الاثنين، مايو 05، 2008

خطاب التنوير بين حق الوجود ودعوات الإلغاء

سعيد الحمد
كاتب واعلامي من البحرين

هي بعض ومضات.. وهي بعض اضاءات من الخطاب التنويري والعقلاني العربي هذه التي بدأت تحاول اختراق جدار خطاب الوصاية والقمع والمنع.. خطاب التشدد والتعصب والتطرف. ولقد كان متوقعا ان يكون رد فعل »خطاب التشدد والوصاية والقمع والمنع« بهذا الحجم وبهذا الشكل.
فهو حين تداعى وتنادى للوقوف امام ومضات التنوير والعقلانية ليقمعها ويمنع اقوالها.. فانما كان يمارس وكان يعكس حقيقته وجوهره كخطاب قام على اساس رفض الآخر والغائه.
وهو كخطاب وصاية وخطاب تشدد وتعصب قد فرض هيمنته وسطوته طوال ثلاثة عقود من الزمان العربي.. سادت فيها اساليبه وآلياته وافكاره وطروحاته وايديولوجيته. واستطاع خطاب القمع والمنع والتشدد طوال سنوات سطوته ان يصوغ ويشكل الوعي العام والعقل الجمعي والاجتماعي على خلفية »ثقافته« فخضع الجميع لتلك الثقافة ولتلك الافكار التي يطرحها خطاب صادر كل الخطابات وظل وحيدا في الساحة. استطاع خطاب التشدد والقمع والمنع ان يلغي الحوار ويغيب العقل لصالح النقل فصادر الابداع العقلاني واحل الاتباع محاصرا الجميع داخل اسواره التي اقامها على اطلال ماكان لنا من عقلانية واستنارة.
وكان لابد »للعقل« الذي نشأ في مناخ القمع والمنع من ان يترجم نفسه في مسلكيات وفي مشهد الواقع حيث اشتعل الواقع العربي في اكثر من مكان باحداث عنف متشدد وارهاب متطرف غطت فيها الدماء البريئة على امكانات الحوار. وكان السؤال لمصلحة من يجرى ما يجري.. ولمصلحة من تقوض مكتسبات وطنية تقدمية ماكانت لتكتسب لولا الرؤى الحضارية ولولا الثقافة العقلانية المستنيرة ولولا الوعي الحضاري العام طوال تاريخنا المعاصر. واليوم حين ضاقت السبل واغلت الطرق وحل التخلف مكان العلم والمعرفة وصار التفكير تهمة والسؤال زندقة واصبح العقل هرطقة في تنظيرات صبية الجهل الجديد..
كان لابد للتنوير العقلاني من ان يقول كلمته وان يعرض فكرته عله ينقذ مايمكن انقاذه قبل ان يتقوض المجتمع المدني. ولكن.. ما ان صدرت بعض خطابات وبعض كلمات من الفكر العقلاني المستنير حتى تداعت وتنادت جميع اطراف وقوى خطابات القمع والمنع والتشدد والتعصب لاسكات صوت العقل.
لم تقل لنا اطراف التشدد والتعصب لماذا هي ترفض الاخر؟ ولماذا لم تحاوره افكاره وطروحاته ولم تجب عن الاسئلة.. بل بادرت سريعا الى قاموسها المعروف لتنتزع منه قائمة التهم المعدة سلفا لتدمغ بها خطاب التنوير ولتدين بتشددها خطاب العقلانية. انهالت التهم جزافا خلف عناوين تضليلية بدأت بالعمالة مرورا بالماسونية واليهودية وصولا الى التكفير والتأثيم والتجريم والتحريم.. ناهيك عن »تهمة« العلمانية التي اصبحت »جريمة« الجرائم بحكم منطوق خطاب القمع والمنع. وهكذا فقد استطالت واتسعت قائمة المطلوبين »للحساب« قبل يوم الحساب.. فشملت فيما شملت معظم المفكرين العقلانيين والمستنيرين والكتاب والصحفيين وفناني المسرح والسينما والتلفزيون والتشكيليين وجميع المبدعين.
وقد لوحظ ان قائمة »المطلوبين« تطال كل من له علاقة بتشكيل وبتكوين الوعي العام الاجتماعي، وتشمل وتطال كل من امتلك جرأة السؤال او بادر الى دعوة للحوار او انتقد اسلوبا من اساليب خطابات التشدد والقمع والمنع المتعصب والمتطرف وهو الخطاب الذي اعتبر نفسه واعتبر فكره فوق افكار البشر اجمعين مضفيا على اجتهاداته البشرية »قداسة ليست لها حتى يضمن عدم النقد وعدم المساءلة وعدم المراجعة وهنا نسأل لماذا يمنع خطاب التعصب والقمع والمنع المتشدد لماذا منع الآخرين من الاقتراب من أسواره وأبوابه ولماذا يرفض الحوار العقلاني المستنير..
وأين اختفت دعوات »التسامح« الاستهلاكية.. ولماذا يصادر حق الآخر في الحوار وفي التعبير عن آرائه من خلال المنابر التي طالما احتكرها خطاب التشدد والقمع والمنع المتعصب. ولماذا اليوم واليوم بالذات أصبح كل شيء »محرما« ومجوناً وفساداً وانحلالاً«.. ولماذا هذا الهجوم الكاسح على كل شكل من أشكال الفن.. هل لأن الفنانين رفضوا بشكل او بآخر أن يكونوا جزءاً من خطابات القمع والمنع المتعصب.. ولهذا استحقوا الشتم والسب والتشهير بهم ومنع أعمالهم وتحريم حفلاتهم ومصادرة ابداعاتهم بأي شكل كانت!!؟؟
لن نعود هنا الى عرض تاريخي معاصر أو قديم لتقصي الاسباب والمسببات التي أدت في ختام المطاف لسيطرة خطاب القمع والمنع المتشدد والمتعصب.. فالجميع يعلم أن السيطرة والهيمنة كانت نتيجة وافرازاً لأوضاع معينة تراكمت وتراجعت ولأزمات استحكمت ولهزائم أعلنت.. استفاد منها خطاب القمع والمنع المتعصب والمتطرف ليفرض ايدلوجيته وليفرض أساليبه مقصياً كل التلاوين الأخرى حتى دخل بنا الى نفق التطرف المقيت فكان ما كان من ارهاب مدمر.
والسؤال الذي يطرح نفسه ونحن نقف أمام كارثة التطرف والتعصب والتشدد هو الى أي مدى ستستجيب سلطة القرار العربي الرسمي لدعوات القمع والمنع التي تطالب بإسكات الآخر وبإلغائه ومصادرته واخراجه من الساحة. والى أي مدى ستستجيب سلطة القرار العربي الرسمي الى مثل هذه الدعوات الاستلابية والالغائية..
لاسيما وأن أمام هذه السلطة النتائج المريرة لتجربة هيمنة وسيطرة ايديولوجيا التعصب والتشدد والتطرف التي قادتنا الى مأزق دموي تمثل في الأعمال الارهابية الخطيرة والكارثية التي مازالت تهدد وجودنا جميعاً.
نتمنى لو أن سلطة القرار العربي الرسمي تأملت ما يطرحه خطاب الاستنارة والعقلانية العربية بتفكير منفصل كل الانفصال عن الأحكام الجاهزة المسبقة والسابقة..
فقد تغير وتبدل كل شيء من حولنا وبالتالي لابد وأن تتغير أحكامنا، مقاييسنا لتتناسب وتنسجم مع مجريات التغير والتحول. ولو حاولت سلطة القرار العربي الرسمي الاقتراب والتقارب الحقيقي من خطابات العقلانية والاستنارة بمعزل عن تراكمات الماضي وبمعزل عن دسائس خطابات التشدد والتعصب الوصائي لاستطاعت أن تفهم وأن تتفهم وأن تكتشف أن الخطاب العقلاني المستنير لا يسعى الى الانفراد بسلطة ولا بحكم ولا ينوي الا الى اقامة المجتمع المدني مجتمع المؤسسات والقانون والحقوق.
خطاب الاستنارة العقلانية لو قرأه النظام العربي الرسمي بعقل غير متوجس وبروح منفتحة تسع الجميع.. لوجد فيه خطاباً يدعو الى تكافؤ الفرص والى العدل والمساواة في المواطنة بين الرجال والنساء والى اشاعة الديمقراطية بوصفها صمام الأمان أمام طوفان التشدد والتعصب والارهاب الذي يهدد مجتمعاتنا وأنظمتنا بحماية شرعية الدستور وشرعية القانون وشرعية المؤسسات وشرعية المشاركة في صنع القرار وتحديد المسار بحسب الأصول السلمية المؤسساتية التشريعية والقانونية التي تحافظ على السلم الأهلي وتحافظ على الأنظمة من خلال تطويرها وتجديدها لتغلق الباب وتوصد الثغرات أمام الفكر الانقلابي الدموي الذي يقوم على التعصب والتشدد والتطرف وصولاً الى الارهاب من أجل تمكين مشروعه.
ما يدعو اليه خطاب الاستنارة والعقلانية ليس بدعة ولا ضلالة وليس تجديفاً ولاهرطقة وليس فساداً أو انحلالاً كما يشيع ويذيع خطاب التعصب والتشدد الذي قادنا الى الكوارث الكبيرة. خطاب الاستنارة والعقلانية يدعو الى اقامة دولة المؤسسات والدستور التي أثبتت تجارب الدول المتقدمة أنها الطريق الى الأمن الاجتماعي والى الاستقرار الوطني الذي فتح الآفاق للاستمرارية وللتطور وللنمو وللبناء دون صدامات دموية خطيرة تأخذ اليها أساليب التعصب والتشدد والتطرف التي ينتابها ويعمل بها خطاب الوصاية وخطاب القمع والمنع الذي يريد فرض برنامجه ومشروعه الخاص دون أن يراعي تنوع وتعدد مجتمعاته.

ليست هناك تعليقات: