الجمعة، سبتمبر 12، 2008

نافذة فرصة خريفية للمفاوض الفلسطيني

نقولا ناصر
لاول مرة رفع المفاوض الفلسطيني التشكيك العلني في امكانية التوصل الى اتفاق مع دولة الاحتلال الاسرائيلي قبل نهاية العام الحالي الى المستوى الارفع عندما اعلن الرئيس محمود عباس تشككه من القاهرة في السادس من ايلول / سبتمبر الجاري ، ثم كرر شكه في مقابلة نشرتها صحيفة هارتس الاسرائيلية في الثاني عشر من الشهر بمناسبة مرور خمسة عشر سنة على توقيع اتفاق اوسلو ، وبالرغم مما يعنيه ذلك من فشل ذريع لما اصطلح على تسميته ب"عملية انابوليس" وبالرغم من ان نهاية العام تحمل معها كذلك انتهاء الولايات الدستورية للشركاء الثلاثة في تلك العملية ، وهم الرئيس الاميركي جورج بوش الابن ورئيس وزراء دولة الاحتلال ايهود اولمرت اضافة الى الرئيس الفلسطيني نفسه ، فان عباس لم تحرجه اسئلة وزراء الخارجية العرب "المحرجة" حول جدوى استمرار المفاوضات اثناء لقائه معهم على هامش الدورة ال (130) لمجلس الجامعة العربية مؤخرا ليؤكد لهم: "يجب ألا نغادر طاولة المفاوضات ، وهذا قرار نهائي" ، على ذمة سفيره في العاصمة المصرية ولدى جامعة الدول العربية نبيل عمرو (الحياة في 11/9/2008) .

لا بل ان الرئيس عباس بعد كل لقاءاته الدورية مع ايهود اولمرت منذ ايار / مايو عام 2007 ، أي قبل مؤتمر انابوليس وبعده ، وبعد ما يزيد على (18) زيارة لوزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس ، اكد لهارتس: "اننا قدمنا افكارنا ومطالبنا الخاصة بست قضايا لكننا لم نتلق أي جواب من الجانب الاسرائيلي ... وللاسف فانه حتى يومنا هذا لم يجر أي نقاش (حولها) في الحكومة الاسرائيلية" ! لماذا كانت كل تلك اللقاءات والزيارات اذن وماذا كان يدور فيها حد ان يقول لهارتس: "حتى في يومنا هذا فانني متاكد بانني ساوقع اتفاقيات اوسلو (لو لم تكن قد وقعت) . لقد خاطرت بحياتي من اجل السلام واذا اضطررت لدفع حياتي ثمنا له فان مثل هذا الثمن ما يزال هامشيا" ! فعلام يراهن عباس ومفاوضوه ؟

انه سؤال تناوله كثير من المحللين والمعلقين دون أي اجابة شافية وافية حتى الان ، وقد استنكف المفاوض الفلسطيني نفسه عن تقديم أي تفسير مقنع يبدد اتهامات المعارضة له بانه يوغل في بيع شعبه امالا خادعة تعلقا منه بوعود اميركية تكرر انكشاف كذبها دون ان يفقد هذا المفاوض ثقته بها منذ فاته موعد تموز / يوليو عام 1999 للتفاوض على قضايا الوضع النهائي وصولا الى الدويلة الفلسطينية الموعودة او المرجوة مرورا بوعد بوش باقامة هذه الدويلة عام 2005 ثم تكرار وعده في مؤتمر انابوليس باقامتها قبل نهاية العام الحالي ، بحيث لم يترك المفاوض الفلسطيني لمعارضيه سوى اتهامه بانه يصر على مواصلة التفاوض ليس فقط لان التفاوض قد تحول الى "مهنة" يحترفها البعض (ياسر عبد ربه لهارتس في 28/2/2008) ويتحول بدونها الى عاطل عن العمل بل الاهم لان استمرار المفاوضات كان منذ انطلاقها في مؤتمر مدريد عام 1991 هو المسوغ الوحيد لتجميد وتهميش المؤسسات التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية ولحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" التي تقودها قبل ان يتحول الى المسوغ الوحيد للانقسام الوطني الفلسطيني منذ فوز حركة المقاومة الاسلامية "حماس" في انتخابات عام 2006 التشريعية ولان وقف المفاوضات سيفتح الباب واسعا لتفعيل مؤسسات المنظمة وحركة فتح ولاستعادة الوحدة الوطنية بكل ما يعنيه ذلك من تغييرات قيادية وسياسية جذرية يرفضها المستفيدون من اطالة امد الوضع الراهن ويبذلون قصارى جهودهم لعدم اجراءها .

لقد رشحت ثلاث مؤشرات خلال الاسبوع الماضي ربما توضح بعضا مما يراهن عليه المفاوض الفلسطيني وتسوغ استمراره فيما ادمن عليه من اللهاث وراء السراب الاميركي ، اولها ان ادارة بوش تخطط لاصدار "رسالة ضمانات" قبل انتهاء ولايتها تتعهد فيها الولايات المتحدة بدعم أي اتفاقيات يتم التوصل اليها في المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية الحالية بهدف الزام الادارة الاميركية الجديدة التي ستخلفها ودولة الاحتلال الاسرائيلي وسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني بها ، وفي هذا السياق يمكن فهم تصريح القنصل الاميركي في القدس جاكوب والاس لصحيفة الايام يوم الاربعاء الماضي عن موافقة الجانبين المتفاوضين "على التفاوض" حول القدس وهو التصريح الذي سارعت وزارتا الخارجية في واشنطن وتل ابيب الى نفيه في اليوم نفسه ، وقالت "وورلد نت ديلي" التي اوردت الخبر يوم الخميس الماضي انها حصلت ايضا على نسخة من "خطة اميركية" تمنح "بعض السيادة البلدية والامنية على احياء عربية رئيسية في القدس الشرقية تسمح باعادة فتح بعض المؤسسات الرسمية في القدس وبامكانية انتخاب رئيس لبلدية الجانب الفلسطيني من المدينة وبنشر نوع مما يسمى قوة امنية اساسية للحفاظ على القانون والنظام" ، وربما تكون هذه الخطة هي مصدر اقتراح مماثل اعلنه مؤخرا وزير الحرب الاسرائيلي ايهود باراك ورفضه الرئيس عباس ، وربما تكون هذه ايضا هي بعض "الافكار الجديدة" التي عرضتها رايس خلال زيارتها الاخيرة لرام الله ، كما قال المتحدث باسم الرئاسة نبيل ابو ردينة ، واثارت "التفاؤل" في اوساط الوفد الفلسطيني المفاوض ، وربما يكون هذا جميعه او بعضه هو ما يراهن الرئيس عباس على استيضاحه من جورج بوش عندما يلتقيه في (26) الجاري في نيويورك .

ويتمثل المؤشر الثاني في مراهنة المفاوض الفلسطيني على فوز رئيسة الوفد المفاوض ووزيرة خارجية دولة الاحتلال تسيبي ليفني بزعامة حزب كاديما الذي يقود الائتلاف الحاكم الحالي وبالتالي بخلافة اولمرت في رئاسة الحكومة ، اولا لان فوزها لن يؤثر في "التقدم" الذي احرزته المفاوضات ، وهو التقدم الذي كرر اولمرت وليفني ورئيسهما شمعون بيريس وغيرهم الاشارة اليه وكرر قريع نفسه وغيره من مفاوضيه نفيه ، وثانيا لان مواقفها "متقاربة نسبيا" مع المواقف الفلسطينية ، وثالثا لان شاؤول موفاز وافي ديختر ، "الخبيرين الامنيين" المنافسين لها ، ليسا مناسبين من التجربة السابقة معهما ، كما قال نظير ليفيني الفلسطيني احمد قريع لمجموعة من صحفيي 1948 الفلسطينيين التقاهم في منزله بابو ديس الاسبوع قبل الماضي ، ولم ينس قريع تحذيرهم بان "هذا يجب الا يظهر في وسائل الاعلام الاسرائيلية حتى لا يضر ذلك بالمصالح الفلسطينية" ، التزاما منه بموقف المفاوض الفلسطيني الرسمي "بعدم التدخل في الشؤون الداخلية الاسرائيلية" بالرغم من تدخل الاسرائيلي سرا وعلنا في كل صغيرة وكبيرة من الشان الداخلي الفلسطيني . وكان الرئيس عباس قد استبعد علنا باراك كشريك في المفاوضات ، اما بنيامين نتنياهو المنافس الاقوى لكل هؤلاء في أي انتخابات مقبلة فان فوزه كما يقول معظم المراقبين والمحللين سيكون ضربة مميتة لعملية انابوليس . ومما يسند هذا المؤشر الرسالة التي وزعتها ليفني على اعضاء "كاديما" عشية انتخابات الحزب يوم الاربعاء في السابع عشر من الشهر الجاري وتعهدت فيها بالعمل من اجل "توقيع اتفاق وضع نهائي" ووعدت بالعمل من اجل "الوصول الى اتفاق دائم عبر الحوار مع الفلسطينيين البراغماتيين بينما تناضل بحزم ضد المتطرفين الفلسطينيين" !

اما المؤشر الثالث فقد كشف عنه الشريك الاسرائيلي في "مبادرة جنيف" يوسي بيلين في مقال له بهارتس يوم الخميس الماضي ويتمثل في ما اسماه "نافذة الفرصة" الخريفية بين شهري تشرين الثاني / نوفمبر 2008 وكانون الثاني / يناير 2009 حيث ما زال "الامل" فيها باقيا كي يحاول بوش الوفاء بوعود انابوليس ، لان سلفه بيل كلينتون قد استغل نافذة الفرصة الخريفية ذاتها في اواخر عهده لتقديم رؤيته لحل نهائي في قمة كامب ديفيد عام الفين ، ولان نظيره السابق رونالد ريغان استغل ايضا النافذة الخريفية اياها في نهاية ولايتيه للاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية . ومما لا شك فيه ان بيلين قد سوق "اماله" لدى المفاوض الفلسطيني في رام الله عندما زارها الاسبوع الماضي ليعلل هذا المفاوض نفسه بمزيد من الامال الاميركية التي لم تترك تجربة الستين عاما المنصرمة مجالا لاحد للشك في خداعها ، ربما باستثناء هذا المفاوض الذي لا يترك له بائعو وهم السلام فرصة لالتقاط انفاسه للاسترشاد بمرجعياته الوطنية ومؤسساتها كما بنبض جماهيره من اجل اجراء مراجعة شاملة لمسيرة مفاوضات عقيمة كانت نتائجها معاكسة بشكل قاطع لاهدافها المعلنة حيث يترسخ الاحتلال بدل ان يتفكك وتبدو الدويلة الموعودة ابعد منالا بدل ان تظهر حتى لبناتها الاولى الى الوجود . وفي هذا السياق تاتي زيارة ممثل الاتحاد الاوروبي خافير سولانا الذي كان من المقرر اجتماعه مع الرئيس عباس وكبير مفاوضيه ورئيس وزرائه يوم الجمعة ، فقد عود سولانا المفاوض الفلسطيني على ان يقفز متدخلا كلما وصل التفاوض الى طريق مسدود ، خصوصا عندما تتوقف حركة الوسيط الاميركي لهذا السبب او ذاك ، كما يحدث حاليا مع انطلاق حملة انتخابات الرئاسة الاميركية ، لكي يبقى وهم السلام حيا ولكي يمد المفاوض الفلسطيني بطاقة جديدة لمواصلة لهاثه وراء السراب الاميركي الخادع ، وكم يتمنى هذا المفاوض وشعبه لو يقفز سولانا متدخلا لمرة واحدة لكي يمارس سياسيا ما للاتحاد الاوروبي من وزن اقتصادي ولكي يضع اليد الاوروبية حيث جيبها ولسانها .

ان المفاوض الفلسطيني يسبح واهما وراء سراب خادع ضد تيار جارف في الاتجاه المعاكس يهدد القضية الوطنية باوخم العواقب ، تيار يراهن على استمرار الوضع الفلسطيني الراهن ، وتظل "نافذة الفرصة" التي يوهمونه بها خريفية ليس من المتوقع ان تنبت أي زرع ، حيث تتخذ "الاحداث على الارض ... منعطفا مختلفا اختلافا حاسما ... واحتمالات أي عملية سلام ذات مصاقية تبدو بعيدة ووهمية كما كانت دائما" كما خلصت مجموعة الازمات الدولية في تقرير لها يوم الخميس الماضي ، وحيث "عملية السلام في شكلها الحالي محكوم عليها بالفشل عمليا ... بسبب غياب أي دبلوماسية رسمية اميركية ، وبسبب رفض الاطراف الاعتراف بالحقائق السياسية الفلسطينية للتعامل مع حماس ، ولان السياسيين في الولايات المتحدة واسرائيل منشغلون بكل قضية اخرى تحت الشمس فانه سيتم بهدوء وضع ما يسمى – عملية انابوليس – للسلام في الشرق الاوسط ... على الرف" كما خلص مركز "اوكسفورد اناليتيكا" الى القول في نشرته للاسبوع من 13 – 19 الشهر الجاري .

*كاتب عربي من فلسطين

nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات: