الجمعة، سبتمبر 19، 2008

ازمة "الشرعية" الفلسطينية سياسية لا قانونية

نقولا ناصر

مثل عاصفة في فنجان يدور حاليا جدل "قانوني" فلسطيني عاصف ساخن حول "الشرعية" الفلسطينية بعد التاسع من كانون الثاني / يناير المقبل من اجل الحيلولة دون حدوث "فراغ دستوري" او "فراغ في القيادة" بعد ذلك التاريخ ، وهي عاصفة تغيب حقيقة ان الازمة التي تطيل امد الانقسام الوطني الراهن هي في المقام الاول ازمة سياسية لا قانونية بقدر ما تغيب حقيقة ان القيادة الفلسطينية قد استمدت شرعيتها التي فوضتها بصنع القرار الوطني من المقاومة اصلا لكن هذه المرجعية قد استبدلت الان باستمرار التزامها بالتفاوض كمرجعية اولى واخيرة للاعتراف بها قيادة شرعية لشعبها ، بغض النظر عن كل التفسيرات الذاتية .

ويتصاعد الجدل "القانوني" بين قطبي الانقسام الفلسطيني مع اقتراب انتهاء الولاية "الدستورية" للرئاسة الفلسطينية في التاسع من كانون الثاني / يناير المقبل وكلا القطبين يحاول نفي وقوع "فراغ دستوري" او "فراغ في القيادة" ويحاول استنباط كل ما في "القانون الاساسي" والقوانين الصادرة من اسانيد يمكن ان تدعم "شرعيته" بعد ذلك التاريخ ، ويتجاهل الجانبان ان القانون الوحيد الذي ما زال نافذا هو قانون الاحتلال وبالتالي فان الازمة المستعصية بينهما ليست قانونية بل هي ازمة سياسية اولا واخيرا تدور حول الموقف من الاحتلال وحول التفاوض مع المحتلين ام مقاومتهم وحول جدوى التفاوض والمقاومة واهدافهما وشروطهما واساليبهما ، الخ .

ويعجب المواطن الفلسطيني وهو يرى الادبار عن مقاومة الاحتلال حد اتهامها بالارهاب والتعامل معها كذلك ، وهي المقاومة التي جفف المفاوض الفلسطيني كل اشكالها باسم تطبيق "القانون والنظام" ويسعى جاهدا لتجفيف ما تبقى منها باستثناء ما يحب ان يسميه "الاشتباك" التفاوضي ، بالرغم من التكرار الممجوج في الخطاب السياسي لهذا المفاوض لاسطوانة الشرعية الدولية ، التي ينص "دستورها" المتمثل بميثاق الامم المتحدة على شرعية مقاومة المحتلين بكل اشكالها ، بينما يتابع هذا المواطن في الوقت نفسه الاقبال اللاهث على السلطة والعمل من اجلها كانها دائمة ابدا ، في حين ما زالت تفاصيل اجتياح الاحتلال لها في ربيع عام 2002 ثم محاصرة رئيسها بالدبابات في غرفة نومه حية في وعيه وفي احلامه على حد سواء .

وقد تحول الالتزام بالتفاوض الى ما لا نهاية الى مرجعية لمنح الشرعية لاي قيادة فلسطينية تلتزم به والاعتراف بها كقيادة للشعب الفلسطيني وك"شريك" في المفاوضات ، حد ان يتحول مثل هذا الالتزام الى قانون يسمو على كل ما عداه من القوانين التي يتجادل المتجادلون الفلسطينيون بها وحولها الان لانه كما قال احدهم (اليكس فيشمان - "يديعوت احرونوت" الاسرائيلية في 15/9/2008): "القانون الحديدي الذي تجذر منذ اوسلو: السياسيون في الشرق الاوسط ملزمون بإجراء مفاوضات ولكن من المحظور عليهم الوصول الى الهدف . التفاوض يعني البقاء في الحكم ، اما اتخاذ القرارات فيعني الموت السياسي . الوصفة الموثوقة لضمان حياة طويلة للسياسيين هي مفاوضات عقيمة" -- كالمفاوضات التي يجري حاليا تطويع القوانين الفلسطينية من اجل الاستمرار فيها بالرغم من شبه الاجماع الوطني على ضرورة وقفها .

والمفارقة التي يتحاشى المتجادلون حتى الاشارة اليها هي ان سلطة الحكم الذاتي ومجلسها التشريعي نفسه الذي شرع القوانين التي يتذرع المتجادلون بها لمواصلة الانقسام هما مؤسستان مؤقتتان اوكلت اليهما صلاحيات الادارة المدنية للحاكم العسكري للاحتلال في اجزاء فقط من القطاع والضفة (مناطق "الف" و "باء") اثناء التفاوض عل اتفاق دائم على قضايا الوضع النهائي فات الموعد المحدد له في تموز / يوليو 1999 لتنهار عملية التفاوض وتندلع الانتفاضة الوطنية الثانية في العام التالي بينما بقيت المؤسستان بصفتهما المؤقتة زمنيا والمجتزاة جغرافيا ، ليتحول المؤقت الى وضع دائم والمجتزأ الى اساس لترتيبات اقليمية جاءت "الرؤية" الاميركية لتعد باضفاء صفة الديمومة عليها في شكل دويلة ، يامل المفاوض الفلسطيني في تطويرها الى دولة لكن الوعد الاميركي ما زال حتى الان سرابا يغذي اوهام هذا المفاوض .

والمفارقة الثانية التي تغيبها سخونة الجدل القانوني المحتدم حاليا هي التناقض الصارخ الكامن في الشرعية "الدائمة" التي يجهد المتجادلون من اجل الحصول عليها لانفسهم استنادا الى المرجعية "المؤقتة" للسلطة ومجلسها التشريعي المنبثقين من "الاتفاقيات الموقعة" -- المؤقتة والانتقالية -- مع دولة الاحتلال الاسرائيلي بينما يجري تجاهل المرجعية المفترض انها دائمة للسلطة ومؤسساتها المتمثلة في منظمة التحرير الفلسطينية التي وقعت تلك الاتفاقيات باسمها اصلا ، ويتفرع عن هذه المفارقة مفارقة ثالثة تتمثل في محاولة لجوء الرئاسة الفلسطينية الى ما تبقى من المؤسسات المحنطة لمنظمة التحرير ، التي جمدت الرئاسة الفلسطينية مؤسساتها التمثيلية وهمشتها منذ وقعت تلك الاتفاقيات ، لتستمد منها شرعية لتمديد ولايتها كما يشير الاجتماع المقرر للمجلس المركزي الفلسطيني في تشرين الثاني / نوفمبر المقبل الذي دعي للانعقاد لتجديد الثقة في الرئيس محمود عباس كرئيس لسلطة الحكم الذاتي وتفويضه باجراء انتخابات رئاسية وتشريعية .

وهذا الاحتكام المناور الى مرجعية المنظمة في سياق التغول المستمر والمتصاعد للسلطة على المنظمة منذ توقيع اتفاق اوسلو يقود الى مفارقة رابعة تتمثل في حقيقة ان فريق الرئاسة الحالية كان قد نازع الرئاسة السابقة على صلاحياتها في ذروة الحصار الذي فرضه الاحتلال عليها بعد اجتياح عام 2002 حتى نجح في تعديل "القانون الاساسي" في العام التالي ، وهو التعديل الذي اخذ من صلاحيات الرئاسة لصالح رئاسة الوزراء ، وقد انقلب هذا الفريق على موقفه السابق باتجاه تعزيز صلاحيات مؤسسة الرئاسة بعد ان تسلم مقاليدها كمقدمة ضرورية للانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية في اوائل عام 2006 التي تمخضت عن ازدواجية في القيادة السياسية كان المنطقي ان تقود الى وحدة وطنية على اساس الشراكة لكن الاحتكام الى مرجعية التفاوض و"الشرعية" المنبثقة عنه قاد بدلا من ذلك الى الانقسام الحالي الذي يستمر فقط بسبب الاستمرار في الاحتكام الى مرجعية الشرعية التفاوضية واستمرار رفض الاحتكام الى المقاومة والوحدة الوطنية كمرجعيتين وحيدتين للشرعية الوطنية ، بالرغم من استمرار الاحتلال .

ان استمرار المتجادلين في معاركهم القانونية "الدونكيشوتية" لا يزيد على كونه حرثا في بحر يعبر فقط عن ارادة مصممة على الهروب من مواجهة حقيقة ان ازمة الشرعية الراهنة هي ازمة سياسية لا قانونية ، وانها ازمة ناجمة اصلا عن ارادة مصممة كذلك على الهروب من مواجهة الحقيقة التي انبثقت عن الانتخابات التشريعية الاخيرة بان حقبة احتكار صنع القرار الوطني من قبل فصيل واحد قد انتهت لتبدا مرحلة جديدة تقوم الوحدة الوطنية فيها على اساس الشراكة ، وبان "البرنامج الوطني" الذي انفرد فريق من ذاك الفصيل بوضعه ، بالرغم من ديكور "التعددية" الفصائلية التي انساقت معه او رضخت له ، هو برنامج مثله مثل المفاوضات المنبثقة عنه سوف يستمر فقط بالتوافق الوطني على استمراره او تعديله او تغييره بالكامل ، بغض النظر عن نتائج أي انتخابات تجري في ظل الاحتلال وبموافقته ، لان التوافق الوطني على قاعدة المقاومة والوحدة الوطنية سوف يظل هو المرجعية الوحيدة لمنح الشرعية لاي قيادة واي برنامج سياسي واي انتخابات طالما الاحتلال قائم وطالما قانونه هو القانون النافذ الوحيد .

والمواطن الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال يترك في الاغلب كل هذا الجدل القانوني الصاخب بين القطبين للنخب الضالعة فيه ، لانه يرى فيه عاصفة في فنجان ومظهرا من مظاهر الصراع المجاني على سلطة ما كانت لتستمر لو قرر الاحتلال عدم استمرارها ومظهرا من مظاهر الانتحار الذاتي ، لان القانون الوحيد الذي يراه هذا المواطن ما زال نافذا بقسوة هو قانون الاحتلال وحده ، سواء في قطاع غزة المحاصر ام في الضفة الغربية حيث قوات الاحتلال ومستوطنوه يصولون ويجولون دون ان يردعهم أي قانون "فلسطيني" او شرعية دولية بينما تسهل مهمتهم القوانين نفسها التي يحتج المتجادلون باسانيد منها في مكابرات لفظية لا يرى فيها هذا المواطن سوى مسوغات يتسلح بها محامون سياسيون لا يرى فيهم بدورهم سوى محامين عن شيطان الانقسام .

*كاتب عربي من فلسطين

nicolanasser@yahoo.com*

ليست هناك تعليقات: