صبحي غندور
مرّةً أخرى تشهد المنطقة العربية سجالاً إعلامياً حول جمال عبد الناصر الذي وافته المنيّة يوم 28 سبتمبر من العام 1970. فبعد 38 عاماً على غيابه، ما زال ناصر حاضراً في كلّ بلد عربي بأشكال مختلفة هي في معظم الأحيان تتّصف بالحبّ الأعمى أو بالحقد الأعمى، أو في بعض الأحيان بالموضوعية والتجرّد عن الهوى السياسي أو المصالح الشخصية.
ولعلّ مسلسل "ناصر" لكاتبه يسري الجندي ومخرجه باسل الخطيب، والذي تعرضه فضائيات عربية خلال شهر رمضان، قد ساهم في عودة السجال الإعلامي حول حقبة تاريخية هامّة من تاريخ مصر والعرب، وعن دور قائد عربي لم يظهر مثيله في كل فترة القرن العشرين رغم أنّه حكم مصر لمدّة 16 عاماً فقط، وهي فترة قليلة نسبياً قياساً لفترة حكم العديد من الحكّام العرب منذ استقلال أوطانهم وحتى الآن.
إذن، لِمَ هذا الاستحضار الدائم لموضوع تجربة ناصر، من مؤيّديه أو من معارضيه، رغم أنّ تجربته في الحكم كانت محدودة بمصر فقط، ورغم أنّ ناصر لم يمت مخلّفاً وراءه ورثة للحكم، كما لم يستمرّ من جاء بعده في رؤية ناصر السياسية أو مضامينها الفكرية والاجتماعية؟!
أعتقد أنّ الإجابة عن ذلك ترتبط بعناصر ثلاثة تجمع بين الشخص والموقع والمحيط. فلو ظهر جمال عبد الناصر في غير مصر لما استطاع أن يكون عظيماً بدوره ولما كانت تجربته بالقيمة نفسها، كما شرح ذلك الأستاذ محمد حسنين هيكل أكثر من مرّة في كتاباته وأحاديثه. فالعنصر الأهم في قيمة تجربة ناصر هو مكانها، أي مصر، وبما هي عليه مصر من موقع جغرافي يربط آسيا بأفريقيا، وشرق العرب بمغربهم، ولِما كان – وما يزال- لهذا الموقع من أهمّية استراتيجية عسكرية لكلّ من أراد الهيمنة على عموم المنطقة. فحملة نابليون بونابرت في الشرق الأوسط كان مدخلها مصر. ووجود الاستعمار الإنجليزي في المنطقة كان أساسه السيطرة على مصر وقناة السويس. ثمّ كان النفوذ السوفييتي في المنطقة من خلال العلاقة الخاصّة مع مصر، وهكذا كان زواله أيضاً بعدما طرد أنور السادات الخبراء السوفييت وأقام تحالفاً استراتيجياً مع أميركا، كانت أولى إفرازاته معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل، وإخراج مصر من الصراع العربي/الإسرائيلي، وفتح أبواب البلاد العربية والإسلامية لسياسة العلاقات والتطبيع مع إسرائيل.
لقد تميّزت حقبة ناصر بحالة معاكسة تماماً لما هي عليه الآن مصر والمنطقة العربية. وكانت التفاعلات السياسية والاجتماعية التي يحدثها ناصر في مصر تترك آثاراً كبيرة ليس فقط داخل البلاد العربية بل في عموم آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية. وكان ذلك يؤدّي إلى تعزيز دور ناصر وقيمة تجربته خارج حدود مصر. فقوّة ناصر كانت قي قدرته على تحريك الشارع العربي وفي "رجع الصدى" لما يقوله ويفعله في كثير من بلدان العالم.
فلقد أدرك جمال عبد الناصر ما كتب عنه كثيراً المرحوم جمال حمدان عن "عبقرية المكان"، وما كتبه أيضاً المفكّر الراحل عصمت سيف الدولة عن دور مصر الريادي في التاريخ القديم والحديث، وبأنّ مصر لا يمكن أن تعيش منعزلة عن محيطها العربي وعمّا يحدث في جناحيْ الأمّة بالمشرق والمغرب بينما مصر هي في موقع القلب، وبأنّ أمن مصر وتقدّمها يرتبطان بالتطوّرات التي تحدث حولها.
وهذا هو العنصر الثاني من أسباب الاهتمام الدائم بتجربة ناصر. فالاختلال بتوازن مصر وبدورها يعني اختلالاً في توازن الأمّة العربية كلّها، وهذا ما حصل فعلاً بعد وفاة ناصر وبعد معاهدة كامب ديفيد.
لقد ربط القدر بين يوم انفصال سوريا عن مصر عام 1961 وبين أول أزمة صحية تعرّض لها جمال عبد الناصر، ثمّ ربط القدر أيضاً بين وفاته في 28 سبتمبر عام 1970 وبين مناسبة ذكرى الإنفصال آنذاك.
ورغم كل ما قيل وكُتب عن تجربة حكم جمال عبد الناصر في مصر وعن سياسة ثورة 23 يوليو بشأن العمل العربي المشترك، فإنَّ خير شهادة لعبد الناصر كانت أنَّه دفع حياته ثمناً من أجل الحفاظ على التضامن العربي، ولوقف سفك الدماء العربية الّذي كان يحدث في الأردن بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية طوال شهر أيلول/سبتمبر 1970، ولم يكن لهذه المأساة أن تتوقّف لولا الجهود المضنية الّتي بذلتها القاهرة في ظلّ قيادة جمال عبد الناصر وحتى آخر لحظة من حياته.
مات ناصر وهو يحاول وقف انهيار التضامن العربي الذي بنى هو أساساته في مؤتمر الخرطوم عام 1967، والذي توقفت بعده الصراعات العربية/العربية وبدأ السعي لبناء تضامنٍ عربي مقاتل ضدّ العدوّ الإسرائيلي .
مات ناصر وهو يسعى جاهداً لتحويل هزيمة عام 1967 منطلقاً لبناء وضعٍ عربي أفضل، ومن أجل التحرير والتقدّم والتكامل بين العرب .. مات وهو يبني جيشاً استطاع بعد أشهرٍ قليلة من هزيمة 67، أن يبدأ استنزافاً عسكرياً شديداً للعدوّ الإسرائيلي، وأن يعدّ الخطط التي أدّت إلى انتصار حرب تشرين/أكتوبر عام 1973 ..
أمّا العنصر الثالث الذي يشدّ الاهتمام إلى تجربة ناصر بعد 38 سنة من وفاته، فهو مضامين رؤية ناصر وسلوكه الشخصي النزيه وطبيعته القيادية. وهذه كلّها نحتاجها الآن بشدّة في ظلّ أوضاع عربية تسير من سيء إلى أسوأ، ومن هيمنة غير مباشرة لأطراف دولية وإقليمية إلى تدخّل مباشر في بلدان الأمّة، بل في احتلال بعضها كما حدث أميركياً في العراق، وإسرائيلياً في لبنان، وغير ذلك على الأبواب الأفريقية والآسيوية للأمّة العربية.
الأمّة العربية لا تتحدّث الآن عن حلم التوحّد والتكامل بين أقطارها، كما كان الأمر في فترة ناصر، بل هي الآن تعيش كابوس خطر تقسيم كلّ قطر على أسس عرقية وإثنية وطائفية ومذهبية.
الأمّة الآن تخشى على نفسها من نفسها أكثر ممّا يجب أن تخشاه من المحتلين لبعض أرضها والساعين إلى السيطرة الكاملة على ثرواتها ومقدّراتها.
فضعف جسم الأمّة العربية هو من ضعف قلبها في مصر، ومن استمرار عقل هذه الأمّة محبوساً في قوالب فكرية جامدة يفرز بعضها خطب الفتنة والانقسام بدلاً من التآلف والتوحّد.
حبّذا لو يتمّ كسر هذه القوالب المتحجّرة، ولو تُنزَع اللصقات الحزبية والأيديولوجية عن كثير من الغايات النبيلة والتجارب المخلصة، وأن يتمّ وضع قواسم فكرية مشتركة لما تحتاجه الأمّة الآن من عناصر لنهضة عربية جديدة، وأن يتمّ استخلاص الدروس والعبر من تجارب الماضي، بإيجابياتها وسلبياتها، وفيها – كما هو حال التجربة الناصرية- الكثير من الغايات النبيلة والسيرة النزيهة لتجربة اجتهدت وجاهدت كثيراً من أجل خدمة مصر والعرب كلّهم.
الأربعاء، سبتمبر 24، 2008
عن مصر .. لا عن عبد الناصر
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق