الأحد، سبتمبر 21، 2008

الانقسام يفاقم تاكل "الشرعية" الفلسطينية

نقولا ناصر

(تبدو قيادة المنظمة مصممة على تضييق الحصار على حماس باستمرار قصفها ببدائل تخيرها بين الاقتراح المكرر باجراء انتخابات مبكرة تقصر عمر ولايتها "التشريعية" وبين استمرار تجميد هذه الولاية بتمديد ولاية الرئاسة حتى انتهاء الولاية التشريعية لحماس اوائل عام 2010)

مع اقتراب انتهاء ولاية الرئيس لفلسطيني محمود عباس تزخر وسائل الاعلام بتصريحات النخب الفلسطينية في جدل بيزنطي ساخن ، الغائب الوحيد فيه وعنه هو المواطن العادي ، حول الشرعية الفلسطينية وشرعيات قادتها ، وهو جدل لا يقل عبثية عن مفاوضات "السلام" العقيمة الكامنة هي ومحتواها في صلب هذا الجدل ، مما يعكس تفاقم الانقسام الفلسطيني من ناحية ويزيد في حدته من ناحية اخرى ، لكن الاهم انه جدل يفاقم من تاكل الشرعيات الفلسطينية جميعها لتكون الحصيلة المؤكدة تاكلا في شرعية "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني" ، أي منظمة التحرير الفلسطينية التي ما زال الاعتراف العربي والعالمي بها ، بعد تضحيات جسيمة لانتزاع هذا الاعتراف ، هو الانجاز الاهم وربما الوحيد للنضال الوطني الفلسطيني طوال القرن العشرين الماضي وحتى الان .

ويدور هذا الجدل البيزنطي العقيم بينما ما زال الاحتلال هو المرجعية الوحيدة التي تمنح الشرعية لمن تقرر انه "شريك" لدولة الاحتلال الاسرائيلي في التفاوض او تحجب الشرعية عمن تقرر انه ما زال بحاجة الى "تاهيل" ليكون شريكا لهذه الدولة في التفاوض ، وبينما الراعي الاميركي الاستراتيجي لامن هذه الدولة وامن احتلالها معا ما زال يعتبر اعترافه بشرعية منظمة التحرير وتمثيلها للشعب الفلسطيني وكذلك اعترافه ب"السلطة الفلسطينية" المنبثقة عن اتفاق اوسلو الموقع معها عام 1993 امرا "مؤقتا" ومشروطا باستمرار التزامها بحسن السيرة والسلوك السياسي حسب الشروط الاسرائيلية .

واحد الادلة الدامغة على "بيزنطية" هذا الجدل لجوء الرئيس الاميركي كل ستة اشهر (180 يوما) الى تعليق قرار للكونغرس بتخفيض مستوى "وضع مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الولايات المتحدة" الذي ما زال غير مؤهل للارتقاء الى مستوى سفارة تمثل دولة بالرغم من التبجح المتكرر للرئيس الحالي جورج دبليو. بوش وتبجح كبار مسؤولي ادارته بانه كان اول رئيس اميركي يتبنى رسميا "رؤية" حل الدولتين للصراع العربي الاسرائيلي في عقدته الفلسطينية وبالرغم من مراهنة منظمة التحرير على هذه "الرؤية" حد اعتماد الشروط السياسية للتعامل معها "مرجعية" لشرعية القوى الوطنية الفلسطينية تؤهلها او لا تؤهلها للمشاركة في المؤسسات الفلسطينية تحت الاحتلال خشية ان لا يجدد الرئيس الاميركي تعليق قرار الكونغرس ذاك وبالتالي يعاد فرض الحصار الاميركي – الاسرائيلي الذي فرض اثر نجاح حماس -- "غير المؤهلة" لاعتبارها حركة "شرعية" -- في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الاخيرة .

ان لراي شخصية قانونية مثل عميد كلية الحقوق بجامعة النجاح سابقا احمد مبارك الخالدي وزن كبير في الجدل الدائر اولا لانه يعتبر "ابو الدستور" الفلسطيني كونه كان رئيسا للجنة صياغة "القانون الاساسي" الذي يتفق قطبا الانقسام الفلسطيني على الاحتكام اليه كمرجعية لحل خلافاهما حول "الشرعية" ، وثانيا لان عليه توافق وطني بدليل اتفاق فتح وحماس على توليه منصب وزير العدل في حكومة الوحدة الوطنية التي انبثقت عن اتفاق مكة . وقد عارض الخالدي التمديد للرئيس عباس وحذر من تلويح الرئاسة بحل المجلس التشريعي الحالي باعتبار الاجرائين مخالفة دستورية للقانون الاساسي المعدل عام 2005 ، الا عبر الانتخابات والتوافق الوطني ، واكد ان المرسوم الرئاسي بقانون للتزامن بين الانتخابات الرئاسية والتشريعية ، الذي ابطله المجلس التشريعي الذي تسيطر حماس عليه ، هو مخالفة دستورية لان القانون الاساسي دستور لا يعدل بقانون عادي .

ويعكس تحذير الخالدي سجلا طويلا من العبث القانوني الفلسطيني لا يتسع المجال لاستعراضه بدءا من هندسة قانون خاص لانتخابات اللون السياسي الواحد عام 1996 وانتهاء بقانون التزامن بين الانتخابات التشريعية والرئاسية اذ جرت العادة على سن القوانين وتطويعها في فترات زمنية متقاربة تعتبر غير مالوفة في التشريع العالمي اما لاضفاء الشرعية على استمرار احتكار اجتهاد وطني واحد للسلطة او لحماية "عملية سلام" لم تصادق عليها المؤسسات التمثيلية للمنظمة ولفتح ولا تحظى بالتاييد الشعبي .

وتتحمل منظمة التحرير المسؤولية الاولى عما ال اليه وضعها وشرعيتها ، ولا تعفيها من هذه المسؤولية الحملة المركزة الحثيثة التي تشنها قيادتها الحالية لتحميل حماس هذه المسؤولية ، اذ ان التاكل في شرعيتها اقدم كثيرا من دخول حماس الى المشهد الرسمي الفلسطيني قبل عامين تقريبا ، كما ان عوامل تاكل شرعيتها تكمن في انقلاب المنظمة عام 1988 على استراتيجتها الاصلية وميثاقها الاصلي وهو الانقلاب الذي نقل مرجعية شرعيتها من المقاومة والتحرير وعودة اللاجئين (الشرعية الثورية) الى السلام عبر التفاوض كخيار استراتيجي كمرجعية لشرعيتها تحظى بالاعتراف او عدم الاعتراف الدولي بها على اساسه .

ويكفي هنا التذكير بانتهاء ولاية المجلس التشريعي السابق لسلطة الحكم الذاتي وانتهاء ولاية الرئاسة السابقة لهذه السلطة وانتهاء ولايات اللجان التنفيذية للمنظمة وحركة فتح التي تقودها نتيجة لمماطلة هذه اللجان المستمرة في عقد المجلس الوطني الفلسطيني والمؤتمر الحركي لفتح (الذي تاجل الاعلان عن انعقاده عام 2005 ثم تاجل الاعلان عن انعقاده في حزيران / يونيو الماضي وسوف يتاجل على الارجح الاعلان عن انعقاده قبل نهاية العام الحالي) وقد كان كل هذا التعطيل المدروس للمؤسسات التمثيلية الفلسطينية شرطا مسبقا لاستمرار المفاوضات العقيمة ولتمرير اتفاق اوسلو والاتفاقيات "الموقعة" اللاحقة المنبثقة عنه التي فرضتها هذه اللجان التنفيذية مرجعية جديدة لشرعية المشاركة في الحياة السياسية الفلسطينية وفي صنع القرار الوطني .

واي مراجعة تاريخية سوف تسجل على المنظمة فشلها في تحقيق برنامجها الاصلي الذي استمدت منه شرعيتها مما كان يستدعي رحيل القيادة المسؤولة عن هذا الفشل وعن الانقلاب على ذاك البرنامج ، لكن المفارقة ان هذه القيادة نفسها قد "ضمنت" استمرارها باعتراف "العدو" الاسرائيلي "السابق" وراعيه الاميركي بها لكي يتحول هذا الاعتراف الى مرجعية لشرعيتها لم تعد بعدها بحاجة الى مرجعيتها "التورية" القديمة التي حملتها اصلا الى قيادة منظمة التحرير .

فهذا الانقلاب الاستراتيجي -- الذي انجز مفاوضات لكنه بعد عشرين عاما اليوم لم ينجز سلاما وفشل ايضا في تحقيق الحد الادنى من الاهداف المعلنة له في المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر عام 1988 -- قد افسح من ناحية المجال لافراز قوى وطنية عادت الى المقاومة والتحرير والعودة كمرجعية تستمد منها شرعيتها ، خارج اطار منظمة التحرير ، وقاد من ناحية اخرى الى تعليق وتهميش منظمة التحرير نفسها وميثاقها ومؤسساتها التمثيلية ، ومثلها حركة فتح التي تقودها .

وقاد ذلك الى الوضع الراهن الذي تطالب فيه القوى التي ولدت خارج رحم منظمة التحرير ب"تفعيلها" منذ تمخض الحوار الوطني الفلسطيني عن اتفاق القاهرة اوائل عام 2005 ، وهي المطالبة التي تجهد قيادة المنظمة للمماطلة في تلبيتها وفي المناورة لافراغها من مضمونها على امل ان ينجح الحصار السياسي والعسكري و"الشرعي" المفروض على المطالبين بها في ترويضهم حتى "التاهل" لاكتساب الاعتراف الاميركي – الاسرائيلي ب"شرعيتهم" . وهنا مكمن "ازمة الشرعية" الفلسطينية الراهنة الذي يغطي عليها الجدل "القانوني" و "الدستوري" البيزنطي الدائر حاليا حولها .

ولا بد من الاعتراف بداية اولا ان الازدواجية السياسية التي انتجتها الانتخابات التشريعية اوائل عام 2006 والتي انهت احتكار فصيل واحد لصنع القرار الوطني وادخلت حماس الى المشهد السياسي الفلسطيني الرسمي قد كانت حافزا لبدء موحلة جديدة تكون فيها الانتخابات الرئاسية والتشريعية دورية تضمن تداول السلطة على اسس دستورية وقانونية ، ولا بد من الاعتراف بداية ثانيا بان ازمة الانقسام الفلسطيني المستعصية حاليا ناجمة اساسا في عواملها الداخلية عن مقاومة شرسة تحاول منع مثل هذا التطور النوعي في الحياة السياسية الفلسطينية الداخلية .

ويتفق الفلسطينيون اليوم على ان ولاية الرئيس القلسطيني محمود عباس تنتهي في التاسع من شهر كانون الثاني / يناير المقبل لكنهم يختلفون على ما سيحدث بعد ذلك اختلافا يخلق بلبلة بقدر ما يعكس حالة البلبلة التي تعيشها قياداتهم المتصارعة على سلطة لا تملك من امرها شيئا ، وعلى شرعية تحيط البلبلة بمرجعيتها ، بينما تشير كل الدلائل الى ان منظمة التحرير ماضية في طريق يزيد من البلبلة والانقسام وبالتالي من تاكل شرعيتها دون أي اشارة الى أي نية في المراجعة او التراجع عن هذا الطريق .

فعلى سبيل المثال نفت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية اثر اجتماع لها في رام الله بالضفة الغربية في الخامس عشر من الشهر الجاري تصريحات نسبتها الى حماس تحدثت عن "فراغ دستوري" بعد انتهاء ولاية الرئيس عباس في التاسع من شهر كانون الثاني / يناير المقبل باعتبارها مهاترات لا اساس قانونيا لها على الاطلاق تستهدف خلق فراغ شامل لضرب الوحدة الوطنية للشعب الفلسطيني . غير ان تنفيذية المنظمة كما يبدو قد قولت حماس ما لم تقله فحركة المقاومة الاسلامية لم ولا تتحدث عن "فراغ دستوري" ولا عن "فراغ في القيادة" بعد التاسع من كانون الثاني / يناير المقبل ، بل على العكس فانها تكرر الحث على الاحتكام الى "القانون الاساسي" الذي يضمن الاستمرارية بنقل صلاحيات الرئيس -- عند انتهاء ولايته دون تجديدها عبر انتخابات جديده تمدد ولايته او تاتي برئيس جديد غيره -- الى رئيس المجلس التشريعي لمدة شهرين يشرف خلالها على تنظيم انتخابات رئاسية كما حدث عند الوفاة المفاجئة للرئيس الراحل ياسر عرفات . ففي خطاب له في 14/8/2008 أعلن خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحماس، أن حركته لن تعترف بعد 9/1/2009 بشرعية الرئيس عباس ، ودعا إلى انتخاب رئيس جديد ، مستندا إلى أن القانون الأساسي للسلطة الذي حدد ولاية الرئيس بأربع سنوات تنتهي قانونيا في 9/1/2009.

ومن الواضح ان هذه الاشكالية "الدستورية" ما كان لها ان تكون اصلا لولا الانقسام الفلسطيني ، فهي اشكالية ناجمة عن هذا الانقسام اولا واخيرا ، وهي سوف تفاقمه ان لم تنجح الوساطة العربية عبر الرعاية المصرية المكثفة والحثيثة لها في خلق قاعدة وفاق وتوافق وطني فلسطيني على حلها ، والتشاؤم يطغى على التفاؤل بنجاح هذه الوساطة ، لان ازمة "الشرعية" الفلسطينية الراهنة هي ازمة سياسية بامتياز لا ازمة دستورية او قانونية ، وهي ازمة مرشحة للتصاعد مع اقتراب انتهاء ولاية الرئيس عباس ، لا بل ان افي ديختر وزير الامن العام الاسرائيلي قد حذر من تصاعد هذه الازمة حد الانفجار العنيف وحث قوات الاحتلال على اتخاذ اجراءات احترازية لمواجهة احتمالات انفجارها بلهجة يغلب عليها التحريض اكثر من التحذير .

ويبدو "الفراغ الدستوري" مشكلة تؤرق الرئاسة الفلسطينية اكثر مما تؤرق حماس كما يستدل من الحلول القسرية والتعسفية التي تتجه الرئاسة نحوها لمنع حدوث فراغ كهذا ، بدلا من سلوك اقصر الطرق الى حلها بالتوجه مباشرة الى حماس دون أي وساطة بعد التخلي عن شروطها التعجيزية للحوار والوفاق الوطني ، وليس سرا ان هذه الشروط هي املاءات اميركية – اسرائيلية وان استجابة حماس غير المتوقعة لها سوف تنهي تلقائيا الفيتو الاميركي الاسرائلي المفروض على الحوار بين الرئاسة الفلسطينية وبين حماس ، مما يؤكد مرة اخرى ان ازمة الشرعية الراهنة هي ازمة سياسية لا دستورية وان الجدل "القانوني" الدائر حولها لا يعدو كونه جدلا بيزنطيا يخفي الاسباب السياسية للازمة .

وفي هذا السياق تبدو قيادة المنظمة مصممة على تضييق الحصار على حماس باستمرار قصفها ببدائل تخيرها بين استمرار حرمانها من جني الثمار السياسية لانتصارها الانتخابي عام 2006 وبين تساوقها مع مرجعيات الشرعية التي ارتضتها هذه القيادة لنفسها ، وتتلخص هذه البدائل الان في تخيير الحركة الاسلامية بين الاقتراح المكرر باجراء انتخابات مبكرة تقصر عمر ولايتها "التشريعية" وبين استمرار تجميد هذه الولاية بتمديد ولاية الرئاسة حتى انتهاء ولايتها التشريعية في اوائل عام 2010 .

فعلى سبيل المثال من المقرر اجتماع المجلس المركزي للمنظمة في تشرين الثاني / نوفمبر المقبل لتجديد الثقة في الرئيس عباس عشية انتهاء رئاسته كرئيس للسلطة حتى موعد إجراء انتخابات تشريعية جديدة ، وفي العاشر من الشهر الجاري قال الرئيس عباس لصحيفة هارتس الاسرائيلية انه يعتقد بان الانتخابات التشريعية والرئاسية ينبغي ان تجري في الشهر الاول من عام 2010 ، مما يعني تمديد ولايته حتى ذلك الحين ، وفي السابع عشر منه نقلت وكالة دي بي ايه عن دائرة العلاقات القومية والدولية في منظمة التحرير أن ولاية الرئيس تنتهي بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية متزامنة وان أي حديث عن فراغ دستوري في أوائل [كانون الثاني] يناير من العام المقبل ما هو إلا مهاترات سياسية ومحاولات لإفشال الجهود المبذولة "لإعادة اللحمة بين جناحي الوطن" ، مما يعني ايضا تمديد ولايته اما حتى تنتهي ولاية المجلس التشريعي في الشهر الاول من عام 2010 او عندما يتفق قطبا الانقسام على اجراء هذه الانتخابات قبل ذلك ، ثم اكد ذلك امين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة ياسر عبد ربه بقوله لاذاعة صوت فلسطين ان الانتخابات الرئاسية والتشريعية ستجري متزامنة عام 2010 .
ان استمرار الانقسام يهز شرعية المنقسمين جميعا الذين تتاكل شرعيتهم فعلا الان ، ليس وطنيا فقط بدليل انتشار "موضة" البحث عن "طريق ثالث" تنظيمي وسياسي وحتى استراتيجي يبحث عن بديل للبرنامج الوطني الذي يقوم على حل الدولتين ، بل ودوليا بدليل اتساع نطاق الحديث عن "ضعف" الشريك الفلسطيني في المفاوضات المعترف به دوليا كممثل شرعي وحيد لشعبه .
*كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*



ليست هناك تعليقات: