الثلاثاء، مايو 13، 2008

دعوة لمعايشة واقع النكبة على مسرح غزة

ممتاز الشريف
هنا غزة .. و ها هنا نعيد ترميم و تدوير كل الأشياء , و إعادة صياغتها و بعثها من جديد ..؛ بدءا من فردة الحذاء – أعزكم الله - , و حتى الأطباق الطائرة.. و لا عجب .., فمن يستطيع التحكم في البعد الثالث تمكن من تجسيد الأشياء , و من استطاع التحكم في البعد الرابع استطاع التحكم في عامل الوقت و استطاع أن يعيد دورة الزمن و بالتالي أن يعيش في الفترة الزمنية التي تحلو له !
هذا بالطبع ليس اجتزءا أو تحويرا و تدويرا في نظرية ( آينشـتاين ) وإنما هي آخر النظريات التي تمكنا نحن أهل غزة , أو بالأحرى بعضا من ( خاصة) أهل غزة من اجتراعها بعد تفتق الذهن الغزي و انكشاف الغطاء و زوال الحجاب بمشيئة الله و فضله جزاءا لعباده المتقيـن العامليـن الصابريـن الساعيـن لتطبيق شرعه بعد أن أخذ الإيمان بهم كل مأخذ و تمكن من قلوبهم فإذا بالشفافية تأخذ بهم لسبر غور المجهول و اطلاعهم على ما هو خاف على سواهم ..
قد يندهش البعض من هكذا قول , و قد لا يصدق البعض ظانّا أن هذا القول مجرد ترهات أو شطحات أو ربما بعضا من حالات التجلي التي يعيشها أحد أبناء غزة بفعل الأثر الوجداني و الإيماني المحيط الذي بات يعم القطاع و يهيمن على سكانه !!, لكن القضية غير ذلك تماما .. , فهي حقيقة يستطيع كل من ينكرها أو يشكك فيها أن يشرفنا بزيارته الكريمة المرحب بها في كل وقت للتأكد من صدق ما نقول و رؤية الأشياء بأم عينه لا عين سواه ! , و من خشي إغلاق الحدود و المعابر و انعدام التأشيرات و تصاريح الدخول و الخروج فلا داعي لليأس و ما عليه سوى أن يحزم أمره و أن يتوجه إلى أرض الكنانة الشقيقة على الطرف الآخر من حدود غزة ليختار النفق الذي سيسلكه للدخول ( و هي للعلم أكثر من أن تحصى ) , ناصحين له بعدم ضرورة الإكثار من الحقائب حيث كل شيء متوفر هنا , وما لم يتوفر سيجد له من البدائل ما يكفي !
الآن و بعد أن قبلت دعوتنا مشكورا – وهذا من باب حسن النية المقرونة بسوء التقدير – و بعد أن اجتزت الحدود رغما من كل العوائق أخي الضيف القادم .. بداية حمدا لله على سلامتك و سلامة النفق من الانهيار الذي كان يمكن أن يتم خلال عبورك له فتقضي حيث لا أحد يستطيع التكهن بمكان وجودك و يأخذ التراب على عاتقه و في ثوان إكمال ما كان يمكن أن نقوم به أو أن يقوم به ذويك دون أجر أو منة .., ثم هل ( صحصحت ) من آثار حبة المهدئ التي زودوك بها مع كأس الماء عندما بدأت قدماك تخوناك على اثر مشاهدتك لبوابة النفق التي لا يشبهها سوى بوابات الغيب المجهول و المجبول بكل الأفكار السوداء ؟!!.. , اذا" .. فلنبدأ جولتنا ..
- بالمناسبة .. و ما دمنا نعيش الذكرى الستين للنكبة فقد قررنا هنا في غزة أن نحييها على طريقتنا بأن نعيد عقارب الزمن إلى الوراء دورة كاملة .., لنعيد أبناء شعبنا إلى تلك السنين و يعاودوا معايشتها من جديد خوفا من أن يفعل الزمن فعله و يمحو بعضا من تلك الذكريات ..! و لذا اقتضى التنويه كي لا يختلط حابل الأشياء بنابلها في ذهنك أخي الضيف !! -
انظر أخي الزائر .. قبل ستين عاما لم يكن هناك من وسائط نقل سوى العربات التي تجرها الدواب من الحمير و البغال .., دقق النظر لطفا !! ها هي العربات ذاتها تعود لتصبح الوسائط الوحيدة لنقل الركاب و البضائع على حد سواء !, و كما لم يكن بإمكانك أن ترى من وسائط النقل الحديثة ( أعني السيارات بأنواعها ) ما يزيد على أصابع اليد .., ها هو المشهد ذاته .. و أتحداك الآن أن ترى أو تحصي أكثر من ذلك مع فارق بسيط يتمثل في أن السيارات سابقا كانت تزود بالبنزين أو السولار ..أما هنا فلكي نحافظ على نعومة السير لهذه السيارات فقد استبدلنا وقودها بزيت الطبخ الذي كما تعرف أكثر أمنا , و اعتقد لا داعي للسؤال عن الروائح التي تشتمها على طوال الطرقات لأن الأمر بات واضحا انه نتائج عوادم هذه السيارات المعدودة و التي بالمناسبة هي لأشخاص معدودين أيضا .., ( باستثناء السيارات المملوكة للعسس والشرطة و حفظ الأمن و القائمين علينا الساهرين على رعاية البلاد و العباد .. و هذه قضايا لا أحبذ التطرق إليها باعتبارها قضايا سياسية و العياذ بالله !).. و بالطبع فهذا الاختراع أعني اختراع الزيت لتسيير المركبات فلا اعتقد أن أحدا قد سبقنا إليه من قبل !!, أما أن تسألني عن آثاره المسرطنة - كما يؤكد البعض - فأرد بالقول أن هذا الشعب ( شعب الجبارين ) لو استسلم يوما للمسرطنات و هذي أهل العلم و الطب في هذا المجال لقضي عليه منذ زمن بفعل ما يصدره كيان العدو من مخلفات لنا في صورة خضار و فواكه و مواد تموينية مترعة بهذه المدعوة بالمسرطنات !!, و لكننا شعبا قد تحصنا بالمناعة الطبيعية ضد ذلك , إضافة للعناية الربانية التي تحيط بنا و ترعانا بحمد الله عز و جل !!
انظر إلى هذه الجموع .. انظر .. الم اقل لك أن كل شيء قد عاد القهقرى ستون عاما ؟ انظر لقد عادت البساطة تهيمن على كل شيء .., الجميع يحث الخطى سيرا على الأقدام .., و الكل سواسية إذ لا فضل لعجمي على عربي إلا بالتقوى !!.., و هذا جزءا يسيرا من العدالة التي نحياها في زمن قل فيه العدل !!, انظر .. انظر إلى السوق المقابل .., هل ترى أن الأشياء .. كل الأشياء باتت متوفرة , انظر إلى الفواكه بكافة أنواعها و أصنافها بل و حتى كيف اجتمع منها محاصيل الصيف مع محاصيل الشتاء بقدرة الله سبحانه .., بل وأرجوك أن تدقق في المتسوقين أو مدعي التسوق !!.., هل تلاحظ معي أن الغالبية العظمى لا تأتي إلى هذه الأسواق إلا لتسر ناظرها بهذه المناظر الخلابة و لتدليك غددها اللعابية !!؛ و أن القليل القليل منهم هم ممن يأتون للتبضع ؟.. لماذا ؟.. لأن كل شيء متوفر في البيوت من جهة , و من جهة أخرى لأننا شعبا قنوعا و نؤمن بان القناعة كنز لا يفنى .., ثم لأننا - و ربما هذا هو الأهم - لربما غالبية من ترى لا يملكون ثمن هذه المعروضات و يعتبرونها من الكماليات !!
هل ننطلق إلى مكان آخر ؟.. هلم بنا و لكن .. هل تود زيارة المصانع و المشاغل المغلقة بفعل انعدام الخامات على مختلف مسمياتها .., أم على المزارع لترى الأشجار تبكي توسلا لقطرة ماء أو دواء عزت بفعل انعدام المحروقات و توقف الآلات و المضخات وآلات الري .. , أم تفضل زيارة احدي المستشفيات لترى كيف كان يمارس الأطباء عملهم قبل ستين عاما خلت في ظل شح الإمكانيات من أجهزة و أدوات ناهيك عن ندرة المتوفر من الأدوية و العلاجات و غلائها الفاحش , و انعدام وسائط نقل المرضى ..و لترى كيفية تنقل الأطباء و وصولهم إلى مراكز عملهم على الدراجات .. لا حبا في الرياضة .., وإنما لأن ما شاهدتها من وسائط نقل ( العربات التي تجرها الحمير و البغال ) يقتصر عملها على داخل القرى و المدن و لا تستطيع الوصول لأطرافها حيث تكون المستشفيات عادة بسبب بعد المسافة !!
ماذا تريد أن ترى أخي الزائر ..؟؟
هل آخذك في زيارة لمخيمات اللجوء ما دمنا نعيش ذكريات النكبة , لترى كيف كانت تعيش الكائنات البشرية في العصور الغابرة ؛ و لا زال الفلسطيني يعيشها حتى الآن ؟!! , هل ترغب في رؤية البطالة تتكلس على وجوه الشباب المترع بخيبة الأمل ؟؟, أم تود رؤية شوارعها التي اختلطت ففيها البسطات الصغيرة بأكوام القمامة ؟!!, أم أراك تود اقتناص الفرصة لمشاهدة أزقتها و زواريبها التي تئن تحت وطأة مزاريبها و قنوات مجاري صرفها الصحي التي تفيض أمراضا و روائحا نتنة و حشرات و قوارض على مدار الفصول العشر في السنة الواحدة :و التي لا زال إعلامنا الميمون عاجزا حتى الآن عن إيصال صورتها للعالم المتحضر الذي لا زال جله يجهل موقعها على الخارطة رغم ما تزخر به من مآس تنوء بحملها الجبال !! , بل و يجهل ان كان لا زال في العالم حتى الآن من حياة على الأرض كهذه ( حياة ) ..!!
ماذا أراك قررت أخي الزائر عافاك الله و جنبك شرور الهجرات و النكبات ؟؟
أراك و قد امتزج بك العجب بالذهول ..!!, لا تعجب يا أخي !!, فأنا الأولى بهذا العجب .., العجب أن الكثيرين من بني جلدتنا لا زالوا يجهلون أو يتجاهلون ما يعيشه إخوان لهم يعيشون بين ظهرانيهم و لا يفصلهم عنهم سوى شارع أو زقاق !!, بل ربما ربطتهم بهم جيرة امتدت لأجيال في ذات المخيم و الشارع و الزقاق و الوحول و طفح سيول مجاري الصرف الصحي .., و انتقلوا فجأة بقدرة قادر للعيش حياة الترف المخملي المحاط بالستائر السوداء على أنقاض شعب و قضية بكل ما حملته المسيرة من أرواح و دماء و أسر و دمار و غربة و تشرد و معاناة !!!
أتأمل و أتفكر تماما مثلك الآن .., فيزول عجبي فجأة !! نعم فلقد ظهرت الحقيقة من أمامي فجأة فأمسكت بتلابيبها !!, إنها التجارة المتخفية برداء لا أدري كنهه على وجه الدقة .., رداء السياسة ..ربما !!, و ربما رداء الدين ربما .., و ربما .. لربما .. هي الضمير الغائب الممسوخ الذي تستر بكل من هذا و هذه و تلك ..!!
و الآن .. ماذا بعد يا أخي .., أسائل نفسي.. ماذا بعد ؟؟
هل توقظ فينا روائح الزيت المنبعثة من عوادم السيارات ما لم توقظه فينا غازات و غارات المحتل ؟؟
أم توقظنا ذكرى النكبة ؟؟.. لنعيد النظر في كل ما مضى .. و كل ما انقضى , في كل ما أتى و كل ما سيأتي , و نزيل كل الأقنعة .., و نخط من جديد .. شعارنا .. مقولة الشهيد : ( ليس منا و لا فينا من فرّط بذرّة .. ) و نضيف من جديد : أو قطرة من ماء .. أو دماء !!, أو طلقة أو صرخة أو نزوة تبيح للأعداء .. أن يعملوا بأرضنا خرابهم , أو أن يغرزوا أنيابهم في لحمنا و ينفثوا سمومهم في بنفسج الطفولة .., و نفقد المزيد و المزيد .., إلى هنا كفى .. و لنعيد النظر في كل ما مضى , و نخط من جديد ..ترنيمة الشهيد ( ليس منا من فرّط ) .. و نضيف سطرا آخرا : ( .., و لا منا من حلل المتاجرة و القتل و المغامرة بقطرة أو ذرة من دم أو من قوت هذا الشعب ) .

ليست هناك تعليقات: