د. صلاح عودة الله
عندما كنت طفلا أحببت كثيرا الجلوس والاستماع الى "خراريف" جدي رحمه الله..كانت هذه" الخراريف"مشوقة جدا, ومع وصفي لها بهذا الوصف الا أنه بامكاني القول بأنها علمتني الكثير من الأمور ومن أهمها جزءا لا بأس به من تاريخ قضية شعبنا الفلسطيني كما رواه وعايشه جدي..أي أنه بعيدا كل البعد عن التزوير..كان جدي يحدثني دائما عن الوطن المسلوب والحنين اليه..عن الأرض فهي كالعرض لا يمكن التفريط به..كان يحدثني عن النكبة والتهجير واللاجئين..عن المجازروالمذابح التي ارتكبتها عصابات الصهاينة بحق ابناء شعبنا..وكان يحدثني كثيرا عن الثوار ومقاومتهم للاستعمار البريطاني والصهاينة بسلاحهم البدائي,وعن سلاحهم الأقوى من كل شيء..الارادة والوحدة والتصميم..أعمال بطولية كان يقوم بها الثوار, وكان هؤلاء يدعمون الثورة وبشتى الوسائل كل حسب طاقته ولا يبخلون..كان يقول لي كيف كانت جدتي تقوم ومع باقي النسوة بأخذ القوت للثوار ليلا وهم متمركزون في مخابئهم في الجبال..نعم انها اعمال بطولية لا مثيل لها..ومما كان يردده جدي من أقوال وبكثرة قوله"خايف يا ولدي انو ييجي اليوم واللي تشوفو فيه انتو واولادكم انو كل اللي عملناه يروح بشربة مي"..! اه يا جدي, كما كنت صادقا في "خراريفك" وتخوفاتك؟ فاليوم وبعدنا ما زلنا في مرحلة الثورة والتحرر ولكن الفرق شاسع جدا,فبدلا من أن نقوم بالتضحية من أجل القضية التي ضحيتم واستشهدتم من أجلها..في أيامنا هذه الكل يحاول ان يأخذ ويسرق وينهب بدلا من أن يعطي..انهم اناس قاموا بوضع وتنصيب انفسهم قادة على هذا الشعب المسكين, فوضعوا مصالحهم الشخصية والفئوية الضيقة فوق كل اعتبار..لقد اصبحت المصالح الوطنية العليا أمرا ثانويا بل أمرا لا قيمة له..! لقد كان جدي اميا لا يعرف القراءة والكتابة, لكنه كغيره وهم كثر كانوا ثوارا بكل ما في الكلمة من معنى, والسؤال الذي يطرح نفسه,هل كان جدي يتقن فن قراءة الفنجان؟ وهل كان جدي يعلم بما سيقوله القائد الأممي تشي جيفارا"الثورة يصنعها الشرفاء ويستغلها الأوغاد"؟ وهل كان يعي ما سيقوله الشهيد كمال ناصر"سيأتي عليكم يوم تصبح فيه الخيانة مجرد وجهة نظر"؟ أو ما قاله اخر"سيأتي عليكم يوم تصبح فيه مقاومة العدو ارهابا,والعملاء مجرد نشيطين في حقوق الانسان"؟. فعلا,ما اصغر الدولة وما اعظم الثورة وما أكثر الأوغاد والمستغلين..الثورة تتدحرج واحيانا تتعثر ولا تواصل تقدمها، المطبات والمنعطفات، والحواجز تستوقفها فتتراجع، من هنا فان مواصلة دفعها الى امام هو فن وصناعة ثورية شعبية، لا خامات لها غير جسد يتماهى مع روحه الواثقة من طريقها، ويوميات البحث كفيلة بالصهر والتعدين، والصقل والاستقطاب والترويج..الثورة صراع ارادات وكلما كانت ارادة الثوار متلاصقة بحلمها كلما كان النصر حليفها، وارادة العدوتتآكل كلما صقلت ارادة الثوار باحتكاكات صادقة ومخلصة مع الاهالي. وكم كان جيفارا صادقا عندما قال مقولته الشهيرة: "الثورة قوية كالفولاذ، حمراء كالجمر، باقية كالسنديان، عميقة كحبنا الوحشي للوطن..لا يهمني متى واين سأموت لكن يهمني ان يبقى الثوارمنتصبين ويصدحون في الارض ضجيجا كي لا ينام العالم بكل ثقله فوق اجساد البائسين والفقراء والمظلومين". لقد ختمت النبوة السماوية لكن النبوة الثورية لا تختم، فجنتها ونارها على الارض, وحادي عيسها الهاما ورمزا لا يأفل ابدا, قيامتها ثوار فلسطين الحقيقيون وحشرها حشرهم وميزانها ميزانهم..هكذا كانت الثورة وهكذا هي اليوم ورحم الله"أيام زمان" وجدي وجميع ثوار فلسطين..!
----**منذ نعومة اظفاري اعرف انني انتمي وبفخر لشعب اسمه شعب فلسطين..فلسطين,هذا"الوطن" الذي يمتد من النهر الى البحر..هذا ما علمني اياه جدي ووالدي رحمهما الله..ومن بعد, هذا ما رسمته واقتنعت به ولم ولا ولن ارضى عن غير ذلك..لكن التاريخ المزور والذي كتبه المزورون والذين لا تاريخ لهم كان لهم رأيا اخرا..فمن فلسطين التاريخية حاولوا وما زالوا أن يقنعونا بأن حدود الوطن قابلة للتغير تبعا للظروف والتطورات الحضارية وكأننا نتحدث عن علم "الحاسوب". عندما كنا نقول فلسطين,فلن المخيلة كانت تتفتق صورا وخيالات..ومن اسهلها وابسطها أن للفلسطينيين الأرض والشمس والقدس والساحات والبيوت العتيقة..وعلى أرضها الطاهرة يوجد ذاك الصبي الربيعي القابض على حجره الذي هو سلاحه البسيط الوحيد والذي يقوم برميه على الجندي المدجج بالسلاح الفتاك والكراهية والحقد وأوامر تكسيرالعظام والتدميروالقتل..وخارجها نرى ابنة التسعين ونيف العاضة بما تبقى لها من أسنان(ان تبقى..) على مفتاح العودة, وعلى جسدها الثوب الشعبي الذي ,وان صار كالخرقة البالية, لكن الوانه لا تنمحي ابد الدهر. الان اذا قيل فلسطين, قيل ماذا تقصدون..؟فلسطين الواقعة على حدود الأردن"الضفة الغربية لنهر الأردن", أم فلسطين المجاورة لمصر"قطاع غزة"..؟ اذا قيل فلسطين, قيل نعرفها تمام المعرفة..هي فلسطين التي يقوم ابنها بالاعتداء على نفسه, ويقوم باشهار سلاحه بوجه نفسه, ولم يقم بالاكتفاء بالحكم الصادرعليه بالاعدام مع التنفيذ أنى شاء سلاح الاخرعلى الطرف الاخر,واثر أن يشارك الاخر في حصته من الدم الفلسطيني التي لم يأخذها كلها بعد ولم يقم بالرحيل..بل يطلب المزيد..! في يوم الخميس السادس عشر من ايلول عام 1982 ارتكبت ميليشيات الكتائب اللبنانية العميلة وبتغطية صهيونية"شارونية" مجزرة بحق مخيمي صبرا وشاتيلا..مجزرة استشهد فيها الالاف من الفلسطينيين..انه يوم الخميس الأسود..كما هو "أيلول" الأسود, وكثيرة هي الأيام السوداء في تاريخ شعبنا الفلسطيني..والى هؤلاء الشهداء أقول,في هذا اليوم انقضت عليكم عصابات المجرمين وقامت بتسخير كل ما لديها من ادوات للقمع والقتل والتنكيل,وكأنكم لستم بشرا على الاطلاق ولا حق لكم بالحياة على الأرض بعد أن كانت لكم أرض تستحقون انتم وحدكم ولا أحد غيركم الحياة عليها..والنتيجة أنها جعلتكم صرعى كأعجاز نخل خاوية لا فائدة منها..وعليكم أن تحمدوا الله وتشكروه على نعمته هذه, لأنكم غادرتم هذه الحياة قبل أن تقوموا بمشاهدة ومعرفة ما حصل لوطنكم..وطنكم الجريح أصلا, فلسطين..هذا الوطن جريح هذه المرة والفاعل هو أبناؤه..حتى عبارة "وتصبحون على وطن", فقد اخوتكم بل أفقدوها معناها..فالوطن أصبح الان دويلتان أو امارتان لا حول ولا قوة لهن بجواردولة كبرى عاتية وقوية قامت على وطن لكم..كان أسمه"فلسطين"..!. هل ما زلتم تتذكرون يا شهداء صبرا وشاتيلا كيف كانت الوجهة الحقيقية للسلاح الفلسطيني؟هل ما زلتم تسمعون عن بنادق غسان كنفاني والتي لها اتجاه واحد وهو صدر العدو؟ وهل ما زال صدى الشعارالمشهور"المخذول" مسموعاً بين قبوركم: "حرمة الدم الفلسطيني"..؟ في أيامنا هذه كل الأمور اخنلفت واختلط الحابل بالنابل..في أيامنا هذه يجوزكل شيء ولا شيء محرم سوى الدفاع عن الوطن..يجوزللفلسطيني ، الذي له سلطة"بفتح السين واللام" وليست له دولة، أن يقيم دويلتين تبغي إحداهما على الأخرى ولا تفيء إحداهما إلى المصلحة الوطنية الأسمى ، ولا تريدان أن تجنحا للسلم وتغليب مقام الوطن على أرجل الكراسي..وبعد كل ما ذكرت وهذا جزء بسيط من واقعنا المأساوي, هل ما زلتم مصرين على العودة الى الحياة؟. في أيامنا هذه كل شيء تغير وبقدرة قادر..الان كل شيء غير الذي كان..فلنا علمان, الأول علم يتغير وأحرفه تتبعثر,فلا يجرؤون على قول"فلسطين".. فلسطين الان هي عبارة عن"دويلة الضفة الملونة", و"امارة غزة الخضراء".. نعم..فلسطين الآن دويلتان وحكومتان ولكن بلا وطن ، وصلاتان واحدة فرض ورثها البعض عن الأنبياء، والأخرى خارجة على القانون..فلسطين الآن عَلَمان ودستوران..هي حركة باتجاه الموت والانتحار وليس صوب الولادة والانبعاث..فلسطين الآن أهداف تشرى بأل"فلس"، وأخرى دُفِنت في ال"طين"..هذه هي فلسطين اليوم يا شهداء صبرا وشاتيلا..فناموا قريري العيون ولا تفكروا أبدا بالعودة الينا..لأنه لم يبق على هذه الأرض ما يستحق الحياة..مع معذرتي لشاعرنا العظيم الراحل محمود درويش..واعلموا أيضا حتى وان كنتم ما تزالوا مصرين على العودة فلا يوجد لكم حق بذلك, لأننا تنازلنا عن حق كان اسمه يوما ما"حق العودة" واللاجئين, وذلك لنقوم بارضاء أسيادنا الذين وعدونا بكيان مستقل..فكيف لا نكافئهم على ذلك الوعد؟ ***ان ما دعاني لكتابة ما كتبت هو انه قبل بضعة أيام دار حديث بيني وبين سائق سيارة أجرة فلسطيني مقدسي لا أعرفه, ومن بين ما تناوله حديثنا موضوع حق العودة..وكان رده هو التالي:"الفلسطينيون مساكين ما زالوا يحلمون بهذا الحق..لقد باعوا ما باعوا لليهود وما يزالون على نفس الدرب سائرين..زعماء السلطة تنازلوا عن هذا الحق,ويأتيك شخص يحمل ويحتفظ بمفتاح"أطول منه ومصدي" ويقول لك بأنه مفتاح بيته في بلدته الذي اغتصبها اليهود..واذا قمت بالبحث عن هذه البلدة لن تجد لها موقعا أو أثرا, فقد قاموا بمسحها عن الوجود..قال حق عودة قال..اتركونا بحالنا وخلينا نعيش"..! وصلت الى المكان الذي أردت وبعد أن دفعت الأجرة غادرته ولسان حالي يقول:ان هذا الانسان البسيط لا يمكنه التفكير بهذه الطريقة الا اذا كان فعلا يرى ويتابع ما يجري من نقاشات ومداولات حول هذا الحق وخاصة في الفترة الأخيرة..وبالرغم من كل ذلك اتمنى أنها حالة عرضية ولا يتصف بها الا ما ندر من أبناء شعبنا..حتى لا ينطبق علينا قول من قال:اذا كان رب البيت بالدف ضاربا**فشيمة أهل البيت كلهم الرقص..! وفي نهاية حديثي أقول:ان مجزرة صبرا وشاتيلا وغيرها الكثير من المجازرالتي ارتكبت بحق أبناء شعبنا ستبقى نقطة سوداء في سجلات العدالة وشاهداً يصرخ في وجه القتلة ، يشير إليهم والى كل هذا الخزي والعار الذي لحق بالضمير العالمي وان على مذبح مصالح الأمم تنحر حقوقنا وتهدر يومياً ، وتؤكد أن شعب هذه الامة لن يركع ولن يستسلم لمخططاتهم ، لن يسمح للخونة وتجار الدم بالعبث بمصيره ومهما فعلوا لازالة الشرفاء والاحرار سيبقى منا الكثير الكثير يحمل مسؤولية التصدي ومتابعة الصراع..!
-القدس المحتلة
الجمعة، سبتمبر 26، 2008
ما أعظم الثورة..ما أصغر الدولة..وما أكثر الأوغاد؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق