاتصالات العادية" بين الناس ، "وقد اقيمت جدران مماثلة في مدن عراقية اخرى بينما ما زالت مدينة الفلوجة محاطة بالاسلاك الشائكة ولا يوجد الا مدخل واحد اليها" ، بينما "تتمتع" دار السلام البغدادية ب"رفاهية" وجود اكثر من بوابة مماثلة للدخول اليها والخروج منها . وقد بدات قوات الاحتلال الاميركي مؤخرا في بناء جدار فاصل طوله ثلاثة اميال بين شمال وجنوب مدينة الثورة في العاصمة العراقية التي تطلق المليشيا الطائفية المسيطرة عليها اسم "مدينة الصدر" . فكم هو الفرق حقا بين حال بغداد وبين حال القدس ؟
والمفارقة المثيرة للسخرية حقا ان قوى الاحتلال الاميركي والاسرائيلي ، وقوى "العولمة" ، التي ترفع في غزوها الفكري والاقتصادي الممهد لغزوها العسكري شعار "حرية حركة" البشر والسلع في راس شعارات حقوق الانسان التي تسوقها في المنطقة وتسلط كل الاضواء عليها للتغطية على حرية الاوطان وسيادتها المحتلة والمحاصرة والمستباحة هي نفسها التي تحاصر العرب جماعة واوطانا وافرادا بمزيد من الاسوار تحاول ان تجعل منها ليس جدرانا تمنع حركة الاجسام فقط بل ايضا سدودا لا تنفذ منها اصوات الاحتجاج الصارخة على هذا الوضع الذي يتناقض مع شعاراتها ومع العولمة التي تبشر بتحول العالم الى "قرية صغيرة" ، ثم تحول الاسوار التي تقيمها الدولة القطرية الى تجارة رابحة لنهب المزيد من ثروات شعوب المنطقة ، ولبيع الاجهزة الالكترونية والمجسات المدفونة تحت الارض واجهزة الرؤية الليلية وغيرها من "التقنيات الامنية" والاف الاميال من الاسلاك الشائكة لتعزيز مناعة الاسوار الاسمنتية العربية .
لكن الفصل والانفصال يكمنان في صلب استراتيجية بناة الاسوار والجدران عربا كانوا ام اسرائليين ام اميركيين . وربما لا يعرف الكثيرون ان فكرة الجدار الذي تبنيه دولة الاحتلال الاسرائيلي لترسيم حدودها ، وليس للامن كما تتذرع ، كانت فكرة رئيس الوزراء الاسرائيلي الاسبق اسحق رابين ، الذي طالما وصفه كثير من الزعماء العرب وبخاصة الفلسطينيين منهم ب "شريك السلام" ، وليس خلفه اللاحق ارييل شارون الذي يعود الفضل له في وضع الفكرة موضع التنفيذ ، فقد نقلت مجلة فورين افيرز الاميركية عن رابين اعلانه في سنة 1994: "علينا ان نقرر الانفصال كفلسفة" .
عندما اجتاحت جماهير عرب غزة معبر رفح الى مصر في شهر كانون الثاني / يناير الماضي كتب مراسل السي ان ان الاميركية يقول: "ان الرغبة في الوحدة وحرية الحركة في العالم العربي تظل عميقة راسخة وكل ما يحتاجه المرء لكي يفهم السبب في ذلك هو ان يعبر حدودا في هذه المنطقة" ، ليضيف ان اجتياح الحدود المصرية الفلسطينية "كان سابقة ، اذ لبضعة ايام في الاقل ، اختفت الحدود بين مصر وبين غزة وبدا ما حل محلها طبيعيا للشعب على جانبيها" .
وقد كان مراسل السي ان ان على حق ، فهذا هو الوضع "الطبيعي" الذي كان الى ما قبل اقل من قرن من الزمن ، والذي ينبغي ان يكون وسوف يكون ان طال الزمن ام قصر ، لان الاسوار والجدران التي تقام الان باسم الحفاظ على السلام والامن والتي تحاول تحويل الحدود بين دول التجزئة العربية الى سدود دائمة هي وضع شاذ وطارئ يسير عكس تاريخ المنطقة التي توحدها الهوية العربية الاسلامية وضد حركة التاريخ المعاصرة . واذا كان الوضع الراهن السائد هو حالة سلم فاي شيء ابقى لحالة الحرب ؟!
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق