صبحي غندور
على مدار ربع قرن من الزمن (من العام 1975 إلى العام 2000) كان الخنجر الإسرائيلي هو الأكثر إيلاماً في الجسم اللّبناني، بل كان هذا الخنجر المسموم يستهدف قتل "النموذج اللّبناني" الّذي أعطاه عام 1974 من على منبر الأمم المتّحدة الرّئيس اللّبناني الرّاحل سليمان فرنجيّة كبديل عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وكنموذج لتعايش الطوائف المتعدّدة في ظل دولة ديمقراطيّة واحدة.
وقد استطاعت المقاومة اللّبنانيّة الّتي برزت عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 أن تردع هذا الخنجر وأن تقطع يد الاحتلال الّتي حملته، فكان الانتصار اللّبناني على الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 بداية لنموذج لبناني جديد في المنطقة العربيّة وفي الصّراع العربي الإسرائيلي.
لكنْ لبنان اليوم مهدّد بأخطار كبيرة نتيجة ما حدث من تفاعلات سياسيّة تتحمّل مسؤوليتها حكومة السنيورة في قرارتها الأخيرة التي لم تستشر بها حتى قيادة الجيش اللبناني، وهو المعني الأول بتنفيذها، ثم بما حدث من ردود فعل أمنيّة قامت بها قوى المعارضة، لتحمي ظهر المقاومة مما يتم التخطيط له أميركياً وإسرائيلياً. وقد أدّى ذلك كله إلى تراجع "النّموذج اللّبناني المقاوم" لصالح "النّموذج اللّبناني" المتصارع مع نفسه!
وهاهي اليوم مناسبة الذّكرى الثامنة لتحرير لبنان (25/5/2000) تعود عليه وهو يتأرجح بين دفّتي الفوضى الداخلية والتدخّل العسكري الخارجي، بعد أن أصبح النّموذج اللبناني المقاوم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي هو المستهدف الأوّل، ليكون المنتصر بعد ذلك "نموذج الاقتتال الدّاخلي"، وصيغ الكانتونات السياسية الخاضعة للهيمنة الخارجيّة.
لكن الأمل معقود الآن في مواجهة هذه المخاطر، على الجيش اللبناني وعلى قيادته الحكيمة الواعية وعلى وحدة هذا الجيش ودوره المطلوب في الحاضر والمستقبل.
إنّ الجيش اللبناني كان حتى عام 1990، وقبل الحرب اللبنانية عام 1975، بؤرة صراع داخلي لبناني، وقد شهد في فترات الحرب انقسامات حادّة، قاتلت الألوية العسكرية فيه بعضها البعض وانتهت الحرب بتمرّد قيادته وبمعارك قامت بها هذه القيادة العسكرية ضدّ كلّ الأطراف.
إن اتفاق الطائف عام 1989 رسم هدفاً للقوات المسلحة اللبنانية: (يجري توحيد وإعداد القوات المسلحة وتدريبها لتكون قادرةً على تحمّل مسؤولياتها الوطنية في مواجهة العدوّ الإسرائيلي)، كما ورد في الفقرة (ج) من البند الثالث من وثيقة الطائف.
وقد نجحت قيادة الجيش، بعد "اتفاق الطائف"، في إعادة بناء الجيش اللبناني وتوحيده وإعداده على مفاهيم واضحة عمَّن هو العدوّ ومن الصديق، لكن استمرّت الاختلافات المبدئية بين القوى السياسية الحاكمة والمعارضة حول رؤية اتفاق الطائف، وحول المقاومة ضدّ إسرائيل، ومستقبل علاقاته مع سوريا شرقاً وأميركا غرباً، فكانت المشكلة، وما تزال، في القوى السياسية وليس بالمؤسسة العسكرية التي هي الباقي الوحيد من مؤسسات الدولة اللبنانية، المعبّر الآن عن وحدة لبنان والضامن لها.
لقد كانت قيمة ما حدث في يوم 25/5/2000 بالنسبة إلى العرب ككل، أنه لأوّل مرّة منذ بدء مسيرة المفاوضات العربية مع إسرائيل، ومنذ بدء معاهدات الصلح معها، ومنذ بدء الاعتراف بها، تضطر إسرائيل للانسحاب الكامل من أرض عربية، دون تفاوض أو اتفاقيات، تنسحب فقط بسبب المقاومة لهذا الاحتلال، وما سبّبته هذه المقاومة على مدار سنوات من خسائر كبيرة في الجيش الإسرائيلي.
جاء درس المقاومة اللبنانية ليؤكّد أن "الحقّ بغير قوّة تدعمه هو حقّ ضائع".
فالحقّ اللبناني بتنفيذ القرار رقم 425 كان عمره أكثر من 22 عاما، لكن إسرائيل لم تستجب إلى هذا "الحقّ اللبناني" المدعوم بالشرعية الدولية إلا حينما رافقت هذا الحق قوّة المقاومة للاحتلال، هذه المقاومة التي استندت أيضاً الى قوّة التضامن الوطني اللبناني الشامل معها وحولها على المستويين الشعبي والرسمي، كما استفادت هذه المقاومة من دعم أنصار هذا الحقّ عربياً وإقليمياً.
لكن تطورات الأوضاع اللبنانية منذ العام 2000 تتزامن مع تصريحات أمريكية وإسرائيلية تصف المقاومة بالإرهاب، وتحاول زجّ التناقض بينها وبين أهلها في لبنان ومع حكومات المنطقة العربية وشعوبها من خلال وصف المقاومة بأنها (حالة إرهابية إيرانية).
وهناك مشروع أميركي لعدد من بلدان المنطقة يقوم على إعادة تركيبها بأطر سياسيّة ودستوريّة جديدة تحمل الشكل الفيدرالي الديمقراطي، لكنّها تتضمن بذور التفكك إلى كانتونات متصارعة في ظلّ الانقسامات الداخليّة والدور الإسرائيلي الشّغال في الجانبين الأميركي والمحلّي العربي لدفع الواقع العربي والمشروع الأميركي إلى مشاريع حروب أهليّة عربيّة شاملة.
إنَّ إسرائيل هي في قلب المنطقة العربية ولها طموحات إقليميّة تتجاوز حتّى المشاريع الأميركية. ولا يعقل أن تكون إسرائيل فاعلة في أميركا وأوروبا وأفريقيا وشرق آسيا، ولا تكون كذلك في محيطها الإقليمي الّذي منه انتزعت الأرض، وعليه تريد بسط هيمنتها الخاصّة.
***
لبنان، والعرب عموماً، بحاجة قصوى الآن لوقفة مع النفس قبل فوات الأوان:
إنَّ العرب يعيشون جميعاً الآن الذكرى الستين لنكبة فلسطين التي كانت أسبابها مزيجاً من تآمر الخارج والداخل في ظل واقع الانقسامات وفوضى المجتمعات العربية.
إنَّ لبنان يستذكر هذا العام ذكرى مرور نصف قرن على حربه الأهلية عام 1958 حيث اختارت قيادة الجيش فيه آنذاك عدم التصدي للمعارضة التي كانت مؤيدة لجمال عبد الناصر ضد "حلف بغداد" وحكم الرئيس كميل شمعون، فأنقذت قيادة الجيش لبنان من فتنة كبيرة ثم قادته (خلال حكم اللواء فؤاد شهاب) في مسيرة استقرار وإعمار لم يعرف لبنان مثيلاً لها.
لبنان يستذكر أيضاً هذا الشهر، الذكرى الثامنة لتحريره من الاحتلال الإسرائيلي بفعل المقاومة والتضامن الوطني معها، هذا التحرير الذي كان مساعداً أيضاً على انتشار الجيش اللبناني على كل الأراضي اللبنانية ثم خروج القوات السورية منها.
في لبنان والمنطقة الآن مزيج من ظروف كل هذه المناسبات، لكنه عار على هذه الأمّة أن يحتفل الآخرون بذكرى اغتصاب أرض فلسطين بينما القوى اللبنانية والحكومات العربية تتصارع حول تحديد موقفها من المقاومة في فلسطين ولبنان!
على مدار ربع قرن من الزمن (من العام 1975 إلى العام 2000) كان الخنجر الإسرائيلي هو الأكثر إيلاماً في الجسم اللّبناني، بل كان هذا الخنجر المسموم يستهدف قتل "النموذج اللّبناني" الّذي أعطاه عام 1974 من على منبر الأمم المتّحدة الرّئيس اللّبناني الرّاحل سليمان فرنجيّة كبديل عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وكنموذج لتعايش الطوائف المتعدّدة في ظل دولة ديمقراطيّة واحدة.
وقد استطاعت المقاومة اللّبنانيّة الّتي برزت عقب الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982 أن تردع هذا الخنجر وأن تقطع يد الاحتلال الّتي حملته، فكان الانتصار اللّبناني على الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 بداية لنموذج لبناني جديد في المنطقة العربيّة وفي الصّراع العربي الإسرائيلي.
لكنْ لبنان اليوم مهدّد بأخطار كبيرة نتيجة ما حدث من تفاعلات سياسيّة تتحمّل مسؤوليتها حكومة السنيورة في قرارتها الأخيرة التي لم تستشر بها حتى قيادة الجيش اللبناني، وهو المعني الأول بتنفيذها، ثم بما حدث من ردود فعل أمنيّة قامت بها قوى المعارضة، لتحمي ظهر المقاومة مما يتم التخطيط له أميركياً وإسرائيلياً. وقد أدّى ذلك كله إلى تراجع "النّموذج اللّبناني المقاوم" لصالح "النّموذج اللّبناني" المتصارع مع نفسه!
وهاهي اليوم مناسبة الذّكرى الثامنة لتحرير لبنان (25/5/2000) تعود عليه وهو يتأرجح بين دفّتي الفوضى الداخلية والتدخّل العسكري الخارجي، بعد أن أصبح النّموذج اللبناني المقاوم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي هو المستهدف الأوّل، ليكون المنتصر بعد ذلك "نموذج الاقتتال الدّاخلي"، وصيغ الكانتونات السياسية الخاضعة للهيمنة الخارجيّة.
لكن الأمل معقود الآن في مواجهة هذه المخاطر، على الجيش اللبناني وعلى قيادته الحكيمة الواعية وعلى وحدة هذا الجيش ودوره المطلوب في الحاضر والمستقبل.
إنّ الجيش اللبناني كان حتى عام 1990، وقبل الحرب اللبنانية عام 1975، بؤرة صراع داخلي لبناني، وقد شهد في فترات الحرب انقسامات حادّة، قاتلت الألوية العسكرية فيه بعضها البعض وانتهت الحرب بتمرّد قيادته وبمعارك قامت بها هذه القيادة العسكرية ضدّ كلّ الأطراف.
إن اتفاق الطائف عام 1989 رسم هدفاً للقوات المسلحة اللبنانية: (يجري توحيد وإعداد القوات المسلحة وتدريبها لتكون قادرةً على تحمّل مسؤولياتها الوطنية في مواجهة العدوّ الإسرائيلي)، كما ورد في الفقرة (ج) من البند الثالث من وثيقة الطائف.
وقد نجحت قيادة الجيش، بعد "اتفاق الطائف"، في إعادة بناء الجيش اللبناني وتوحيده وإعداده على مفاهيم واضحة عمَّن هو العدوّ ومن الصديق، لكن استمرّت الاختلافات المبدئية بين القوى السياسية الحاكمة والمعارضة حول رؤية اتفاق الطائف، وحول المقاومة ضدّ إسرائيل، ومستقبل علاقاته مع سوريا شرقاً وأميركا غرباً، فكانت المشكلة، وما تزال، في القوى السياسية وليس بالمؤسسة العسكرية التي هي الباقي الوحيد من مؤسسات الدولة اللبنانية، المعبّر الآن عن وحدة لبنان والضامن لها.
لقد كانت قيمة ما حدث في يوم 25/5/2000 بالنسبة إلى العرب ككل، أنه لأوّل مرّة منذ بدء مسيرة المفاوضات العربية مع إسرائيل، ومنذ بدء معاهدات الصلح معها، ومنذ بدء الاعتراف بها، تضطر إسرائيل للانسحاب الكامل من أرض عربية، دون تفاوض أو اتفاقيات، تنسحب فقط بسبب المقاومة لهذا الاحتلال، وما سبّبته هذه المقاومة على مدار سنوات من خسائر كبيرة في الجيش الإسرائيلي.
جاء درس المقاومة اللبنانية ليؤكّد أن "الحقّ بغير قوّة تدعمه هو حقّ ضائع".
فالحقّ اللبناني بتنفيذ القرار رقم 425 كان عمره أكثر من 22 عاما، لكن إسرائيل لم تستجب إلى هذا "الحقّ اللبناني" المدعوم بالشرعية الدولية إلا حينما رافقت هذا الحق قوّة المقاومة للاحتلال، هذه المقاومة التي استندت أيضاً الى قوّة التضامن الوطني اللبناني الشامل معها وحولها على المستويين الشعبي والرسمي، كما استفادت هذه المقاومة من دعم أنصار هذا الحقّ عربياً وإقليمياً.
لكن تطورات الأوضاع اللبنانية منذ العام 2000 تتزامن مع تصريحات أمريكية وإسرائيلية تصف المقاومة بالإرهاب، وتحاول زجّ التناقض بينها وبين أهلها في لبنان ومع حكومات المنطقة العربية وشعوبها من خلال وصف المقاومة بأنها (حالة إرهابية إيرانية).
وهناك مشروع أميركي لعدد من بلدان المنطقة يقوم على إعادة تركيبها بأطر سياسيّة ودستوريّة جديدة تحمل الشكل الفيدرالي الديمقراطي، لكنّها تتضمن بذور التفكك إلى كانتونات متصارعة في ظلّ الانقسامات الداخليّة والدور الإسرائيلي الشّغال في الجانبين الأميركي والمحلّي العربي لدفع الواقع العربي والمشروع الأميركي إلى مشاريع حروب أهليّة عربيّة شاملة.
إنَّ إسرائيل هي في قلب المنطقة العربية ولها طموحات إقليميّة تتجاوز حتّى المشاريع الأميركية. ولا يعقل أن تكون إسرائيل فاعلة في أميركا وأوروبا وأفريقيا وشرق آسيا، ولا تكون كذلك في محيطها الإقليمي الّذي منه انتزعت الأرض، وعليه تريد بسط هيمنتها الخاصّة.
***
لبنان، والعرب عموماً، بحاجة قصوى الآن لوقفة مع النفس قبل فوات الأوان:
إنَّ العرب يعيشون جميعاً الآن الذكرى الستين لنكبة فلسطين التي كانت أسبابها مزيجاً من تآمر الخارج والداخل في ظل واقع الانقسامات وفوضى المجتمعات العربية.
إنَّ لبنان يستذكر هذا العام ذكرى مرور نصف قرن على حربه الأهلية عام 1958 حيث اختارت قيادة الجيش فيه آنذاك عدم التصدي للمعارضة التي كانت مؤيدة لجمال عبد الناصر ضد "حلف بغداد" وحكم الرئيس كميل شمعون، فأنقذت قيادة الجيش لبنان من فتنة كبيرة ثم قادته (خلال حكم اللواء فؤاد شهاب) في مسيرة استقرار وإعمار لم يعرف لبنان مثيلاً لها.
لبنان يستذكر أيضاً هذا الشهر، الذكرى الثامنة لتحريره من الاحتلال الإسرائيلي بفعل المقاومة والتضامن الوطني معها، هذا التحرير الذي كان مساعداً أيضاً على انتشار الجيش اللبناني على كل الأراضي اللبنانية ثم خروج القوات السورية منها.
في لبنان والمنطقة الآن مزيج من ظروف كل هذه المناسبات، لكنه عار على هذه الأمّة أن يحتفل الآخرون بذكرى اغتصاب أرض فلسطين بينما القوى اللبنانية والحكومات العربية تتصارع حول تحديد موقفها من المقاومة في فلسطين ولبنان!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق