الخميس، سبتمبر 04، 2008

من أجلك يا سيدتي

عطا مناع

كأن أمي بعثت للحياة بعد أن غيبها الموت منذ أكثر من 15 عاما، عندما رأيت تلك السيدة الثلاثينية في مكتب مدير الخدمات في المخيم داهمني رعب دفين تسلل في جسدي ليفجر مرحلة لا تنسى من الحرمان والفقر والصراع من اجل البقاء في تلك البقعة المسماة بالمخيم الذي كان ولا زال لعنة تلاحق من سكنة، وكان الرب حكم علينا نحن اللاجئين بان نعيش الجحيم الأبدي عقابا لنا على الخروج من جنتنا فلسطين والارتضاء بالمخيم ملاذا لنا.

قالت السيدة الثلاثينية لمدير المخيم بذل ورجاء وألم لقد انكسر ظهري من العمل في المدرسة أتمني عليك أن تنقلني إلى عمل اقل تعبا، وكان رد السيد المدير وبلطف شديد... أنا لا املك القرار في نقلك فالأمر يعود إلى مديرة المدرسة، تحدثي معها وأنا متأكد أنها ستتعاطف معك، شكرته السيدة على لطفه واقتنعت مرغمة بردة وخرجت بهدوء من المكتب على أمل أن تتعاطف معها مديرة المدرسة في المخيم.

تلك السيدة ليست موظفة في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، وهي تعمل ضمن برنامج الطواريء الخاص بالمخيمات والذي يتيح للبعض فرصة عمل لثلاثة اشهر في أحدى مؤسسات المخيم لمواجهة البطالة والفقر الذي يجتاح المخيم الذي لا يختلف كثيرا عن المخيمات الفلسطينية في الوطن والشتات حيث الحاجة والموت المبكر بفعل المرض والاحتلال، فالمخيمات الفلسطينية تتقاسم الهم المشترك وما لا يخطر على بال الإنسان من أمراض الضغط والقلب والسكري والفساد واهم ما يجمع بينها مقابر الشهداء المنتشرة على أطرافها.

خرجت السيدة الثلاثينية من المكتب وخلفت وراءها أجواء من الصمت الذي لم يدم طويلا، لكنها أعادتني عقود إلى الوراء حيث معاناة الرعيل الأول من اللاجئات الفلسطينيات اللواتي كن يقطعن عدة كيلوا مترات ليوفرن تنكه الماء ويجبن الجبال لساعات طويلة لجمع الحطب لاستخدامة في الطبخ وشؤون البيت الأخرى ناهيك عن الاتجار به لتوفير عدة قروش لتوفير وجبة فقيرة للأفواه الجائعة التي تعيش يومها وتعتقد مخطئة أن العدس لحمة الفقراء الذين لم يخجلوا يوما من فقرهم ولباسهم المرقع بسبب وحدة حالهم ولقناعتهم أن الموت مع الجماعة رحمة في مجتمع منسجم طبقيا ونفسيا، كان ذلك في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تلك السنيين التي لا يمكن مقارنتها بهذه الأيام التي قسمت المقسم وفتت المفتت، أيام ساد فيها قانون الفتونه والعربدة والتحكم بلقمة البشر ولحمها وعرضها في سوق المرحلة واستخدامها مادة للتسول الدنيء والتعامل من أبناء الجادة بفوقية مقيتة من الباشا الذي يفترض أنة مجبول من نفس الطينة التي تواجه تقلبات الزمن في انتظار العودة.

لا عودة في المدى المنظور ولا أمل في قيادة تمنح الإسرائيلي وعد بلفور فلسطيني جديد، والصمت يخيم على باشاوات اللاجئين الذي أتخموا وعاشوا ليومهم اللهم يضحكون علينا بالشعارات التي لا حياة فيها، وان جد الجد لا تحرك لهم قناة ولا يقلون كلمة الحق في وجه السلطان الذي يرمي لهم بالعظمة التي هي ثمن صمتهم، وللحقيقة أنهم يلعبون دورهم بإتقان وتفاني ويشاركون عن قصد في إسدال الستارة على مرحلة دفع الشعب خلالها الثمن الكبير، مرحلة تدفعنا الوراء عقود وتعود بنا لنقطة البداية في ظل عملية تشكيك وشراء الذمم والتخريب الغير مسبوق.

اليوم تجتاح فلسطين ومخيماتها موجه عاتية من الفقر والإفقار التي تستهدف مصادرة الحلم الفلسطيني الذي عجزت قوى العالم الجبارة عن النيل منة، موجة الفقر تلك تكاد تنال من قطاعات واسعة من الفلسطينيين التي قهرت بالفقر الغير مسلح بالوصفة السحرية التي تمنح الإنسان قوة جبارة في الدفاع عن ذاته، قوة قوامها الفكر الذي يصقل ألذات ويحول القوة الكامنة في جموع الفقراء لمعين لا ينضب من المقاومة وإيمان لا يهتز بان المستقبل لنا.

قد تكون في أوساطنا حالات إنسانية بحاجة للتعاطف معها ومد يد العون لها لمواجهة فقرها، ولكننا كلاجئين لن نقبل إن نتحول لمجموعة بشرية تعيش ظروفا إنسانية لأنها شردت من أرضها وبالتالي يمن الإسرائيلي على بعضها بعودة مشوهة، قضيتنا بالأصل سياسية تأخذ إبعاد وطنية وتاريخية ولا يحق لأي كان مهما على شأنه أن يفتي بحق أجمعت علية الشعوب بأنة حق شخصي لا يسقط بالتقادم.

ليست هناك تعليقات: