صبحي غندور
بعد إعلان المعارضة اللبنانية قرارها بالعصيان المدني، يوم السادس من الشهر الجاري، وبعد الأحداث الأمنية الأخيرة في لبنان، أفترض أنّ قائد الجيش العماد ميشال سليمان قد جمع ضباط قيادة الجيش وطرح أمامهم الآتي عن التطورات الأخيرة:
· نحن الآن أمام قرارات أصدرتها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وهي قرارات تدخل في صميم مسؤولية الجيش وصلاحياته، لكن أودّ إعلامكم أنّ الحكومة لم تأخذ رأي قيادة الجيش بهذه القرارات، كما هي الأصول الدستورية والقانونية بالعودة إلى الجهات المختصّة قبل إصدار القرارات، فالحكومة قررت إقالة الضابط العميد شقير، رئيس أمن المطار، وهذا الأمر يخضع أصلاً لمسؤولية قيادة الجيش.
والحكومة أرادت من الجيش أن يوقف شبكة اتصالات المقاومة دون أن تقدم على استشارة قيادة الجيش في مضمون القرار قبل إصداره.
· سبق لهذه الحكومة أن اتّخذت قرارات ورّطت الجيش عسكرياً دون التشاور معه، كما حصل ضد جماعة "فتح الإسلام" حيث أرسلت الحكومة عناصر من قوى الأمن الداخلي لاعتقال مجموعة من هذه الجماعات دون أي تنسيق مع الجيش أو إعلام مسبق له ممّا سبّب مجزرة بحقّ موقع للجيش في الليلة نفسها، ومما أدى لاحقاً لأحداث مخيم "نهر البارد".
· إنّ ما قررته الحكومة حول أمن المطار وشبكة الاتصالات، وضع الجيش أمام خيارين أحلاهما مرّ: عدم التنفيذ للقرارات، وهذا يظهر الجيش في حالة الضعف كما الحكومة أيضاً، أو العمل على تنفيذ القرارات وهذا يعني صداماً عسكرياً مع المقاومة وانقساماً فورياً بالجيش وتفكّك المؤسسة الوحيدة الباقية من مؤسسات الدولة كرمز لوحدة الوطن ولضمان استقراره الأمني.
· إنّ التصدّي العسكري لعناصر المعارضة كان سيدفع حتماً إلى المواجهة الشاملة والحرب المدمّرة لكل لبنان، كذلك فإنّ بقاء الجيش في الثكنات وانسحابه من الشوارع كان سيؤدّي إلى مزيد من القتل والصراعات بين الأطراف اللبنانية. لذلك كان القرار بالسعي لتحجيم ما تفعله عناصر المعارضة والموالاة ضدّ بعضها البعض في كل المناطق. فإذا كانت المعارضة قد أغلقت مطار بيروت، فإنّ عناصر مؤيّدة للحكومة أغلقت الحدود مع سوريا في البقاع. كذلك بالنسبة لاقتحام المقرّات فقد حدثت في الشمال والبقاع أمور شبيهة بما حصل في بيروت والجبل. وقد وقف الجيش على مسافة واحدة من كل الأطراف، وكان همّه الأول هو عدم تداعي الاشتباكات وردود الفعل المتبادلة، وتسلّم المراكز التي يقرّر أصحابها جعلها في عهدة الجيش ..
***
وأفترض أيضاً، أنّ قائد الجيش العماد ميشال سليمان قد قارن بين ظروف ما يحدث اليوم في لبنان وبين ما حدث فيه في العام 1958 حينما امتنع الجيش بقيادة اللواء فؤاد شهاب عن التدخّل أثناء الحوادث الدامية التي وقعت آنذاك بين المعارضة المدعومة من مصر جمال عبد الناصر وبين حكم الرئيس كميل شمعون الذي كانت تدعمه واشنطن وتدفعه إلى إدخال لبنان في "حلف بغداد".
***
هذا السيناريو المفترض عمّا يكون قد جرى في قيادة الجيش قبل اندلاع الأحداث الأخيرة وبعدها، يفسّر الأسلوب الذي تعامل به الجيش اللبناني مع التطورات السياسية والأمنية، والتي ساهم الجيش عملياً بوأد تداعياتها وبمنع تحوّلها إلى فتنة كبيرة تشمل لبنان كلّه وتؤثّر على كل محيطه الإقليمي.
وسيذكر التاريخ أنّ القيادة الحالية للجيش اللبناني استطاعت السير السليم على حقول مليئة بالألغام طيلة السنوات الأربع الماضية، وبأنّها حفظت وحدة الوطن، وحافظت على وحدة مؤسستها المعقود عليها آمالاً كثيرة لمستقبل لبنان واستقراره السياسي والأمني.
وما حدث حتى الآن من إجماع لبناني وعربي ودولي على ترشيح العماد سليمان لموقع رئيس الجمهورية يحمل أيضاً آمالاً كبيرة بأن يحظى لبنان بقيادة حكيمة واعية وقادرة على مواجهة التحدّيات.
ولعلّ موقف قيادة الجيش من التطورات الأخيرة كان هو العامل الأهم في ثلاثة عوامل منعت من حدوث الفتنة اللبنانية/الإقليمية. فأصحاب مشاريع الفتنة راهنوا على صدام كبير بين الجيش والمعارضة، وتحديداً بين الجيش والمقاومة. كذلك راهنوا على انفلات ردود فعل المعارضة وعلى انجرارها إلى حالات يصعب ضبطها. أيضاً، كانت المراهنة على انفجار المشاعر الطائفية والمذهبية خاصّةً في بيروت وتحوّلها إلى السلاح ضدّ سلاح المقاومة. وقد سقطت كل هذه المراهنات وأثبت الشعب اللبناني، والجيش اللبناني، والمقاومة، وعيهم وحُسن تصرّفهم وإدراكهم بأنهم مستهدفون جميعاً فيما تخطّط وتعمل له منذ سنوات المشاريع البوشية/الإسرائيلية، في لبنان وفي المنطقة العربية، من فتن داخلية ومن سعي دؤوب لوقف أي مقاومة ضدّ إسرائيل.
فلو كانت إدارة بوش جادّة في التسويات السياسية لأزمات المنطقة، لقامت بالضغط على إسرائيل للانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلّة، وبذلك تسقط أيّة مبرّرات لاستمرار سلاح المقاومة في لبنان والأراضي الفلسطينية.
إنّ إدارة بوش تتحدّث الآن عن مخاطر وجود سلاح المقاومة المدعوم من دمشق وطهران، تماماً كما كانت واشنطن وتل أبيب تتحدّثان عن مخاطر سلاح المقاومة الفلسطينية المدعوم من الاتحاد السوفييتي واعتبار المقاومة حالة "شيوعية" لا كونها حقّاً مشروعا لأي شعب خاضع للاحتلال.
حتماً هناك صدق في كلام بوش وإسرائيل حول موقفهما السلبي من أي حركة مقاومة ضدّ الاحتلال، فهما ضدّ مبدأ المقاومة بغضّ النظر عن فكرها وأساليبها وتحالفاتها. بينما هناك رياء وكذب، عربيّاً ولبنانيّاً، حول هذا الموضوع. فاتهام المقاومة أنّها فصيل تابع لإيران وسوريا يفرض سؤالاً: لِمَ لا تقوم هذه الأطراف اللبنانية والعربية بتشكيل مقاومة عربية، لا إيرانية ولا سوريّة، مقاومة تقاتل إسرائيل ولا توظّف ذلك لصالح إيران كما يقولون؟
فإذا كانت هذه الأطراف اللبنانية والفلسطينية والعربية ضدّ المقاومة الآن لأنّها على علاقة بدمشق وطهران، فإنّ ذلك يفرض عليها مقاومة إسرائيل كي تكون هي البديل، أم أنّ هذه الأطراف قد أصبحت هي الأخرى ضدّ المقاومة من حيث المبدأ؟!
ملاحظات أوّلية على "اتفاق الدوحة" اللبناني
· نجحت قيادة قطر في الإمساك بخيوط الأزمة اللبنانية وما فيها من تعقيدات إقليمية ودولية، واستطاعت الحكومة القطرية، بمشاركة أمين عام الجامعة العربية والوفد العربي، نسج "ثوب الحل" بعدما تعذّر حدوث ذلك في السابق على أيدي أطراف عربية ودولية.
· الاتفاق، والرعاية القطرية له، وما لقطر من علاقات جيّدة مع أطراف إقليمية ودولية معنيّة بالأزمة اللبنانية، هو بالنتيجة تعبير عن قناعة هذه الأطراف بأنّ المفاوضات هي الآن الأسلوب الأفضل لحلّ الأزمات، وبأنّ المراهنة على التصعيد تحمل مخاطر كبيرة لا يضمن أحد نتائجها. أيضاً، الاتفاق هو الآن بمثابة ضوابط لخلافات لبنانية محلّية، وخلافات عربية/إقليمية/دولية، وهذا يعني أنّ الخلافات ما زالت قائمة بين هذه الأطراف لكن جرى وضع سقف لها في الملف اللبناني تحديداً بعد التطوّرات التصعيدية الأخيرة التي جرت في الأسبوع الأول من هذا الشهر.
· الاتفاق تضمّن ثلاثة بنود أساسية كان يمكن حصولها منذ أكثر من سنة، أي تحديداً بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان والمقاومة في صيف العام 2006 حينما طالبت المعارضة بالمشاركة في صنع القرار السياسي من خلال ما يُعرَف بالثلث الضامن، وهذا ما حصل الآن في اتفاق الدوحة، بعدما جرت مراجعة الحسابات السياسية والأمنية، عقب التطوّرات الأخيرة في لبنان، لدى الأطراف المحلية والخارجية التي كانت ترفض إعطاء المعارضة حق "الثلث الضامن".
أما التوافق على ترشيح العماد ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية فكان حاصلاً منذ 6 أشهر، لكن الموالاة (ومن يقف خلفها) كانت تصّر على حدوث انتخابات الرئاسة بلا ضمانات للمعارضة بالمشاركة في صنع القرار السياسي.
· "اتفاق الدوحة" هو فعلاً تأكيد لمقولة "لا غالب ولا مغلوب"، فقط من الناحية الدستورية ومن حيث التركيبة الطائفية والمذهبية للنظام السياسي اللبناني، لكن هناك "غالب ومغلوب" سياسياً ووطنياً. فهناك سياسياً انكسار لنهج سارت عليه الموالاة وحكومة السنيورة منذ سنة ونصف، بدعم خارجي كبير، وهناك أيضاً انكسار لنهج التدويل الذي كان يرافق التطورات الأخيرة، وهناك انكسار للعاملين من أجل فتنة طائفية ومذهبية، وهناك انكسار لمن راهنوا على صدام الجيش مع المقاومة ولمن كانوا يريدون تحقيق أهداف سياسية عجزت إسرائيل عن تحقيقها في حرب 2006.
لكن كل هذه الإنكسارات "الإيجابية" يرافقها أيضاً انكسار "سلبي" من الناحية الوطنية، يتمثّل في إعطاء شحنة جديدة للبناء الطائفي اللاوطني الذي قام عليه لبنان منذ استقلاله والذي كان أكثر من مرّة سبباً لأزمات داخلية ولتدخّلات خارجية. فاتفاق الدوحة ينتصر للوطن اللبناني لكنّه لا ينتصر للمواطنة اللبنانية، بل ويجدّد الدم للصيغ الطائفية والمناطقية ولزعامات سياسية تستفيد من هذا العطب الداخلي وتتوارثه جيلاً بعد جيل.
· اتفاق الدوحة تعامل مع أزمة داخلية لبنانية فرضتها أوضاع أقليمية ودولية لكن لم يتضمن الاتفاق تفاهمات على برنامج سياسي وطني مشترك يحدد الموقف بوضوح من مسائل مهمة كانت هي أصلاً مسؤولة عن الإنحدار الأمني والسياسي في لبنان. لذلك جاء الاتفاق على آليات وحصص في المؤسستين التنفيذية والتشريعية لكن في ظل الانقسام السياسي والوطني حول قضايا مهمة تتعلق بالمقاومة وبعلاقات لبنان مع دمشق وواشنطن، وفي ظل المناخ السلبي الذي ما زال قائماً بين عواصم عربية معنية بتطورات لبنان، كما أيضاً المناخ السلبي المستمر بين واشنطن وبين طهران ودمشق.
· إنّ اتفاق الدوحة هو نهاية لحقبة زمنية عمرها 4 سنوات بدأت صيف عام 2004 باتفاق بوش/شيراك على موقف مشترك تجاه لبنان وسوريا، والذي جرى التعبير عنه في القرار 1559، وذلك قبل التجديد للرئيس إميل لحود وقبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وقد نجح صُنّاع القرار 1559 في الشقّ الأول منه بإخراج القوات السورية من لبنان في العام 2005، وفشلوا عسكرياً صيف عام 2006 في الشقّ الثاني منه، كما فشلوا سياسياً في مرحلة ما بعد 2006، وبالنتائج التي أسفر عنها اتفاق الدوحة.
وستكون المرحلة المقبلة في لبنان تعبيراً عن هذا التطوّر السياسي الهام، حيث سيجتمع فيها وجود العماد ميشال سليمان على رأس الجمهورية مع توافق سياسي على عدم التعرّض لسلاح المقاومة بانتظار نتائج تطوّرات إقليمية لم يعد أمام الدول المعنية فيها خيار أفضل من خيار المفاوضات، وبناء تسويات خاضعة لحسابات الواقع لا الطموحات لدى أي طرف!.
· لن تكون مصادفة زمنية أن تحصل جلسة انتخاب الرئيس الجديد يوم الأحد 25 أيار/مايو. فهذا التاريخ هو الذكرى الثامنة لتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. وفي الجمع بين المناسبتين تأكيد جديد على التلازم المطلوب بين تحرير لبنان وبين وحدته واستقراره، وعلى التنسيق الواجب بين الجيش والمقاومة، وعلى الدور الهام الذي قام ويقوم به العماد ميشال سليمان والجيش اللبناني في خدمة الوطن والمواطن معاً.
بعد إعلان المعارضة اللبنانية قرارها بالعصيان المدني، يوم السادس من الشهر الجاري، وبعد الأحداث الأمنية الأخيرة في لبنان، أفترض أنّ قائد الجيش العماد ميشال سليمان قد جمع ضباط قيادة الجيش وطرح أمامهم الآتي عن التطورات الأخيرة:
· نحن الآن أمام قرارات أصدرتها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وهي قرارات تدخل في صميم مسؤولية الجيش وصلاحياته، لكن أودّ إعلامكم أنّ الحكومة لم تأخذ رأي قيادة الجيش بهذه القرارات، كما هي الأصول الدستورية والقانونية بالعودة إلى الجهات المختصّة قبل إصدار القرارات، فالحكومة قررت إقالة الضابط العميد شقير، رئيس أمن المطار، وهذا الأمر يخضع أصلاً لمسؤولية قيادة الجيش.
والحكومة أرادت من الجيش أن يوقف شبكة اتصالات المقاومة دون أن تقدم على استشارة قيادة الجيش في مضمون القرار قبل إصداره.
· سبق لهذه الحكومة أن اتّخذت قرارات ورّطت الجيش عسكرياً دون التشاور معه، كما حصل ضد جماعة "فتح الإسلام" حيث أرسلت الحكومة عناصر من قوى الأمن الداخلي لاعتقال مجموعة من هذه الجماعات دون أي تنسيق مع الجيش أو إعلام مسبق له ممّا سبّب مجزرة بحقّ موقع للجيش في الليلة نفسها، ومما أدى لاحقاً لأحداث مخيم "نهر البارد".
· إنّ ما قررته الحكومة حول أمن المطار وشبكة الاتصالات، وضع الجيش أمام خيارين أحلاهما مرّ: عدم التنفيذ للقرارات، وهذا يظهر الجيش في حالة الضعف كما الحكومة أيضاً، أو العمل على تنفيذ القرارات وهذا يعني صداماً عسكرياً مع المقاومة وانقساماً فورياً بالجيش وتفكّك المؤسسة الوحيدة الباقية من مؤسسات الدولة كرمز لوحدة الوطن ولضمان استقراره الأمني.
· إنّ التصدّي العسكري لعناصر المعارضة كان سيدفع حتماً إلى المواجهة الشاملة والحرب المدمّرة لكل لبنان، كذلك فإنّ بقاء الجيش في الثكنات وانسحابه من الشوارع كان سيؤدّي إلى مزيد من القتل والصراعات بين الأطراف اللبنانية. لذلك كان القرار بالسعي لتحجيم ما تفعله عناصر المعارضة والموالاة ضدّ بعضها البعض في كل المناطق. فإذا كانت المعارضة قد أغلقت مطار بيروت، فإنّ عناصر مؤيّدة للحكومة أغلقت الحدود مع سوريا في البقاع. كذلك بالنسبة لاقتحام المقرّات فقد حدثت في الشمال والبقاع أمور شبيهة بما حصل في بيروت والجبل. وقد وقف الجيش على مسافة واحدة من كل الأطراف، وكان همّه الأول هو عدم تداعي الاشتباكات وردود الفعل المتبادلة، وتسلّم المراكز التي يقرّر أصحابها جعلها في عهدة الجيش ..
***
وأفترض أيضاً، أنّ قائد الجيش العماد ميشال سليمان قد قارن بين ظروف ما يحدث اليوم في لبنان وبين ما حدث فيه في العام 1958 حينما امتنع الجيش بقيادة اللواء فؤاد شهاب عن التدخّل أثناء الحوادث الدامية التي وقعت آنذاك بين المعارضة المدعومة من مصر جمال عبد الناصر وبين حكم الرئيس كميل شمعون الذي كانت تدعمه واشنطن وتدفعه إلى إدخال لبنان في "حلف بغداد".
***
هذا السيناريو المفترض عمّا يكون قد جرى في قيادة الجيش قبل اندلاع الأحداث الأخيرة وبعدها، يفسّر الأسلوب الذي تعامل به الجيش اللبناني مع التطورات السياسية والأمنية، والتي ساهم الجيش عملياً بوأد تداعياتها وبمنع تحوّلها إلى فتنة كبيرة تشمل لبنان كلّه وتؤثّر على كل محيطه الإقليمي.
وسيذكر التاريخ أنّ القيادة الحالية للجيش اللبناني استطاعت السير السليم على حقول مليئة بالألغام طيلة السنوات الأربع الماضية، وبأنّها حفظت وحدة الوطن، وحافظت على وحدة مؤسستها المعقود عليها آمالاً كثيرة لمستقبل لبنان واستقراره السياسي والأمني.
وما حدث حتى الآن من إجماع لبناني وعربي ودولي على ترشيح العماد سليمان لموقع رئيس الجمهورية يحمل أيضاً آمالاً كبيرة بأن يحظى لبنان بقيادة حكيمة واعية وقادرة على مواجهة التحدّيات.
ولعلّ موقف قيادة الجيش من التطورات الأخيرة كان هو العامل الأهم في ثلاثة عوامل منعت من حدوث الفتنة اللبنانية/الإقليمية. فأصحاب مشاريع الفتنة راهنوا على صدام كبير بين الجيش والمعارضة، وتحديداً بين الجيش والمقاومة. كذلك راهنوا على انفلات ردود فعل المعارضة وعلى انجرارها إلى حالات يصعب ضبطها. أيضاً، كانت المراهنة على انفجار المشاعر الطائفية والمذهبية خاصّةً في بيروت وتحوّلها إلى السلاح ضدّ سلاح المقاومة. وقد سقطت كل هذه المراهنات وأثبت الشعب اللبناني، والجيش اللبناني، والمقاومة، وعيهم وحُسن تصرّفهم وإدراكهم بأنهم مستهدفون جميعاً فيما تخطّط وتعمل له منذ سنوات المشاريع البوشية/الإسرائيلية، في لبنان وفي المنطقة العربية، من فتن داخلية ومن سعي دؤوب لوقف أي مقاومة ضدّ إسرائيل.
فلو كانت إدارة بوش جادّة في التسويات السياسية لأزمات المنطقة، لقامت بالضغط على إسرائيل للانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلّة، وبذلك تسقط أيّة مبرّرات لاستمرار سلاح المقاومة في لبنان والأراضي الفلسطينية.
إنّ إدارة بوش تتحدّث الآن عن مخاطر وجود سلاح المقاومة المدعوم من دمشق وطهران، تماماً كما كانت واشنطن وتل أبيب تتحدّثان عن مخاطر سلاح المقاومة الفلسطينية المدعوم من الاتحاد السوفييتي واعتبار المقاومة حالة "شيوعية" لا كونها حقّاً مشروعا لأي شعب خاضع للاحتلال.
حتماً هناك صدق في كلام بوش وإسرائيل حول موقفهما السلبي من أي حركة مقاومة ضدّ الاحتلال، فهما ضدّ مبدأ المقاومة بغضّ النظر عن فكرها وأساليبها وتحالفاتها. بينما هناك رياء وكذب، عربيّاً ولبنانيّاً، حول هذا الموضوع. فاتهام المقاومة أنّها فصيل تابع لإيران وسوريا يفرض سؤالاً: لِمَ لا تقوم هذه الأطراف اللبنانية والعربية بتشكيل مقاومة عربية، لا إيرانية ولا سوريّة، مقاومة تقاتل إسرائيل ولا توظّف ذلك لصالح إيران كما يقولون؟
فإذا كانت هذه الأطراف اللبنانية والفلسطينية والعربية ضدّ المقاومة الآن لأنّها على علاقة بدمشق وطهران، فإنّ ذلك يفرض عليها مقاومة إسرائيل كي تكون هي البديل، أم أنّ هذه الأطراف قد أصبحت هي الأخرى ضدّ المقاومة من حيث المبدأ؟!
ملاحظات أوّلية على "اتفاق الدوحة" اللبناني
· نجحت قيادة قطر في الإمساك بخيوط الأزمة اللبنانية وما فيها من تعقيدات إقليمية ودولية، واستطاعت الحكومة القطرية، بمشاركة أمين عام الجامعة العربية والوفد العربي، نسج "ثوب الحل" بعدما تعذّر حدوث ذلك في السابق على أيدي أطراف عربية ودولية.
· الاتفاق، والرعاية القطرية له، وما لقطر من علاقات جيّدة مع أطراف إقليمية ودولية معنيّة بالأزمة اللبنانية، هو بالنتيجة تعبير عن قناعة هذه الأطراف بأنّ المفاوضات هي الآن الأسلوب الأفضل لحلّ الأزمات، وبأنّ المراهنة على التصعيد تحمل مخاطر كبيرة لا يضمن أحد نتائجها. أيضاً، الاتفاق هو الآن بمثابة ضوابط لخلافات لبنانية محلّية، وخلافات عربية/إقليمية/دولية، وهذا يعني أنّ الخلافات ما زالت قائمة بين هذه الأطراف لكن جرى وضع سقف لها في الملف اللبناني تحديداً بعد التطوّرات التصعيدية الأخيرة التي جرت في الأسبوع الأول من هذا الشهر.
· الاتفاق تضمّن ثلاثة بنود أساسية كان يمكن حصولها منذ أكثر من سنة، أي تحديداً بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان والمقاومة في صيف العام 2006 حينما طالبت المعارضة بالمشاركة في صنع القرار السياسي من خلال ما يُعرَف بالثلث الضامن، وهذا ما حصل الآن في اتفاق الدوحة، بعدما جرت مراجعة الحسابات السياسية والأمنية، عقب التطوّرات الأخيرة في لبنان، لدى الأطراف المحلية والخارجية التي كانت ترفض إعطاء المعارضة حق "الثلث الضامن".
أما التوافق على ترشيح العماد ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية فكان حاصلاً منذ 6 أشهر، لكن الموالاة (ومن يقف خلفها) كانت تصّر على حدوث انتخابات الرئاسة بلا ضمانات للمعارضة بالمشاركة في صنع القرار السياسي.
· "اتفاق الدوحة" هو فعلاً تأكيد لمقولة "لا غالب ولا مغلوب"، فقط من الناحية الدستورية ومن حيث التركيبة الطائفية والمذهبية للنظام السياسي اللبناني، لكن هناك "غالب ومغلوب" سياسياً ووطنياً. فهناك سياسياً انكسار لنهج سارت عليه الموالاة وحكومة السنيورة منذ سنة ونصف، بدعم خارجي كبير، وهناك أيضاً انكسار لنهج التدويل الذي كان يرافق التطورات الأخيرة، وهناك انكسار للعاملين من أجل فتنة طائفية ومذهبية، وهناك انكسار لمن راهنوا على صدام الجيش مع المقاومة ولمن كانوا يريدون تحقيق أهداف سياسية عجزت إسرائيل عن تحقيقها في حرب 2006.
لكن كل هذه الإنكسارات "الإيجابية" يرافقها أيضاً انكسار "سلبي" من الناحية الوطنية، يتمثّل في إعطاء شحنة جديدة للبناء الطائفي اللاوطني الذي قام عليه لبنان منذ استقلاله والذي كان أكثر من مرّة سبباً لأزمات داخلية ولتدخّلات خارجية. فاتفاق الدوحة ينتصر للوطن اللبناني لكنّه لا ينتصر للمواطنة اللبنانية، بل ويجدّد الدم للصيغ الطائفية والمناطقية ولزعامات سياسية تستفيد من هذا العطب الداخلي وتتوارثه جيلاً بعد جيل.
· اتفاق الدوحة تعامل مع أزمة داخلية لبنانية فرضتها أوضاع أقليمية ودولية لكن لم يتضمن الاتفاق تفاهمات على برنامج سياسي وطني مشترك يحدد الموقف بوضوح من مسائل مهمة كانت هي أصلاً مسؤولة عن الإنحدار الأمني والسياسي في لبنان. لذلك جاء الاتفاق على آليات وحصص في المؤسستين التنفيذية والتشريعية لكن في ظل الانقسام السياسي والوطني حول قضايا مهمة تتعلق بالمقاومة وبعلاقات لبنان مع دمشق وواشنطن، وفي ظل المناخ السلبي الذي ما زال قائماً بين عواصم عربية معنية بتطورات لبنان، كما أيضاً المناخ السلبي المستمر بين واشنطن وبين طهران ودمشق.
· إنّ اتفاق الدوحة هو نهاية لحقبة زمنية عمرها 4 سنوات بدأت صيف عام 2004 باتفاق بوش/شيراك على موقف مشترك تجاه لبنان وسوريا، والذي جرى التعبير عنه في القرار 1559، وذلك قبل التجديد للرئيس إميل لحود وقبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وقد نجح صُنّاع القرار 1559 في الشقّ الأول منه بإخراج القوات السورية من لبنان في العام 2005، وفشلوا عسكرياً صيف عام 2006 في الشقّ الثاني منه، كما فشلوا سياسياً في مرحلة ما بعد 2006، وبالنتائج التي أسفر عنها اتفاق الدوحة.
وستكون المرحلة المقبلة في لبنان تعبيراً عن هذا التطوّر السياسي الهام، حيث سيجتمع فيها وجود العماد ميشال سليمان على رأس الجمهورية مع توافق سياسي على عدم التعرّض لسلاح المقاومة بانتظار نتائج تطوّرات إقليمية لم يعد أمام الدول المعنية فيها خيار أفضل من خيار المفاوضات، وبناء تسويات خاضعة لحسابات الواقع لا الطموحات لدى أي طرف!.
· لن تكون مصادفة زمنية أن تحصل جلسة انتخاب الرئيس الجديد يوم الأحد 25 أيار/مايو. فهذا التاريخ هو الذكرى الثامنة لتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. وفي الجمع بين المناسبتين تأكيد جديد على التلازم المطلوب بين تحرير لبنان وبين وحدته واستقراره، وعلى التنسيق الواجب بين الجيش والمقاومة، وعلى الدور الهام الذي قام ويقوم به العماد ميشال سليمان والجيش اللبناني في خدمة الوطن والمواطن معاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق