الاثنين، سبتمبر 01، 2008

باكستان تتجه مرة أخرى نحو المجهول


د. عبدالله المدني
قد يعتبر البعض أن هذا المقال جاء متأخرا أو كان من المفترض أن يأتي مباشرة بعد الصفقة الغريبة وغير المتوقعة والتي بموجبها خرج رجل باكستان القوي الجنرال برويز مشرف من السلطة مقابل عدم تقديمه للمحاكمة أو المساءلة. غير أن الكتابة عن هذا البلد الذي وضعته الأقدار على مرمى حجر منا نحن في الخليج العربي فجعلتنا بالتالي عرضة للتأثر باضطراباتها وتطوراتها تبقى صالحة في أي وقت.

حلقة في مسلسل طويل

والحقيقة أن ما حدث في الأسبوع الماضي في هذا البلد ليس سوى حلقة في مسلسل طويل من اللااستقرار والاندفاع بتخبط نحو المجهول، و الذي بدأ منذ اليوم الأول لقيامه في عام 1947 ككيان مقتطع من الهند التاريخية. ولعل ما ساعد على ذلك أن القادة الكبار الذين تزعموا عملية خلق هذا الكيان والترويج له في أوساط مسلمي شبه القارة الهندية، وعلى رأسهم محمد علي جناح، سرعان ما اختفوا عن المسرح السياسي لسبب أو لآخر، مما افقد السلطة بوصلتها وافقد الجماهير زعماءها الملهمين.

سؤال واحد محدد

في الأسبوع الماضي، اتصلت بي إحدى وسائل الإعلام المرئية الاجنبية لتسألني سؤالا واحدا قصيرا محددا – وليس مثل ما يفعله نجوم الإعلام العربي ممن يحاولون في العادة استعراض ثقافتهم أمام المشاهد من خلال طرح أسئلة تزيد أطوالها عن الإجابة بمرات ومرات – هو: " إلى أين تمضي باكستان في رأيك؟"، فكان جوابي على الفور: أنها ماضية نحو المجهول، وان من يرجم برويز مشرف اليوم لربما ترحم عليه غدا جراء ما يلوح في الأفق من مخاطر صعود المد المتطرف واشتداده وعودة نفوذ طالبان والقاعدة إلى مناطق الشمال الغربي بأضعاف ما كان في السابق وانقسام القوى السياسية المدنية فيما بينها على الغنائم والمناصب وتدهور الاقتصاد إلى مستويات غير مسبوقة. وقد تأكد ما قلته بسرعة لم أكن أتوقعها في حينه. فالتحالف الهش ما بين اكبر قوتين في البرلمان الجديد، ونعني بهما حزب الرابطة الإسلامية بقيادة رئيس الوزراء الأسبق نواز شريف وحزب الشعب بقيادة آصف علي زرداري زوج رئيسة الحكومة الأسبق بي نظير بوتو انفض هذا الأسبوع بسبب خلافات عميقة حول إعادة القضاة الذين فصلهم الجنرال مشرف في العام الماضي وربما أيضا بسبب خلافات أخرى تتعلق بمنصب رئيس الدولة الشاغر الذي يطمح زرداري إلى شغله حينما يتم التنافس عليه في السادس من سبتمبر / أيلول المقبل، فيما يريده نواز شريف لأحد أتباعه المقربين مثل رئيس القضاة الأسبق سعيد الزمان صديقي، إضافة بطبيعة الحال إلى الخلافات التقليدية ذات الجذور الإقطاعية والإيديولوجية وما فعله كل طرف بالآخر في الماضي من مهانة وإذلال. وسقوط هذا التحالف لن يؤد بطبيعة الحال إلى سقوط الحكومة الحالية فورا ودخول البلاد في فراغ سياسي نظرا لامتلاك حزب الشعب وحلفائه الممثلين في جماعة مولانا فضل الرحمن للأغلبية البرلمانية البسيطة، غير انه ليس من المستبعد حدوث ذلك في فترة قريبة كنتيجة لاختلاف هذين الطرفين الحليفين حول المناصب والتشريعات، لا سيما أن احدهما علماني والآخر متشدد دينيا. وعمليات حركة طالبان الباكستانية وأعوانها عادت بزخم اكبر في أفغانستان وفي المناطق القبلية الشمالية الغربية من باكستان، موقعة إصابات خطيرة في صفوف الجيش النظامي، بل وأيضا جارحة معنوياته التي لم تلتئم بعد من رؤية قائده الأعلى (برويز مشرف) ينهزم أمام الساسة المدنيين في آخر جولة من جولات صراع الطرفين – والتي بدأت في منتصف الخمسينات، ودليلنا هو انه في اليوم الذي أعلن فيه مشرف تركه للسلطة قتلت طالبان عشرة جنود فرنسيين وأصابت 21 عنصرا منهم في كمين اعد بإتقان على بعد نحو 50 كيلومترا إلى الجنوب من كابول. هذا ناهيك عن الأدلة الأخرى المتمثلة في: سلسلة التفجيرات التي شهدتها ثانية اكبر القواعد العسكرية الأمريكية في أفغانستان وتحديدا قاعدة خوست التي تبعد 20 كيلومترا من الحدود مع باكستان، والهجوم الذي قام به طالبانيو باكستان ضد وكالة أمنية فقتلوا العديد من عناصرها، والعملية الانتحارية التي استهدفت تجمعا للشيعة الباكستانيين في "ديرا إسماعيل خان في إقليم الحدود الشمالية الغربية. هذه التطورات وغيرها دفعت إحدى الصحف المحلية الانجليزية إلى الخروج بمانشيت عريض نصه: " غود باي مشرف.. هاللو طالبان". أما تدهور الشأن الاقتصادي فنترك وصفه لمراسلة هيئة الإذاعة البريطانية (البي بي سي) في باكستان والتي قالت: أنها، رغم انتدابها الطويل هناك، فإنها، لم تر من قبل مشاهد كمشاهد الاسبوعين الماضيين لجهة نقص السلع الأولية والمواد الغذائية ووقوف الباكستانيين في طوابير لا نهاية لها وتناحرهم حول الحصول على الطاقة أو كيلو غرام من الدقيق.

ماذا سيكتب المؤرخون عن عهد مشرف؟

الذين سوف يتصدون لتأريخ عهد مشرف أو تأريخ أحوال باكستان في العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول للألفية الثالثة سيكتبون لا محالة أن الرجل الذي جاء إلى السلطة في انقلاب ابيض وصار أول زعيم للبلاد وقد تحولت رسميا إلى دولة نووية معلنة، بدأ عهده بالتحرش بالجارة الهندية – ربما دفعا أو تبرئة لنفسه من جذور أسرته العائدة إلى منطقة بالقرب من دلهي – فكان ما عرف بنصف الحرب في مرتفعات " كارغيل" الجليدية في عام 1995 ، وانتهى عهده والعلاقات الباكستانية- الهندية في أفضل أحوالها منذ تقسيم شبه القارة الهندية، وذلك كنتيجة لمعطيات داخلية ودولية عدة فرضت على البلدين أنماطا معينة من التعامل والتعاون والاتصال.

وربما كتب المؤرخون أن عهد الرجل لم يكن سوى مزيج من عهود أسلافه العسكريين الذين يتميز عنهم فقط من ناحية تواضع جذوره الأسرية و عدم انتمائه إلى أصول قبلية أو إقطاعية، فعهده كما هو معروف بدأ في زمن تحالفات ما بعد الحرب الباردة وبروز القطب الأوحد أي كعهد الجنرال اسكندر ميرزا في منتصف الخمسينات الذي بدأ مع قيام الحرب الباردة وأحلافها واستقطاباتها. وهو من ناحية أخرى جاء كعهد الماريشال محمد أيوب خان أي كرد فعل على تفشي الفساد والإقطاع والتسيب وغيره مما بذره الساسة المدنيون الإقطاعيون. أو جاء كعهد الجنرال محمد ضياء الحق، الذي أتى به الغرب الحليف لحمل لواء الجهاد ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان، مع اختلاف الهدف بطبيعة الحال والمتمثل في حمل راية محاصرة ومقاومة ذلك الإرهاب الذي لولا رعاية نظام ضياء الحق والغرب وحلفائهما له لما نما وترعرع ومدد أنيابه.

أما لجهة سياساته وبرامجه ، فالحقيقة أنه ككل أسلافه صعد إلى السلطة تسبقه الوعود الوردية بمستقبل زاهر للبلاد وشعوبها، ولينتهي عهده إلى العكس تماما. وفي هذا السياق يمكن القول أن الرجل امتلك حين مجيئه إلى الحكم في عام 1990 برامج واضحة للنهوض بالاقتصاد الوطني ومحاربة الفساد والاحتكار والرشوة والتهرب الضريبي، بل حقق فيها بعض النجاحات، قبل أن تتعثر تلك البرامج بفعل تضامن بعض القوى المستفيدة من الأوضاع السابقة ضدها وقيام هذه القوى باستغلال شعارات مثل "لا لحكم العسكر" و " نعم لعودة الحكم الديمقراطي" لتجييش الشارع والطبقة الوسطى تحديدا ضد مشرف ونظامه. ومن برامج الجنرال مشرف التي لم تتحقق للأسف بسبب وقوف نفس تلك القوى المدنية المذكورة ضدها وبفضل ترديدها لنفس الشعارات: وضع باكستان على سكة الدولة العلمانية، أي كما أراد لها القائد المؤسس محمد علي جناح، لكن العمر لم يطل به ليحققه، أو كما هو معمول به في تركيا حيث عاش مشرف سنوات صباه ومراهقته وتأثر بأنماط الحياة والمجتمع والفكر المعتدل. وقد عد هذا بمثابة انتصار للقوى المتشددة والمتطرفة، ساهمت به الطبقة الوسطى المتعلمة من حيث لا تدري من خلال ترددها في تقديم الدعم الحاسم لمشرف. هذا الدعم الذي ربما كان حجبه يعود أيضا إلى شعور الكثير من الباكستانيين بالمرارة والاستياء وهم يشاهدون نظامهم ورئيسهم وقائد جيشهم لا يحرك ساكنا أمام قيام قوات أجنبية بقصف أراض وقبائل باكستانية تحت يافطة " محاربة الإرهاب"


غلطة مشرف القاتلة

لعل غلطة مشرف القاتلة هي انه حاول اللعب على أكثر من حبل أو بعبارة أخرى خداع الدولة الحليفة الكبرى بالظهور في مظهر من يقف بثبات إلى جانب سياساتها وعملياتها ضد الإرهاب والمتشددين الإسلاميين من جهة، والمحافظة من جهة أخرى على خطوط اتصال مع القوى المتشددة وأعوانها داخل مؤسستي الجيش والاستخبارات النافذتين، بل وترتيب اجتماعات وتفاهمات وصفقات معها على نحو ما حدث من ترتيب هدنة في وزيرستان قبل اشهر ما بين الحكومة وزعماء القبائل المتعاطفة مع حركتي طالبان وتنظيم القاعدة. هذه الغلطة ربما سارعت في سحب الغطاء الأمريكي عن نظام مشرف وتركه يواجه مصيره أمام خصومه دون دعم، تماما مثلما حدث مع الجنرال محمد ضياء الحق الذي حينما أراد أن يلعب دورا إقليميا اكبر من حجمه ومن حجم دولته تم التخلص منه في حادثة الطائرة الغامضة في عام 1989 ، لينفتح الطريق أمام عودة الحكم المدني الديمقراطي ولتبدأ حقبة أخرى من المماحكات السياسية المعطوفة على اللااستقرار والفساد والخلل الاقتصادي. ومما قيل أيضا في سياق فشل سياسات وإجراءات مشرف ضد الإرهاب هو اعتماده على العناصر البشتونية داخل المؤسسة العسكرية من منطلق أن هؤلاء اقدر على التفاهم مع أبناء المناطق المستهدفة بالعمليات واقدر على التأقلم مع أوضاعها، فكانت النتيجة معاكسة تماما. حيث ثبت أن الروابط القبلية أشد من روابط الولاء لمؤسسات الدولة، بدليل أن سقوط أو اسر أي ضابط من قبل الخصوم كان يؤدي في الغالب الأعم إلى استسلام عناصر مفرزة الأخير بأكملها واندماجها مع العدو. أما العناصر البنجابية في الجيش والتي تشكل الأغلبية من حيث العدد والأفضلية من حيث التجهيز والتدريب، فلم ترسل للمشاركة في الحرب ضد الإرهاب بدعوى أنها لا تتقن لغة البشتون ولا تعرف طرق التعامل معهم.

ليست هناك تعليقات: